في ظهور غير مفاجئ، احتفل تنظيم القاعدة، الذي قام بتنفيذ الهجمة الإرهابية الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة، بذكرى انهيار البرجين على طريقته الخاصة. حيث بثّت مؤسسة “السحاب”، الجناح الإعلامي للتنظيم، تسجيلًا جديدًا منسوب لزعيم التنظيم أيمن الظواهري. بدا فيه أحد أبرز المطلوبين لأجهزة الأمن العالمية وكأنه خرج لتوه من كهفه إلى عالم لم تعد فيه جماعته التنظيم الأكثر شعبية في عالم الإرهاب. لاسيما في ظل تراجع دوره مقارنة بتنظيم داعش، والتفاهمات الأخيرة بين طالبان والإدارة الأمريكية.

تتزامن الذكرى العشرين لحادث انهيار برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، هذا العام، مع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في مفارقة حزينة شبه ساخرة. تعود فيها الولايات المتحدة خالية الوفاض بعد إنفاق عشرات المليارات من الدولارات وآلاف من أرواح الأفغان والجنود الأمريكيين على حد سواء. وتعود أفغانستان إلى المربع صفر، بعد سيطرة حركة طالبان مرة أخرى على مقاليد الأمور في البلاد.

11سبتمبر
11سبتمبر

المقطع الذي بثّه الظواهري تحت عنوان “القدس لن تهود”، واستمر لأكثر من ساعة، تحدث فيه عن العمليات النشطة التي قامت بها أفرع التنظيم في كل من سوريا والصومال. عبر استهداف القوات الروسية في سوريا وأجهزة الأمن في الدولتين، فقد أشاد بأحداث وقعت خلال يناير ويونيو وأغسطس 2020. منها هجوم بسيارة مفخخة وقع يناير الماضي واستهدف قاعدة عسكرية روسية في منطقة تل السمن، بمحافظة الرقة شمال شرقي سوريا. وأعلن بيان نسب إلى جماعة “حراس الدين” التابعة للتنظيم يُعلن مسؤوليتها عن الهجوم.

وقال: “تطلب المرحلة الحالية منا استنزاف العدو حتى ينتحب ويئن بسبب النزف الاقتصادي والعسكري.. ومن أبرز العمليات في هذا الصدد تل السمن. هذه العملية كانت مثالاً عملياً لكسر الحصار العسكري للعدو”؛ كما أشار إلى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. لكن، للغرابة لم يتناول زعيم القاعدة البالغ من العمر 70 عامًا، في حديثه، الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن. وإن ذكر اسم الرئيس السابق دونالد ترامب؛ بينما لم يتطرق إلى الوضع الأفغاني أو سيطرة طالبان على الحكم قبل أسبوعين.

محاولة للبعث

مثّلت الهجمات التي دبرها تنظيم القاعدة في 11 سبتمبر 2001، قبل عشرين عامًا، الفشل الأمني والاستخباراتي الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة والأجهزة الغربية. بعدما اختطف إرهابيون تابعون للتنظيم أربعة طائرات ووجهوها للارتطام ببرجيْ مركز التجارة العالمي بنيويورك، ومقر البنتاجون في واشنطن. قضى الانتحاريون وعددهم 19 حتفهم، بعد أن قتلوا 2976 شخصا من 77 دولة. فيما جرح الآلاف. بعدها أسرعت أمريكا بغزو أفغانستان التي عمل قادتها على حماية التنظيم وقادته.

ووصل الظواهري إلى زعامة القاعدة عام 2011، بعد أن قتلت وحدة قوات خاصة تابعة للبحرية الأمريكية أسامة بن لادن، مؤسس التنظيم، في مخبئه بمدينة أبوت آباد الباكستانية. قبلها، كان يتجول تحت قائمة طويلة من الأسماء المستعارة. منها أبو محمد، الطبيب، المعلم وعبد القادر عبد العزيز عبد المعز، الدكتور، أبو فاطمة، عبد المعز، نور، الأستاذ. بينما ترصد الحكومة الأمريكية مكافأة بقيمة 25 مليون دولار لمن يساعد في الوصول إليه، بعد قتلت زوجة الظواهري الأولى واثنين من أبنائه الستة في غارة جوية أمريكية بأفغانستان أواخر عام 2001.

