نكأت واقعة الاعتداء على ممرض بإحدى المستشفيات الخاصة من قبل طبيب ومساعده، وإجباره على السجود لكلبه، جِراح قطاع التمريض في مصر. الذي لا تعكس الممارسات العملية أهميته، ودوره التاريخي في الحفاظ على صحة المصريين.

الواقعة التي هزت مواقع التواصل الاجتماعي مارس فيها طبيب بمستشفى خاص انتهاكًا وعنفًا ضد ممرض ضمن الطاقم الطبي للمستشفى. وذلك بدعوى معاملته السيئة لحيوانه الأليف، وأمره بالسجود له، مصورًا الواقعة بالصوت والصورة.

واقعة “كلب الطبيب”

وهي الواقعة التي أمر النائب العام بالتحقيق فيها، وحبس الطبيب والموظف المساعد أربعة أيام احتياطيًّا على ذمة التحقيقات. وضبط وإحضار طبيب آخر مشاركًا؛ لاتهامهم بـ”التنمر على ممرض، ممَّن لهم سلطة عليه، واستعراض القوة قِبَله وسيطرتهم عليه واستغلالهم ضعفه”.

ونصت الاتهامات على “قصد وضع المجني عليه موضع السخرية والحطّ من شأنه في محيطه الاجتماعي. فضلاً عن استغلالهم الدين في الترويج لأفكارٍ متطرفة بقصد إثارة الفتنة وازدراء أحد الأديان السماوية. وتعديهم على المبادئ والقيم الأسرية في المجتمع المصري، ونشرهم عن طريق الشبكة المعلوماتية وبإحدى وسائل تقنية المعلومات تصويرًا مرئيًّا ينتهك خصوصية الممرض المجني عليه دون رضاه. واستخدامهم موقعًا وحسابًا خاصًّا على الشبكة المعلوماتية بهدف ارتكاب تلك الجرائم”.

https://www.youtube.com/watch?v=DUq1FbaK9gA&t=60s

وأمام النيابة العام تحدث المجني عليه عن تفاصيل ما تعرَّض له من تعدٍّ على نحو ما ظهَرَ بالمقطع المتداول. وجرى اتهام الأطباء باستغلال سلطة وظيفية عليا، بحسب توصيف النيابة، موضحًا أن التصوير المتداول الْتقط دون عِلمه أو رضاه مبديًا تضرره من نشره، وما حاق به من تداوله بين أهل بيته وقريته.

وتسبب تداول المقطع في حدوث غيبوبة للمجني عليه (الممرض) ودخوله المستشفى. وذلك بعد أن تسبب الأمر في وضعه محل سخرية، والحط من شأنه في وسطه الاجتماعي.

كما أعلنت  كوثر محمود نقيب التمريض لاحقًا وقفه عن العمل. وقالت إنها تحدثت مع الممرض وسألته عن فعلته فقال إن ذلك حدث تحت ضغط لقمة العيش وعدم وجود مصدر رزق غيرها”. وذكرت نقيب التمريض أن “قرار الوقف عن العمل والتحقيق شمل الطبيب و3 آخرين من بينهم الممرض المعتدى عليه. وسواء كان الفيديو “هزار” أو محل جد فجميع الأطراف مخطئون، وسيخضون جميعًا للتحقيق”.

أما المتهمان فقد برَّرا ما ظهر في التصوير باعتياد تقبُّل المجني عليه المزاحَ منهما ومن المتهم الهارب الذي صَوَّر المقطع. وهو ما أنكره المجني عليه من قَبوله هذا المزاح أو رضاه، بينما أقرَّا بصحة ما حواه التصوير وصحة ظهورهما فيه.

قلة حيلة.. “مُجبر الممرض لا بطل

الواقعة ليست الأولى، فطالما اشتكت الفرق الطبية، خاصةً فرق التمريض من انتهاكات وحوادث عنف من أهالي المرضى. وذلك رغم ما يعيشونه بشكل يومي من ضغط نفسي، وانهيار بعضهم أمام الظروف الصعبة، وقلة إمكانيات بعض المستشفيات. والتي ظهرت بشكل سافر خلال وباء كورنا، وواقعة الممرضة الشهيرة التي لم تتمالك نفسها أمام انتهاء خزانات الأكسجين. ووفاة المرضى في واقعة مستشفى محافظة الغربية.

يقولون “مجبرٌ أخاك لا بطل” عندما يأتي إنسان بأمرٍ أرغمته الظروف عليه. هذا بالتحديد ما ذهبت إليه الناشطة وعضو نقابة التمريض سيدة السيد بقولها إن لوم المجني عليه، ومحاسبته على تحمله هذا الكم من الإهانات قصورٌ في فهم ملابسات الموقف.

