في درعا كل الخيوط متشابكة، وكل الأطراف لها مصلحة. وبين تباين الأهداف وحدود العلاقات المرسومة، أجمع الكل على أن ما بدأ يوما من درعا يجب أن يُمحى، بمعناه الرمزي قبل الواقعي.
قبل 10 سنوات، وفي درعا، خًطّ أطفالٌ على سور مدرستهم “أجاك الدور يا دكتور”. وما حدث لاحقا أن الدكتور، وفي سبيل ألا يأتيه الدور، مزق نسيج أمة بأكملها بسلاحي الطائفة والوكالة، فتمخضت حرب أهلية وملايين اللاجئين حول العالم، ومثلهم من النازحين، ومئات الآلاف من القتلى والمفقودين، وعدد لا يُحصى ممن خوت أرواحهم وتاهت في غيابات الجُب.
بعد 10 سنوات، تترآى ثلاث دويلات: دويلة نظامية تسيطر على ثلثي البلاد، ودويلة كردية تملك النفط، وأخرى في الشمال كجيب المعارضة الأخير الذي ترعاه تركيا. وفي القلب من كل ذاك، بدت درعا عصية. تقع في نطاق نظام الدكتور ولا تخضع له، تدخل في تفاهمات واتفاقات لكنها لا تلين. يحاول الدكتور أن يعيد غسل وجهه بماء الانتخابات فترفض أن تضع يدها في إنائه. يسرها في نفسه وينتظر.
تدخل الحسابات الجغرافية والإقليمية على الخط لتساعده، فتصبح “التسوية” لزاما و”التواطؤ” مقبولا؛ كي يفرض النظام سيطرته على المدينة، التي تقع على الحدود مع الأردن وبموازاة الجولان المحتل من قبل إسرائيل. الثنائي الأخير يريد استتبابا يحافظ على مصالحه، والنظام يريد استعادة سيطرته مستعينا بوكلائه الإيرانيين الباحثين عن نفوذ متمدد، فيظهر الوسيط الروسي كضامن لتحقيق كلا الأمرين دون السماح بفائض دموية يثير قلاقل الجيران، ودون السماح بتمدد إيراني لا يريده أي من الفاعلين.
وتقويض إيران هو لُب الموضوع. يُعلن حزب الله استقباله لناقلات نفط قادمة من إيران لتساعد لبنان المأزوم في الطاقة والاقتصاد، فتتحرك الولايات المتحدة سريعا وتقبل بما رفضته سابقا: سنتجاهل قانون “قيصر” هذه المرة.
مُنح الضوء الأخضر. الغاز المصري سيمر إلى الأردن ومنها إلى سوريا التي ستمرره إلى لبنان وتتقاضى الثمن. وهنا تظهر درعا في خلفية المشهد كنقطة يمر منها الغاز القادم من الأردن إلى سوريا، فيصبح خضوعها ضرورة.
هكذا المشهد بإيجاز، وإليكم التفاصيل.
ما الذي حدث في درعا؟
كانت درعا هي مهد ولادة الثورة السورية التي تحولت إلى معارضة مسلحة فنشبت الحرب الأهلية. سيطرت المعارضة المسلحة على مناطق من المحافظة لحوالي 7 سنوات، حتى استعاد النظام السوري، مدعوما من روسيا وإيران وحزب الله اللبناني، أغلب هذه المناطق عن طريق هجوم عسكري شنّه عام 2018، ما تسبب في نزوح الآلاف صوب الحدود الأردنية والجولان.
انقسمت درعا إلى قسمين: درعا المحطة الخاضعة لسيطرة النظام، ودرعا البلد حيث الإدارة الذاتية من قبل المعارضين، وذلك بعد اتفاق برعاية روسية نص على تسليم المعارضة أسلحتها الثقيلة والمتوسطة للنظام، وتسوية أوضاع المسلحين الراغبين بالتسوية وخروج الرافضين للاتفاق صوب إدلب.