أسامة بن لادن
أسامة بن لادن

ويقود الظواهري التنظيم بعد صار في أضعف حالاته، بعد أن تقلصت أعداد المنتمين له بشكل كبير، بانتقال عدد من عناصره إلى داعش. حيث لم يتبق سوى بقايا أذرع ضعيفة للتنظيم في ليبيا وأفريقيا. كذلك كان لمقتل أبو محمد المصري وأبو مصطفى المصري. في إيران وأفغانستان العام الماضي، تأثيرًا سلبيًا ضخمًا على التنظيم، فقد كانا من القيادات المرشحة لخلافة الظواهري، إلى جانب سيف العدل. أحد أبرز المرشحين لتولي زعامة التنظيم. في الواقع لا يبدو أن التنظيم سيتحمل تعهد طالبان بعدم حمايته، وعدم تعرض المصالح الأمريكية للاستهداف من جانبه، وفقاً لاتفاق السلام الذي أبرمته الحركة مع الولايات المتحدة في فبراير 2020.

وفي الاتفاق تعهد قادة طالبان بعدم دعم القاعدة أو الجماعات المتطرفة الأخرى التي من شأنها أن تهدد الولايات المتحدة. لكن المسؤولين الأمريكيين يعتقدون أن طالبان تحافظ على علاقات مع القاعدة والعديد من الدول. وتشعر بالقلق من عودة طالبان إلى السلطة والتي قد تفتح الباب لعودة نفوذ القاعدة. وهو ما صرّح به وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن الخميس الماضي، عندما قال خلال تواجده بالكويت إن التنظيم الذي استخدم أفغانستان كقاعدة انطلاق لمهاجمة الولايات المتحدة قبل 20 عامًا. قد يحاول إعادة الظهور هناك بعد الانسحاب الذي ترك طالبان في السلطة، وأضاف “هذه هي طبيعة المنظمة”.

غموض حول الرحيل

ورغم نسب التنظيم الفيديو لخليفة مؤسس التنظيم الراحل أسامة بن لادن، لكن العديد من الخبراء يشككون في الحالة الصحية للطبيب الجهادي. ووصل بعضهم إلى القول بأن عدم ظهوره يوحي بتكتم التنظيم على رحيله، خاصة أنه يُعّد تكراراً لكلمة سبق أن ألقاها الأخير وبالعنوان نفسه في 27 يوليو 2010. يُرجّح هذا القول تحليل آخر فيديو له في العام الماضي، والذي ظهر فيه وقد بدا عليه الإعياء الشديد مع عدم القدرة على الكلام.

خلال العام الجاري 2021، قام الجناح الإعلامي للقاعدة ببثّ فيديوهين بخلاف الصادر أمس. أولهما في 13 مارس بعنوان “الروهينجا جرح الأمة كلها” حول الانقلاب العسكري الذي وقع في ميانمار في أول فبراير، استمر لمدة 21 دقيقة تناول الأحداث في ميانمار بشكل عام ولم تأت على ذكر الانقلاب. لكن تمثّل دور الظواهري في 5 دقائق صوتية فقط، شملت اقتطاع أجزاء من كلمات قديمة له عن المسلمين في ميانمار وضمها في الرسالة. وهو ما رفع التساؤلات بشأن وجوه على قيد الحياة بعد اختفاءه منذ نوفمبر 2020. الفيديو الثاني تم بثه في 15 يوليو جاءت بعنوان “الجريمة التي لا تغتفر”، وبلغت مدته 41 دقيقة، تحدث فيه شخص مجهول مع ظهور لقطات قديمة للظواهري على الشاشة.

أيمن الظواهري
أيمن الظواهري

ووفق تحليلات لأغلب الخبراء، فإن عدم ظهور الظواهري قد يرجع لكونه تعرض لأزمة صحية تستوجب مراعاتها بجانب محاولة تجنب تعرضه لاستهداف من قبل القوات الأمريكية على غرار ما حدث مع بن لادن. وهو أمر يتعارض مع صعوبة تنقله للاختفاء نتيجة المشكلات الصحية التي يعاني منها. كذلك التطرق إلى قدرة طالبان على إدارة شئون الدولة أو السيطرة على التنظيمات الأخرى أو منعها من استهداف المصالح الأمريكية. من شأنه فرض تداعيات سلبية على العلاقات بين الطرفين في المرحلة الحالية، حيث يسعى التنظيم إلى البقاء في كنف طالبان، وإن قدّم تنازلات.

