تحت عنوان “سلالة خبيثة للقاعدة في العراق”، نشرت مؤسسة إنترناشيونال كرايسس جروب، مقالًا لمدير برامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وست هيلترمان. ونُشر كجزء من سلسلة بعنوان “إرث 11 أيلول/سبتمبر و”الحرب على الإرهاب”؛ زعم فيه أن غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003 أدى إلى ما وصفه بـ”ظهور نوع شرس من التطرف الإسلامي السني المسلح”. قاصدًا انفصال فرع القاعدة بالعراق، ثم ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش“، مُعتبرًا أن التنظيم أُنشيء بهدف قتل المسلمين الشيعة بقدر ما عمل على محاربة الاحتلال.
يتتبع هيلترمان في مقاله التحليلي صعود التنظيم تحت الاحتلال، منذ بدأ الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي تأسيس فرع لتنظيم القاعدة. وصفه بأنه “أكثر خبثاً في طائفيته من القاعدة التي أسسها بن لادن، وأنه عازم على قتل الشيعة بوجه خاص” لاعتبارهم مرتدين. ثم انفصالها عن التنظيم الرئيس الذي كان يقع تحت وصاية أسامة بن لادن؛ في وقت كان فيه التخطيط للمشروع الأمريكي في البلاد “سيئاً وتنفيذه أسوأ”، كما قال.
وكتب هيلترمان:
اتصل بي صديقي آرثر في أحد صباحات صيف عام 2003، مباشرة بعد أن عدت من العراق، الذي كان قد سقط في يد الولايات المتحدة في نيسان/أبريل من ذلك العام. كان آرثر مديراً لبرنامج اللاجئين في لجنة “محامون من أجل حقوق الإنسان”. قبل ذلك بعشر سنوات، كنا قد سافرنا معاً إلى العراق، وإيران وتركيا لدراسة أزمة اللاجئين في أعقاب حرب الخليج 1990-1991. الآن. قال إنه يريد زيارة بغداد للمشاركة في اجتماعات حول الكلفة البشرية للحرب الجديدة. وسألني ما إذا كان ينبغي عليه أن يأخذ معه سترة واقية من الرصاص. كنا في مجموعة الأزمات قد قرعنا ناقوس الخطر بشأن التمرد المسلح الناشئ في العراق، استناداً إلى ملاحظاتي خلال زيارتين قمت بهما منذ الغزو الأميركي. لكن الوضع في العاصمة، وإن كان فوضوياً، كان ما يزال هادئاً مقارنة بما لم نكن نعرف أنه سيحدث. قلت له إن السترة الواقية من الرصاص لن تكون شيئاً إلزامياً.
بعد شهر من ذلك الحديث، كان آرثر يجلس في مكتب الممثل الخاص للأمم المتحدة، سيرجيو فييرا دي ميلو، عندما اقتحمت شاحنة مسطحة مقر الأمم المتحدة في فندق القناة في بغداد. الذي أعيد تأهيله لهذا الغرض، وفجرت قنبلة كبيرة أدت إلى مقتل كلا الرجلين إضافة إلى 20 آخرين، أحاول أن أريح ضميري بالتفكير بأن سترة واقية من الرصاص لم تكن لتنقذ صديقي، لكني لن أعرف ذلك على نحو مؤكد.
كان التفجير الانتحاري في فندق القناة أول هجوم من نوعه في العراق بعد سقوط صدام حسين. وأعلن المسؤولية عنه أبو مصعب الزرقاوي، وهو مجرم أردني كان قد ارتكب جرائم صغيرة لكنه انضم إلى الحلقات الجهادية في السجن ومن ثم جذبه الاحتلال الأميركي إلى العراق. تماماً كما كان مقاتلون من سائر أنحاء العالم الإسلامي قد تدفقوا إلى أفغانستان التي احتلها السوفييت قبل جيل. قبل ذلك بعامين. كانت القاعدة قد رسخت مواقعها كاسم جهادي عالمي بتنفيذها هجمات 11 أيلول/سبتمبر في الولايات المتحدة، واستهدافها “عدوها البعيد” –القوى الغربية– بطريقة مشهدية.
