1 – أجندة الحرية

عندما أشرقت شمس يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، لم يكن أحد في عالمنا ليتصور أن هذا اليوم، الذي بدأ بشكل اعتيادي تماما بالنسبة لأكثر الناس، سيقدر له أن يسجل في تاريخنا المعاصر كنقطة تحول فارقة. اليوم، يمر عقدان من الزمن على ذلك الصباح الذي تابع فيه الملايين حول العالم على الهواء مباشرة التطورات غير القابلة للتصديق لأحداث هذا اليوم، فما بدا أولا كحدث عجيب وغير مفهوم، عندما اصطدمت طائرة ركاب ضخمة بأحد برجي التجارة العالمية في مدينة نيويورك الأمريكية، تحول بسرعة إلى كابوس غير مسبوق، عندما تتابعت الهجمات المماثلة فاصطدمت طائرة أخرى بالبرج الثاني، وثالثة بأحد جوانب مبنى وزارة الدفاع الأمريكية، بينما سقطت طائرة رابعة قبل أن تصل إلى هدفها الذي كان مبنى الكابيتول هيل (مقر الكونجرس الأمريكي).

هجمات الحادي عشر من سبتمبر كانت شرارة اندلاع الحرب على الإرهاب. حرب عالمية من نوع جديد، أوسع نطاقا من أي حرب سابقة، وأكثر تركيبا وتعقيدا من أن يوفيها مصطلح “حرب” حقها. فهي لم تكن مجرد نزاع مسلح انخرطت فيه عدة أطراف، ولم تكن فقط سلسلة من التدخلات السياسية والأمنية لم تترك مكانا بالعالم لم تصل إليه، ولكنها كانت المحرك وراء تغييرات سنحتاج إلى سنوات للتعرف على مدى اتساعها وعمقها. لقد كانت باختصار بداية حقبة جديدة من تاريخ هذا العالم.

ربما يبدو أنه مع اكتمال الانسحاب العسكري من أراضي أفغانستان، لقوات التحالف الذي قادته الولايات المتحدة قبل 20 عاما لغزو واحتلال هذا البلد المنكوب، ومع عودة طالبان إلى السيطرة على كامل أراضيه، قد أتم تاريخ الحرب على الإرهاب دورة كاملة عادت معها الأوضاع إلى ما كانت عليه وكأن شيئا لم يكن. ولكن الحقيقة التي يدركها الجميع أن لا شيء بقي على حاله كما كان قبل ذلك الصباح الدرامي منذ عقدين. لم تترك الحرب مكانا على الأرض لم تمسه، ولكن بلدانا في مقدمتها أفغانستان والعراق قد نالت أكثر كثيرا من النصيب العادل في تبعات هذه الحرب، وكلاهما تنتميان للمنطقة من العالم، التي يطلق عليها البعض الشرق الأوسط الكبير، والتي كانت بالتأكيد في مركز الإعصار الذي ضرب عالمنا طوال عقدين ولم تزل رياحه تعصف به حتى اليوم، حتى وإن بدا أنها قد هدأت كثيرا عما كانت عليه في البداية. لقد كان لهذه الحرب آثارها المدمرة على حيوات الملايين من البشر، واتسعت لتشمل أغلب نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لعشرات الدول. وبينما نعد ضحايا الحرب من البشر والحجر، ربما ينبغي أن نعد بينها أيضا أحلام شعوب منطقتنا في مستقبل أفضل، وبعض من هذه الأحلام الضائعة يتعلق بالإصلاح الديموقراطي، والذي يبدو اليوم، بالنسبة لأغلب دول المنطقة، أبعد منالا مما كان عليه قبل 20 عاما. فأي قدر من المسؤولية يمكننا أن نحمله للحرب على الإرهاب عن تراجع أحلام التحول إلى الديموقراطية في مصر على وجه التحديد؟

أمريكا تنسحب من أفغانستان بعد 20 عاما

هذا السؤال خلافي في حد ذاته، بمعنى أن كثيرين سيجادلون في إمكان طرحه من الأساس، من منطلق أنه يبدو من نوع تلك الأسئلة التي تهدف إلى أن نلقي بمسؤولية فشلنا المحلي على عاتق عوامل خارجية مع التنصل من أن يكون لنا يد فيها. ومن ثم، فما أسعى إلى تحقيقه في السطور التالية ليس محاولة لإجابة السؤال بقدر ما هي محاولة لاستطلاع جدوى طرحه، وسأعتمد في ذلك على ثلاثة محاور أساسية يمكن من خلالها استكشاف مدى الأثر الذي أحدثته الحرب على الإرهاب في حظوظ وإمكانية تحقيق إصلاح ديموقراطي في مصر. هذه المحاور هي: (1) الضغط المباشر لإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش على نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك لمحاولة دفع الإصلاح الديموقراطي في مصر، في إطار مبادرة “أجندة الحرية”، (2) الضغوط التي شكلتها تبعات وعواقب التغييرات السياسية الحادة الناتجة عن العمليات العسكرية للحرب على الإرهاب وفي مقدمتها غزو العراق واحتلاله على الأمن القومي المصري، ثم (3) انخراط مصر من خلال قيادتها السياسية ومؤسستها العسكرية، وبصفة خاصة، أجهزتها الأمنية والاستخباراتية في جهود الحرب على الإرهاب.

