عادت إليّ كثير من الذكريات السيئة حين شاهدت مقطع فيديو حديث من المفترض به أن يكون مضحكا، يعرض لقطات من أحد الدروس الخصوصية لمادة فيزياء الثانوية العامة. حيث يقف المدرس ليشرح تأثير “الفجوة” مدخلا لدراسة حركة الإلكترونات، فإذا به “يستخدم” ثلاثة من الطلبة في شرح الدرس، ولا يجد وسيلة للاستعانة بهم سوى بأن يطلق عليهم وصف “بيضات”، وهكذا يأخذ في مناداتهم طوال الشرح بعبارات من قبيل “تعالي يا بيضة”، و”كرتونة البيض”، بينما تتعالى أصوات ضحكات “جمهور” التلاميذ أمام هذه السخرية والتنمر الواضح، وحيث يبين من أصوات الضحك أن بينهم عددا من البنات، الأمر الذي يؤكده عنوان مقطع الفيديو “لما المستر يشرح عليك قدام البنات” مع وجهين تعبيريين ضاحكين!
كان مثل هذا السلوك دارجا منذ سنوات عديدة. وقد كنت في الثانوية العامة منذ ربع قرن وأذكر كيف كان العديد من المدرسين “يستظرفون” أمام الطلبة وخصوصا الطالبات، فينتقون عددا من الطلبة – الذين لا يبدو عليهم أنهم “بتوع مشاكل” – ليمارسوا عليهم تنمرهم وسخافاتهم. مستمتعين بإمكانية ممارسة ساديتهم أمام الأعداد الكبيرة التي تحضر المراجعات النهائية، وإذا كان بعض هؤلاء المدرسين يمارس تنمره داخل الفصول الحكومية، فتخيل الوضع – أو لابد أنك شهدته يوما ما – حين يكونون خارج سلطة الوزارة، في المراكز الخصوصية أو حتى في البيوت.
وإذا كان طالب المدرسة أو وليّ أمره يستطيع الشكوى أحيانا للناظر أو مدير المدرسة، فإن الحال يكون أصعب كثيرا في الجامعة، حيث سلطة الأستاذ على الطلبة، بما فيهم طلبة الماجستير والدراسات العليا، بل المعيدين والمدرسين المساعدين، تكاد تكون سلطة شبه إلهية، لا تّراجع ولا تناقش، وكم من قصص محكية أومكتومة عن طلبة أعادوا سنوات الجامعة مرارا بسبب مشكلة مع أستاذ معين، أو اضطروا لتغيير القسم أو الكلية أو الجامعة نفسها، للهروب من السلطة السرمدية لـ “دكتور” المادة.
ومع أن تلك السلطة تتصاعد كلما تصاعدت الكلية نفسها في مسار ما يسمى “كليات القمة”، ومع أن قصص “الدكاترة/ الأطباء” ليست مجهولة في مجال التعنيف والتنمر، حتى صار التعنيف في نظر البعض دليلا على “شطارة” الطبيب و”هيبته”، إلا أن فيديو “الطبيب والممرض” الشهير تخطى كل خيال ممكن، ولا ينبغي أن يكون قرار النيابة بحبس الطبيب وزميله وأحد الموظفين نهاية للواقعة بل بداية لها، لدراسة ما الذي وصل بغرفة في مستشفى وبأستاذ مرموق في كلية الطب إلى ممارسات لا تليق إلا بالأفلام الوثائقية عن التعذيب أو الإذلال في معتقلات الستينيات، والواقع إنني أصدق الطبيب المتهم حين قال في اتصاله الهاتفي مع برنامج الإعلامي عمرو أديب إنه قد حج بيت الله وأنه “ليس بوذيا”، فلا أعتقد أن أعتى ملحد في مصر يمكن أن يفكر في إجبار شخص على أن “يسجد للكلب” كما ظهر في الفيديو، إن ممارسة كتلك لا علاقة لها بحرية الاعتقاد، بل بمناخ يسمح بازدهار الممارسات السادية من دون مراجعة أو عقاب، (لنتذكر مرة أخرى أننا في مستشفى ولسنا في سجن أو خرابة للمجرمين)، ولولا تسرب الفيديو إلى الجمهور لمرّ كما لابد أن غيره قد مر، فالمرء لا يصل إلى مستوى الفظاعات التي رأيناها في الفيديو من أول مرة، هذا حتى لو تجاهلنا القصص التي انفجرت على وسائل التواصل عن “فرعنة” بعض أساتذة الطب في مؤسساتهم ومستشفياتهم، بل إن بعض تلك القصص حكيت دفاعا عن الطبيب المتهم، في محاولة وصف ممارساته على أنها مجرد “هزار”.
ولهذا فإننا لا ينبغي أن نأمل أن نكون في دولة أخرى حتى نتوقع أن واقعة كتلك ستفتح باب الهيمنة المفسدة على طلبة الجامعة وكوادر التدريس، الهيمنة التي تسمح بتوارث مثل هذه الممارسات جيلا بعد جيل، لينتقم كل جيل من الجيل التالي.
ولأنه لا يمكن التعليق على قرارات النيابة والقضاء سلبا أو إيجابا، ترحيبا أو رفضا، فإننا كذلك لا نعلق على قرار تبرئة مراقبات جامعة طنطا من التنمر على “فتاة الفستان”، فالتقاضي حق للجميع وكل قضية قابلة للإدانة أو التبرئة، فقط نأمل ألا نستيقظ يوما على واقعة أخرى تجعلنا نتمنى لو انتبهنا أكثر.