لا يمكن أن يكون هناك أي نص قانوني في حيز الوجود الفعلي دون أن يكون هذا النص منصبا في قالب من اللغة، بحسبها الطريقة الوحيدة للتعبير وفق هذه الأنماط، إذ لا يمكن التعبير عن القانون بالرسم أو بالنحت أو بأي طريقة مغايرة للكتابة.

والصياغة القانونية يمكن تعريفها بأنها تحويل المادة الأولية التي يتكون منها القانون إلى قواعد عملية صالحة للتطبيق الفعلي على نحو يحقق الغاية التي يفصح عنها جوهرها، ويتم ذلك عن طريق اختيار الوسائل والأدوات الكفيلة بالترجمة الصادقة لمضمون القاعدة وإعطائها الشكل العملي حتى تكون صالحة للتطبيق في الواقع العملي. وهناك مجموعة من القواعد التي اتفق عليها علماء هذا النوع من العلوم، والذي ما زال حديثا في العالم العربي، وهو علم الصياغة اللغوية للقانون، حيث اتفق العلماء على مجموعة من الأوصاف التي يجب أن تتصف بها القاعدة القانونية، أو النص التشريعي حال صناعته، حيث يجب أولا الإحاطة الكاملة بالموضوع المطلوب التشريع عنه أو له.

وهذا الأمر تبدو أهميته في عدم الخلط بين الموضوعات المختلفة، فما يجب قوله هنا، قد لا يكون واجبا في وقت أو مكان مغاير، كما يجب أن تمتاز الألفاظ المنتقاة للصياغة التشريعية بالدقة والوضوح، ويبدو مدى أهمية الدقة والوضوح في صياغة النص التشريعي، فالتجربة أثبتت من خلال الإعداد للعديد من التشريعات أن النص التشريعي الجيد يجب أن لا يكون متزيدا فيه بما يصيبه بالترهل وضياع الفهم الصحيح، وألا يكون ناقصا مبتورا يؤدي إلى اختلاف التفسير والاجتهاد في التأويل، بل ويجب أن يتسم بالوضوح والقابلية للفهم من المخاطبين بأحكامه ولا يثير المشاكل عند التطبيق.

اقرأ أيضا:

القانون والتوسع في التجريم والعقاب

 

كما يجب عند صناعة القوانين النظر إلى التشريعات المختلفة في البلدان عن الموضوع محل التشريع، بحيث يتم وضع تلك التجارب في الاعتبار من قبل الهيئة التشريعية، كما أنه من الأحرى وجوبا النظر إلى الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها الدولة، وبشكل أخص منها ما يتعلق باتفاقيات ومواثيق حقوق الإنسان، حيث يجب مراعاتها، وعدم تجاوز نطاقها. كما يجب النظر على القواعد أو الأسس الدستورية في المدونة الدستورية الوطنية، حيث أن الدستور هو الوثيقة الأساسية للمجتمع وهو يسمو ويعلو كل التشريعات ومن ثم ينبغي أن يوضع نص تشريعي يخالف الدستور وكما قلنا فان هذه المخالفة الدستورية تأتي إما على شكل مخالفة لنص صريح أو مخالفة لمبدأ من مبادئه، فعلى المشرع أو الهيئة القائمة بصياغة النص التشريعي أن تتوخى الحذر عند صياغتها للنصوص التشريعية وأن تتحرى مواضع التماس مع الدستور، وتزيل ما يصيبها من عوار دستوري وإلا تعرض النص للإلغاء والبطلان من قبل الجهة الرقابية على دستورية القوانين.

وفي المجمل، فإن الصياغة التشريعية أو صناعة القوانين إنما تهدف إلى تحديد مضمون القاعدة القانونية تحديدا عمليا فإن هذا التحديد يتراوح ما بين الإحكام الصارم والسلاسة المرنة فقد يكون التحديد جامدا محكما يربط القاضي ويقيده تقييدا صارما، وقد يكون تحديدا مرنا يترك للقاضي حرية واسعة وسلطانا كبيرا في التقدير والتطبيق.