قرب نهاية عام 2003، وتحديدا في شهر نوفمبر، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش عن استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية لبلاده في منطقة الشرق الأوسط، بهدف مواجهة العوامل المنتجة للإرهاب. اعتبر بوش هذه الاستراتيجية بعدا إضافيا ومركزيا في جهود الحرب على الإرهاب، ومثلت في الحقيقة خروجا كبيرا عن الخط المعتاد للسياسة الخارجية تجاه المنطقة طوال أكثر من نصف قرن سبقت هذا التاريخ. فالولايات المتحدة طوال علاقاتها الوثيقة والمركبة بدول الشرق الأوسط اعتمدت سياسة تهدف إلى الحفاظ على استمرارية الوضع القائم لضمان مصالحها المتمثلة في استمرارية تدفق النفط من دول الخليج، وضمان أمن دولة إسرائيل، ومواجهة الدول المارقة.

اعتمدت استراتيجية أجندة الحرية لإدارة بوش على مسارين، الأول هو الضغط السياسي المباشر والعلني للرئيس ووزارة خارجيته على دول المنطقة للمطالبة بإحداث إصلاحات ديموقراطية واضحة، والثاني هو مجموعة من المبادرات الاقتصادية والتجارية مثل مبادرة شراكة الشرق الأوسط MEPI، ومنطقة التجارة الحرة بالشرق الأوسط MEFTA، والمبادرة الموسعة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا BMENA، والتي هدفت إلى توفير الظروف الاقتصادية الملائمة لدعم مسار التحول الديموقراطي.

بالنسبة لمصر، مارست الإدارة الأمريكية ضغوطها على نظام مبارك وكثفت منها بصفة خاصة خلال عام 2005، الذي شهد إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. وفي مواجهة هذه الضغوط اعتمد مبارك على سياسة ذات وجهين، الأول هو محاولة إظهار قدرا من الاستجابة، في حدود (الممكن)، بالقيام ببعض الإصلاحات الشكلية، والتي كان منها تعديل أسلوب الانتخابات الرئاسية لتصبح بالاقتراع الحر المباشر بين عدة مرشحين بدلا من الاستفتاء على شخص واحد يرشحه مجلس الشعب. كما كان منها السماح بهامش أكبر من الحرية للانتخابات البرلمانية مما أسفر عن وجود أكثر من 100 نائب معارض بمجلس الشعب الناتج عنها. الوجه الثاني هو التنصل من أية إجراءات إضافية مع محاولة التأكيد على تناقض مثل هذه الإجراءات مع الترتيبات الأمنية التي يتطلبها انخراط مصر في جهود الحرب على الإرهاب كشريك للولايات المتحدة وحليف ضروري لها.

حسني مبارك

كانت سياسات أجندة الحرية قصيرة العمر، ومن ثم تمثل فقط فترة عابرة لإدارة اعتبرها كثيرون، بعضهم من داخلها، أكثر إدارات الولايات المتحدة أيديولوجية. وقد انتهت مع رحيل بوش عن البيت الأبيض ومع عودة الرئيس التالي باراك أوباما إلى الخط السياسي البراجماتي المعتاد للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة.

كما أن هذه السياسات كانت لها آثار مباشرة محدودة للغاية أغلبها في حالة مصر على وجه التحديد كان شكليا. ولكن في المقابل تركت هذه السياسات آثارا غير مباشرة أكثر عمقا واستمرارية. فهي قد أسست للربط الوثيق بين الإصلاح الديموقراطي في حد ذاته وبين تدخلات القوى الخارجية وبصفة خاصة الولايات المتحدة، لتحقيق أجنداتها التي تسعى في النهاية لتحقيق مصالحها. والمثير للاهتمام أن هذا الربط استمر بصورة أكبر في فترة إدارة أوباما، وساعد على ذلك خطابها الليبرالي، على الرغم من أن السياسات الفعلية لهذه الإدارة كانت امتدادا لما قبل فترة رئاسة بوش، بمعنى أن هدفها الرئيسي كان تحقيق أكبر قدر من الاستقرار في المنطقة ودعم استمرار أنظمتها، وفي مواجهة ثورات الربيع العربي، كان مواقف إدارة أوباما داعما لوصول القوى السياسية ذات أكبر شعبية إلى الحكم، مرة أخرى لضمان الاستقرار.