النقطة الأهم في الواقعة، وفق سيدة، هي ظروف المجني عليه الاقتصادية والعمرية، باعتبار أنّ انصياعه للطبيب يأتي من منطلق واقع اقتصادي مرير لأصحاب هذه المهنة. فضلاً عن عمر المجني عليه، والذي يخشى أن يتم فصله نتيجة رفض المستشفيات تعيين من هم في مثل عمره.

أما الزاوية الثانية، فتتعلق بتصور سائد يضع الممرض في موقع الضعف أمام الأعلى شأنًا من أطباء ومديرين. والذي بدا الطبيب المتهم بالواقعة أحد المتنفذين فيهم، معلقة “يقدر يحاربه في أكل عيشه في اي مكان”.

التمريض ضحية فوضى القطاع الخاص

وأكدت سيدة أن الواقعة ما كان لها أن تتم لولا أنها في مستشفى تابع للقطاع الخاص، وليس حكوميا عاما. فلا تحكمه علاقات أخلاقية مهنية محددة المعالم، في ظل غياب أي حماية قانونية أو اجتماعية. وقالت: “التمريض في القطاع الخاص مهان، ولا يوجد أي غطاء حماية له”. وتابعت: “في العيادات الخاصة على سبيل المثال يطلب الطبيب من التمريض القيام بأعمال النظافة وهي من الأعمال البعيدة عن مجاله توفيرا للنفقات”.

الخبير في ملف الصحة الدكتور علاء غنام يرجع واقعة الطبيب إلى غياب المعايير سواء الأخلاقية أو الخاصة بجودة الخدمة المقدمة. فضلاً عن انعدام الرقابة على عمل القطاع الخاص.

رغم دوره الهام لكن حقوق التمريض مهضومه
رغم دوره الهام لكن حقوق التمريض مهضومه

وانتقد غنام أحوال القطاع الطبي خاصة الأطباء الكبار الذين هجروا مستشفيات الفقراء، وتفرغوا للمستشفيات الخاصة. وتابع: “لدينا مستشفيات خاصة لو طبقنا عليها معايير جودة الخدمة وتسعيرها وأخلاقياتها هنقفل نصها”. لذلك أكد أن واقعة طبيب السجود ما كانت لتحدث لولا أن أحداثها جرت بمستشفى خاص.

“التمريض مهنة مظلومة فى مصر بطريقة غير معقولة”، بهذه الكلمات الحزينة عبر العالم الكبير طبيب القلب مجدي يعقوب عن الواقع الأليم للتمريض في حديث سابق له

من جانب آخر، طالب غنام بضرورة الاهتمام بالصحة النفسية للقطاع الطبي، خاصة في مرحلة ما بعد الوباء. لأنه ربما تسبب في حالة من فقدان العقل الجمعي، على حد قوله، نتيجة الضغوط المتراكمة. متسائلاً على طريقة المفكر الراحل جلال أمين “ماذا حدث للمصريين؟”

“التمريض مهنة مظلومة فى مصر بطريقة غير معقولة”، بهذه الكلمات الحزينة عبر العالم الكبير طبيب القلب مجدي يعقوب عن الواقع الأليم للتمريض في حديث سابق له. وأشار إلى أن كوادره لا تحصل على التدريب الكافي أو الاحترام الكامل.

وبينما تشكل مهنة التمريض عصب القطاع الصحي في مواجهة الأمراض، خاصة خلال فترات الوباء. فإن مجلس التمريض الدولي يقر بأن 70% من الجمعيات والنقابات الوطنية حول العالم، قالت إن الممرضين والممرضات تعرضوا للعنف أو التمييز، ولذلك فهي قلقة للغاية إزاء حالات ضيق نفسي شديد وضغوط على الصحة النفسية.

نقص كوادر التمريض

ويمثل الممرضون والممرضات أكثر من 50% من القوى العاملة الصحية في العالم. ويشكِّلون أكثر من 50% من العجز الحالي في أعداد العاملين الصحيين على مستوى العالم بحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية. كما أن 80% من الممرضين المحترفين في العالم يعملون في خدمة 50% من السكان.

ومع ذلك، وبرغم الجهود العالمية والإقليمية المتواصلة لتعزيز القوى العاملة في مجال التمريض، لا تزال البلدان تواجه نقصاً حاداً في أعداد هذه الفئة من العاملين الصحيين.

وفي مصر، فإن أغلب المنتمين إلى المهنة هم من الإناث بنسبة تقارب 88% من إجمالي عدد العاملين. والذين يواجهون وطأة التمييز، فضلاً عن أنها من المهن التي تعاني نقصا في كوادرها.