وتبدو من الزاوية الواقعية أهمية تلك الأسس والقواعد حال صناعة القوانين الجنائية بشكل خاص، وذلك لتعلقها بمصائر الأفراد وحرياتهم، أو في حقوقهم في مناط التجريم والعقاب، وهذا ما عبرت عنه محكمتنا الدستورية في أكثر من موضع بقولها تكرارا، إنه لا يجب أن تكون النصوص العقابية مجرد شراك لإيقاع الأفراد بين حبائلها، كما يجب ألا تكون النصوص متجاوزة لحدود الحريات سواء بالعدوان عليها أو مجاوزتها أو الانتقاص منها.

ومن الزاوية الواقعية في المجال التشريعي المصري فإن هناك تجاوزات عديدة لتلك القواعد ومخالفات لهذه الأطر العلمية المعتبرة في حال صناعة القانون وصياغته، وإذا ما أردنا التمثيل على مخالفة تلك القواعد بما يتناسب مع مساحة المقال فإننا نسوق لذلك ما جاء بالقانون رقم 12 لسنة 2017، والمعدل لقانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958، وذلك ما جاء بنص المادة 3 مكرر (ب) من قولها إنه: لمأمور الضبط القضائي متى أُعلنت حالة الطوارئ التحفظ على كل من توافرت في شأنه دلائل على ارتكابه جناية أو جنحة،  وعلى ما قد يحوزه بنفسه أو في مسكنه، وكافة الأماكن التي يُشتبه إخفائه فيها أي مواد خطره أو متفجرة أو أسلحة أو ذخائر أو أي أدلة أخرى على ارتكابه الجريمة. وذلك استثناءً من أحكام القوانين الأخرى، على أن يتم إخطار النيابة العامة خلال 24 ساعة من التحفظ. ويجوز بعد استئذان النيابة العامة احتجازه لمدة سبعة أيام لاستكمال جمع الاستدلالات، على أن يبدأ التحقيق معه خلال هذه المدة.

إذ بقراءة متأنية لهذا النص تجد به من العيوب ما يكفي لعدم صلاحيته لأن يكون نصا قانونيا، إذ كيف يمكننا الوثوق على تجريم أو تقديم للمحاكمة أو مجرد التوقيف والقبض على الأفراد ومصادرة حرياتهم، بحسب قول النص “كل من توافرت بشأنه دلائل”، ثم أعقبت تلك الصياغة المفتوحة التي تبيح للسلطات القبض أن تقوم السلطة بعد القبض بإخطار النيابة العامة، ثم إجازة الاحتجاز على سبيل الاستدلال لمدة سبعة أيام قبل أن يتم تحويل المتهم للنيابة العامة.

فمن الناحية اللغوية قد تم استخدام عبارات مفتوحة، أو بحسب تعبير الدكتور عوض المر عبارات مفخخة، كما أن الاتاحة الواسعة لسلطات الضبط بالقبض على مزاعم دون قيام حقيقي لأركان الجريمة المعتبرة في الأصول القانونية الجنائية، فإن ذلك يفتح الأبواب على مصراعيها لمجاوزة نطاق الحريات والعدوان عليها، والأدق مصادرتها كلها، هذا بالإضافة إلى عدم احترام القواعد الدستورية الواردة بالدستور المصري، وجعله مجرد أرقام مواد، وخصوصا تلك المتعلقة بسيادة القانون، وخضوع الدولة للقانون، واحترام الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين.

وهذا النص ليس أكثر من مثال حي على أحوال الصناعات القانونية في مصر، والتي في غالبيتها لا تضع للأسس العلمية المعتبرة في الصياغات التشريعية اعتبار، ولكنه مجرد استخدام للقانون كأحد أدوات الدولة، مستخدمة أغلبيتها المضمونة في مجلس النواب حال مناقشة أو التصويت على تلك القوانين، ومن هنا فإنني أهيب بالقائمين على أمر القانون في مصر السعي نحو إيجاد حلول واضحة لتنقية البنية التشريعية المصرية مما بها من نصوص لا تصلح للسريان ولا تصلح لأن تسود المجتمع.