ربط الإصلاح الديموقراطي بالأجندات الخارجية لا يزال حتى اليوم دعامة رئيسية لخطاب الأنظمة الديكتاتورية بالمنطقة، وهو شديد البروز في الخطاب السياسي في مصر اليوم، ولكن إضافة إلى هذا الأثر لأجندة الحرية، فثمة أثر لا يلاحظه كثيرون، فالضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على النظام المصري، استخدمها النظام نفسه داخليا لدعم تعديلات ليست شكلية بأي حال ببنية السلطة كان الهدف منها نقل مركز ثقل هذه السلطة من المؤسسة العسكرية إلى الحزب الوطني الحاكم، في الوقت الذي كان فيه جمال مبارك نجل الرئيس الأسبق يحكم سيطرته على هذا الحزب من خلال لجنة السياسات. التعديلات الشكلية التي سمحت بانتخابات رئاسية بين مرشحين متعددين، وسمحت بوصول عدد كبير من النواب المعارضين إلى مجلس الشعب، كانت هي نفسها الإطار الذي مهد لخطاب تطوير الحزب الحاكم الذي كان عنوان صعود الشركاء الاقتصاديين لمبارك الابن إلى مواقع قيادة الحزب وإزاحتهم للقيادات التاريخية له.

استجابة نظام مبارك للضغوط الأمريكية لإحداث قدر من الإصلاح الديموقراطي من خلال إجراءات شكلية تتعلق بالنظام الانتخابي، لم تكن في الواقع بعيدة عن تصورات إدارة بوش نفسها لمعنى الإصلاح الديموقراطي الذي أرادته. سياسات هذه الإدارة في كل من أفغانستان والعراق بعد احتلالهما تؤكد أن الإصلاح الديموقراطي عندها لم يتخط بأي حال كتابة دستور ديموقراطي ينشئ مجموعة مؤسسات منتخبة.

أما بناء مجال سياسي يتمتع بشعبية تمنحه الشرعية الكافية لإدارة الدولة وأجهزتها البيروقراطية من خلال المؤسسات المنتخبة، فهو أمر لم تنتبه هذه الإدارة إلى ضرورته، كما أنه في النهاية يخرج عن نطاق ما يمكن للتدخل الخارجي أن يحققه سواء كان مباشرا من خلال الاحتلال العسكري أو كان غير مباشر من خلال الضغط على الأنظمة القائمة، ولكن سياسات أجندة الحرية كان لها أثر مهم في ترسيخ صورة إصلاح ديموقراطي يعتمد حصرا على صندوق الانتخابات. انعكس هذا بوضوح في تطورات ما بعد تخلي مبارك عن السلطة في أعقاب ثورة 25 يناير.

في المحصلة لا يمكن بالطبع القول بأن أجندة الحرية وممارسات إدارة بوش كانت وحدها كافية لترسيخ الربط بين مطالب الإصلاح الديموقراطي وبين التدخل الأجنبي أو لخلق تصور لهذا الإصلاح يتمركز حول صندوق الانتخابات. كلا الأمرين له جذور قديمة في الخطاب السياسي للنظام الحاكم في مصر منذ عام 1952 من جانب، وللقوى المعارضة له على جانب آخر، ولكن ضغوط الإدارة الأمريكية هذه قد دعمت هذين الخطابين بشكل حاسم بأن أعطتهما مثالا عمليا وواقعيا واضحا، وفي توقيت سمح لهما بأن يكونا مؤثرين في فترة الثورة التي شهدت أول فرصة واقعية لاختبار إمكانية إحداث إصلاح ديموقراطية في مصر. في المقابل فإن كان أثر محور استراتيجية أجندة الحرية هو الأكثر ظهورا على السطح لعلنيته، ففي اعتقادي كان لمحوري التغييرات السياسية والأمنية بالمنطقة، والانخراط السياسي والأمني في تحالف الحرب على الإرهاب آثار أعمق ولكنها أقل ظهورا، تمتد هذه الآثار إلى تعديلات هامة في الأوزان النسبية والتوزيع الداخلي للسلطة بين المؤسسات والأجهزة بالدولة المصرية، وفي العقلية الأمنية والعقيدة العسكرية. وسأسعى في مقالي القادم إلى إلقاء مزيد من الضوء على هذه الآثار وكيف ترتبط بحظوظ الإصلاح الديموقراطي.