بقي الوضع هادئا تقريبا لثلاث سنوات، قبل أن تأتي رياح “الانتخابات الرئاسية” لتوقد ما تحت الرماد، وتشهد المدينة احتجاجات واسعة تزامنا مع الانتخابات، التي أقيمت في مايو من العام الجاري، ورفضا للمشاركة فيها. ومع مطلع شهر يونيو فرض النظام السوري حصارا خانقا على درعا البلد؛ معاقبةً على موقفهم، وشاركه الجانب الروسي الضغط بعدما طالب اللجنة المركزية -الممثلة لأهالي درعا البلد- بتسليم كل الأسلحة الخفيفة التي بحوزتهم، وهو ما رفضته الأخيرة، باعتباره مخالفا لاتفاق 2018.
ومع شهر يوليو تفجر الوضع إذ شنت قوات النظام هجمات عسكرية على بعض المناطق في المدينة، وهو ما ردت عليه المعارضة بالهجوم على بعض الحواجز الحكومية، ليرسل النظام تعزيزات على رأسها الفرقة الرابعة للقوات الخاصة، التي يديرها ماهر الأسد شقيق الرئيس بشار، أتبعها بقصف جوي مكثف في الشهر التالي أدى إلى سقوط 90 قتيلا ونزوح عشرات الآلاف، لتتوتر الأجواء أكثر وتضطر روسيا للتدخل مجددا بعدما اتخذ الأمر بعدا دوليا وإدانات أممية وأمريكية، فيما أبدى الجانبان الأردني والإسرائيلي تخوفهما من تفاقم الأوضاع على حدودهما، وسارعت المملكة الهاشمية لإغلاق حدودها مع الجارة.
مع نهاية شهر أغسطس دخلت روسيا على خط المفاوضة من جديد وسعت لترتيب اتفاق بين عشائر درعا والنظام؛ بحثا عن التهدئة. لكن خروقات النظام واعتدائته المتكررة، حالت دون ذلك، ومن ثم تدهورت الأوضاع الإنسانية بشكل كبير مع الحصار الخانق.
لاحقا وخلال الأسبوع الأول من شهر سبتمبر الجاري توصل الطرفان أخيرا لاتفاق لوقف إطلاق النار يقضي بدخول الشرطة العسكرية الروسية ولجنة أمنية تابعة للنظام السوري إلى المنطقة، بغرض تثبيت وقف إطلاق النار، وتسلم السلاح الخفيف من أشخاص حددهم النظام، وعددهم 34.
وتضمن الاتفاق عدم تهجير أي شخص خارج المنطقة، وتمركز قوات النظام وفرع الأمن العسكري التابع له في 4 نقاط من المنطقة كقوى أمنية، وعودة مخفر الشرطة وعناصره للمنطقة، بعد خروجهم منها جراء الأحداث الأخيرة. كما نص على انسحاب الفرقتين الرابعة والتاسعة التابعتين للنظام من محيط درعا البلد، وفك الحصار عنها.
دخل النظام إلى مهد الانتفاضة لأول مرة منذ عشر سنوات، والاتفاق بدا مُحبطا لأهالي درعا البلد، فيقول الزعيم المحلي جاسم محاميد لرويترز “نحن نشعر بالعجز والإحباط. تعودنا نكون أحرارا، رح نرجع نعيش أذلاء”.
الأهداف الإيرانية تُحرّك جميع الأوراق
في هذا الإطار، تحمل التحركات الإيرانية شقين: شق لبناني وآخر سوري. فعندما أعلن الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، أن إيران ستمد بلاده بالنفط في ظل أزمة الطاقة التي تعيشها، تحركت الولايات المتحدة والقوى الإقليمية لتقويض تمدد النفوذ الإيراني داخل الدولة اللبنانية مستغلين أخيرا ورقة الغاز المصري. وفي سوريا، وانطلاقا من الرغبة الإيرانية في التواجد بالجنوب حيث الجولان المحتل و القدرة على تهديد العمق الإسرائيلي، تفاعلت الأخيرة سريعا لتمنع ذلك.