كذلك، يخشى التنظيم التعرض لانشقاقات محتملة في أفرعه المتبقية بدول المنطقة في حال إعلان وفاة زعيمه دون تحديد خليفة قوي. على غرار ما حدث عامي 2014 و2015 في ظل استمرار نشاط التنظيم المنافس داعش سواء في أفغانستان أو دول أخرى مستهدفة. حيث يعتبر داعش المستفيد الأول من الانشقاقات المحتملة التي قد تتعرض لها القاعدة. لذلك ربما يحاول قادة التنظيم التمهل قبل إعلان الوفاة. إلى حين ترتيب عملية نقل القيادة إلى أحد المرشحين المحتملين من أجل احتواء أية صراعات قد تنشب وتؤثر على تماسكه وهيكله التنظيمي.

في مواجهة داعش

ورغم ما قد يبدو للمشاهد العادي، فإن الخلافات بين تنظيمي القاعدة وداعش عميقة للغاية ويصل إلى الهدف نفسه. ظهرت بعدما انفرط العقد بينهما مع اندلاع الصراع في سوريا عام 2011، عندما قرر أبو بكر البغدادي منذ عام 2010 توسيع نشاطه ليشمل الأراضي السورية. وهو ما أثّر على مصالح الظواهري الذي تولى قيادة القاعدة حديثًا آنذاك.

وفيما حبذ الظواهري الاحتفاظ بـ”جبهة النصرة” كفرع للتنظيم في سوريا، مع اعتباره كيان مستقل بقيادة سورية منفصلة عن التنظيم القادم من العراق. رأت قيادة “الدولة الاسلامية” أن التنظيم الذي يقوده الظواهري أفرط في التركيز على القتال في سوريا وتجاهل العراق. وظل الخلاف قائما بينهما حتى عام 2013 حين أصدر الظواهري أمره للبغدادي بالامتثال. غير أن الأخير رفض وأعلن من جانب واحد وضع جبهة النصرة تحت قيادته العراقية. في مطلع عام 2014 اندلع القتال بين التنظيمين، وعلى إثره أنهى الظواهري رسميًا علاقات القاعدة بـ”الدولة الاسلامية” التي أعادت تسمية نفسها بـ”الدولة الاسلامية في العراق والشام” وباتت تعرف اختصارا بـ”داعش”.

بن لادن وأيمن الظواهري
بن لادن وأيمن الظواهري

وبينما القاعدة يؤكد أن “تدمير الغرب” شرطاً مسبقاً لإنشاء دولة إسلامية، يضع داعش مبدأ “تأسيس الخلافة في الأراضي المحررة” كشرط مسبق لخوض المعارك التي ستسمح بضرب العدو في الصميم. كذلك يريد داعش فرض تمييز أخلاقي نقي تماماً بين الخير والشر، في حين أن “القاعدة” يسمح بالتعامل مع السكان والجماعات الأخرى، وحتى الدول. برز ذلك في تفاوض تنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين” بقيادة إياد أغ غالي في مالي، ونجحت مفاوضات طالبان مع الحكومة الأفغانية. لكن يتفق كلاهما على كسب تأييد المقاتلين وجذب اهتمام الإعلام، مستخدمين التصعيد والتصعيد المضاد كوسيلة أساسية.

كذلك لم يصدر عن تنظيم القاعدة خلال تلك الأعوام ما يشير إلى نيته في احتلال أراض أو ضم مناطق من دولة عربية أو اسلامية ما وعزلها والتمدد فيها. لكنه ركز على توجيه دعايته عبر أشرطة صوتية ومصورة لقيادتها تحض فيها أنصارها وعامة المسلمين على اعتناق فكرها بتذكيرهم بواجبهم في الجهاد.

أما استراتيجية داعش فكانت أكثر جرأة، حيث سعى التنظيم إلى بسط سيطرته على الأرض وتوسيع وجوده لإقامة دولة تحت سلطة حكومة يعيش فيها مسلمون سنة دون غيرهم، يخضعون لمفهوم خاص للشريعة الإسلامية صاغه التنظيم.