ويصل عدد العاملين بالتمريض في مصر إلى 245 ألف ممرض وممرضة، أي بواقع كادر واحد لكل 245 مواطن. منهم 199 ألفاً يعملون في القطاع الحكومي، و25 ألفاً يعملون فى المستشفيات الجامعية، و55 ألفاً يعملون فى القطاع الخاص. بالإضافة إلى 21 الفًا يعملون في مستشفيات التأمين، و150 ألفاً انتقلوا للعمل خارج البلاد.

احنا من شهر 4 مش بنقبض غير المراتب فقد لا كادر ولا أماكن مغلقة ولا بدل إشراف ولا نوباتجيات ولا سهر #عاوزين_حقنا_وليس_اكثر
(استغاثة من فريق التمريض بمستشفى العامرية)

ورغم ذلك، تتراوح رواتب التمريض في مصر بين 1300 و1400 جنيه لحديثي التخرج رغم أن ساعات العمل تصل لـ12 ساعة. كما أن بدل العدوى لا يتجاوز 15 جنيهًا. بينما بعض الكوادر التي تعمل خارج القطاع الصحي بالأساس تصل إلى 3000 جنيه على سبيل البدل فقط. فى حين أن أعداد الإصابة المسجلة فيما قبل كورونا الخاصة بالتمريض نحو 1227، وذلك بعدوى أمراض مختلفة.

لماذا ضعُف الدور النقابي لمهنة التمريض؟

أحد الأسباب التي قادت إلى خفوت أصواتهم هو غياب الدور النقابي القوي المدافع عن أعضائه، على غرار بقية النقابات. هذا النطقة رصدتها دراسة بحثية أشارت إلى أن “الظروف المجتمعية المناهضة لمهنة التمريض، ودور الدولة الضعيف فى تطوير القطاع. والمردود المالي البسيط كعائد مترتب على العمل بمهنة التمريض أدى للعزوف عن العمل بالتمريض واقتصاره على الفئات الفقيرة والريفية والمهمشة. وهو ما تسبب فى عدم القدرة على تكوين كيان نقابي مهني قوي كما هو الحال بالنسبة لنقابة الأطباء أو المهندسين أو المحامين. وبالتالى لم يستطع أعضاء مهنة التمريض بلورة رؤية حقيقية للنهوض بالمهنة أو تحسين أوضاعهم المادية أو حتى تحسين الصورة المجتمعية السلبية تجاههم”.

وأرجعت الدراسة البحثية سبب هروب الممرضات من مستشفيات وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية إلى الدوافع المادية. مع الأجر الضعيف الذى تحصل عليه الممرضة مقارنة بالعمل الخاص أو العمل بالخليج. علاوةً على سوء المعاملة من المواطنين، وضغط الأطباء عليهن.

تدني أجور التمريض

ويقول الدكتور علاء غنام إن الكوادر الطبية، خاصة التمريض تتعرض لظروف بالغة السوء، في ظل العمل لساعات طويلة، وأجور متدنية. وفي المقابل يتم التعامل معهم بشكل مهين وغير لائق، فضلاً عن التنميط الاجتماعي للمهنة، والتعامل معها بدونية.

وقال غنام إن مهنة التمريض في بلد مثل بريطانيا، على سبيل المثال، تتقدم الأطباء أنفسهم. من حيث الأجور، أو حتى التقدير المجتمعي، والتي تصل إلى آلاف الدولارات سنويا.

وتصنف كلية التمريض في الغرب بأنها من الكليات شديدة الأهمية، كما يحظى خريج كلية التمريض بتقدير كبير ويحصل على شهادة مشرف تمريض. كما يدرس طالب الكلية العديد من مواد الطب والصيدلة؛ مما يجعله ملماً بالعديد من الأمراض والأدوية المختلفة.

في الوقت نفسه أشار غنام إلى أن غياب استراتيجية واضحة من وزارة الصحة لتطوير وضع طواقم التمريض، أنتج وضعا فوضويا حتى على المستوى الفني لتلك الكوادر، بحيث تتنوع مستوياتهم ما بين الجيد جدا والضعيف.

غياب الرؤية الواضحة لتطوير المنظومة الصحية وخصوصًا فرق التمريض أمر وافقته الناشطة وعضو نقابة التمريض سيدة السيد التي لفتت إلى أن مسألة تنمية، وتدريب الكوادر تغيب تمامًا عن مستشفيات القطاع الخاص. كما لا يتم إلزامه بها، بينما يكتفي القطاع العام بالندوات، والمؤتمرات النظرية من حين إلى آخر.