تُمثل درعا هنا امتدادين استراتيجيين في مواجهة إيران: الأول متعلق بالأمن القومي الإسرائيلي من بوابة الجولان، والآخر باعتبارها نقطة عبور للغاز المصري القادم من الأردن والمتجه نحو لبنان. لذا يعد الدور الروسي حجر الزاوية باعتباره وسيطا قادرا على التفاوض مع كافة الأطراف، فها هو قادر على كبح جماح النظام السوري ورغبته المتقدة في فرض سيطرته الكلية على المدينة -بما يفتح بابا للتواجد الإيراني بطبيعة الحال- وفي نفس الوقت كان قادرا على التوصل لتفاهمات تعيد دمج النظام مع محيطه العربي، وذلك بمشاورة الأردن.
لكن سمير التقي الباحث السوري في معهد الشرق الأوسط بواشنطن يرى أن “الروس لا يستطيعون أن يسيطروا على الوجود الإيراني من جهة لأن الإيرانيين قاموا بعملية تشييع واسعة نسبيا في الجنوب، هي نسبة لا تكفي لتغيير نسبة السكان ديموغرافيا ولكنها كافية لتشكيل فصائل موالية لهم تقوم بالتسهيل اللوجستي وبناء القاعدة المجتمعية والسياسية لهم، هذا أمر لا يستطيع الروس إيقافه”.
يقول تقرير لمركز كارنيجي: “أدى موقف روسيا خلال أزمة درعا إلى إعطاء الغلبة بوضوح للنظام، بدءًا من دعمها للحصار في بداية الأزمة ووصولًا إلى خارطة الطريق التي وضعتها مؤخرًا. لكن ثمة خطوط حمر لروسيا في الجنوب. صحيح أن الروس قد لا يعارضون مساعي النظام من أجل فرض سيطرة أمنية أكبر في محافظة درعا، لكنهم يرفضون أي تصعيد عسكري من شأنه التسبب بانهيار الوضع القائم الذي أرسته روسيا بعد العام 2018”.
من جانبها تزعمت الأردن الاتجاه الساعي لدمج النظام السوري مع محيطه العربي من جديد، وكان ذلك على رأس أجندة زيارة الملك عبد الله إلى البيت الأبيض ولقائه مع الرئيس جو بايدن شهر أغسطس الماضي. العاهل الأردني دعا للانضمام إلى فريق عمل يجمع الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل والأردن ودولاً أخرى، من أجل الاتفاق على خارطة طريق لحل الملف السوري بما يضمن “استعادة السيادة والوحدة السورية”.
ومن هناك حصل الملك عبد الله على الضوء الأخضر لتمرير الغاز المصري نحو لبنان عبورا بسوريا، بعدما مهدت إسرائيل لذلك أيضا من خلال قنوات تواصلها مع البيت الأبيض. وترى الأردن أن الاستقرار السوري على حدودها سيساعد في دفع العجلة الاقتصادية المتدهورة، سواء بعودة التبادل التجاري أو السماح بنقل الكهرباء الأردنية من خلالها نحو لبنان.
يتضح من العوامل المسرودة أن قرار فرض السيطرة على درعا كان إقليميا قبل أن يكون سوريا، أو بتعبير الكاتب السياسي السوري علي تمي “مع الأسف فإن درعا تم بيعها دوليا وإقليميا وبأرخص الأسعار”.
خط الغاز العربي: اتفاقات ومعوقات
لم تكن فكرة نقل الغاز المصري إلى لبنان وليدة اللحظة بل ظهرت قبل سنوات، ولكن العوامل الإقليمية، وتحديدا الوضع في سوريا، لم تسمح بذلك، في ظل المقاطعة العربية للنظام السوري. والآن وبعدما تغيرت تلك العوامل فتح ذلك الباب أمام استجرار الغاز المصري.
في يوليو الماضي كشف رئيس الوزراء اللبناني المكلف سابقا سعد الحريري أنه بحث خلال زيارته إلى القاهرة ولقائه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قضية استجرار الغاز المصري. وفي أغسطس تلقى الرئيس اللبناني ميشال عون الموافقة الأمريكية بعد اتصال من السفيرة الأميركية في لبنان، دوروثي شيا.
وأبلغته أنها “تبلغت قرارا من الإدارة الأمريكية بمتابعة مساعدة لبنان لاستجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سوريا، وذلك عن طريق توفير كميات من الغاز المصري إلى الأردن، تمكنه من إنتاج كميات إضافية من الكهرباء لوضعها على الشبكة التي تربط الأردن بلبنان عبر سوريا. كذلك سيتم تسهيل نقل الغاز المصري عبر الأردن وسوريا وصولا إلى شمال لبنان”.
وأضافت أن “الجانب الأمريكي يبذل جهدا كبيرا لإنجاز هذه الإجراءات، وأن المفاوضات جارية مع البنك الدولي لتأمين تمويل ثمن الغاز المصري وإصلاح خطوط نقل الكهرباء وتقويتها والصيانة المطلوبة لأنابيب الغاز”.
وأشار تقرير لموقع “مدى مصر” إلى تفاهمات ستجريها مصر والأردن مع المؤسسات المالية الدولية والولايات المتحدة الأمريكية للتفاهم على طبيعة الضرائب التي ستحصل عليها سوريا مقابل تمرير الغاز والكهرباء عبر أراضيها، والترتيبات القانونية لذلك بالنظر إلى خضوع سوريا لقانون قيصر. وأن الانفتاح الإقليمي النسبي على نظام الأسد، جاء مؤخرًا للحيلولة دون سيطرة حزب الله على المشهد اللبناني عبر بوابة حل أزمة الطاقة، لكن بشرط أن تكون ضرائب النقل، التي ستحصل عليها دمشق، عينية وليست مادية، بما يعني أنها يمكن أن تحصل على غاز أو كهرباء أو أي صادرات أخرى من مصر أو الأردن.
التخطيط لخط الغاز العربي بدأ أواخر التسعينيات بطول 1200 كيلومتر، وهدف لنقل الغاز المصري إلى الأردن وسوريا ولبنان، وكان يفترض أن يتصل بشبكة الأنابيب التركية ومنها إلى أوروبا. ونفذت المرحلة الأولى بين العريش والعقبة الأردنية في 2003، وأنجزت المرحلة الثانية من العقبة إلى الحدود الأردنية السورية في 2005.
وفي الرابع من الشهر الجاري أبلغ النظام السوري نظيره اللبناني موافقته رسميا على طلب السماح بتمرير الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر الأراضي السورية إلى لبنان، وبعدها بأربعة أيام استضافت الأردن اجتماعا لوزراء البترول والطاقة في مصر وسوريا ولبنان، لبحث الخطوات اللازمة لتفعيل الاتفاقيات.
وقالت وزيرة الطاقة الأردنية إن البنية التحتية لخط الغاز العربي التي ستنقل الغاز “شبه جاهزة”، ولكنها تتطلب بعض الاصلاح لأن الخط لم يستخدم باتجاه لبنان لفترة طويلة، على أن تتم مراجعة الاتفاقيات خلال 3 أسابيع، لافتة إلى أن “كل دولة ستتحمل كلفة الاصلاحات اللازمة لبنيتها التحتية”.
يتصور طارق الملا، وزير البترول المصري، أن يتم ضخ الغاز المصري إلى لبنان خلال أسابيع أو أشهر قليلة، ليرسخ بذلك مرحلة تلعب فيها مصر أدوارا سياسية واقتصادية أوسع باعتبارها منصة إقليمية للطاقة في المنطقة.