غزو أفغانستان ردا على هجمات سبتمبر
كانت الولايات المتحدة قد ردت على الهجمات في نيويورك وواشنطن أولاً بغزو أفغانستان، حيث كانت طالبان التي تحكم البلاد توفر ملاذاً لأسامة بن لادن وعصابته، ومن ثم في العراق أيضاً. لم تكن الصلة بين القاعدة والعراق واضحة، وكما تبين لاحقاً، لم تكن موجودة عموماً، على الأقل إلى أن اجتذب الغزو الأميركي نفسه إلى البلاد أولئك الذين سيصبحون جهاديين. سمحت الظروف الخاصة السائدة في العراق بسبب الغزو الأميركي، والتوترات القديمة بين الطوائف الدينية في العراق، للزرقاوي بتأسيس فرع قوي للقاعدة. فرع أكثر خبثاً في طائفيته من القاعدة التي أسسها بن لادن، وعازم على قتل الشيعة، بوجه خاص. كان الزرقاوي يعتبر الشيعة مرتدين، وهي فكرة متطرفة لم يكن سنة العراق بشكل عام يعتنقونها حينذاك. لكنه تمكن من حشد الدعم السني بسبب عداء الكثير من السنة لإيران واعتقادهم بأن الشيعة ارتبطوا بقضية مشتركة مع جارة العراق خلال حرب الثمان سنوات بين البلدين في ثمانينيات القرن العشرين.
وخلال سنة واحدة، أصبح التمرد المسلح الذي كانت مجموعة الأزمات قد تنبأت به في أوج نشاطه ويستهدف بشكل رئيسي القوات الأميركية وقوات الأمن العراقية الناشئة. إلا أن مجموعة الزرقاوي. التي سرعان ما تبرأت منها القاعدة المركزية بسبب نشاطها المنفرد ونظرتها الطائفية، سيطرت على أجزاء من التمرد المسلح وحولتها إلى شيء مختلف تماماً. فباستهداف رجال الدين الشيعة وبيوت العبادة، إضافة إلى الأسواق المكتظة في الأحياء ذات الأغلبية الشيعية، فإن هذه القاعدة حديثة النشأة في العراق أغرقت البلاد في حرب طائفية شريرة. وردت الميليشيات الشيعية، وبعضها مدعوم من إيران، على عمليات القتل بمثلها، فهاجمت ليس فقط مقاتلي القاعدة في العراق بل أيضاً السكان السنة في البلاد بشكل عام. كان يمكن لتلك المعركة أن تحدث حتى دون وجود القاعدة في العراق، بالنظر إلى ربط سلطة الاحتلال الأميركي بشكل علني جداً للسنة بنظام صدام وتصنيفها شيعة البلاد على أنهم مقموعين – وهي سردية لم تفعل الأحزاب الإسلامية الشيعية الحاكمة الجديدة الكثير للحد من انتشارها. غير أن القاعدة في العراق كانت بالتأكيد عود الثقاب الذي أشعل الفتيل المشبع أصلاً بالنفط.
ومع اشتداد أوار الحرب الطائفية، تحول المجتمع العراقي من مجتمع متنوع إلى مجتمع منقسم بعمق، وهو تغير تم التعبير عنه أول الأمر بالطريقة التي بات العراقيون يعرفون بها أنفسهم. إضافة إلى زياراتي إلى العراق، حضرت أيضاً عدداً من ورشات العمل مع عراقيين في عمان، التي كنت قد اتخذت منها مقراً لعملي حينذاك. قبل عام 2005، كان هؤلاء العراقيين، وهم بشكل رئيسي سياسيين وتكنوقراط وشخصيات من المجتمع المدني، يعرفون عن أنفسهم إجمالاً على أنهم عراقيين؛ ثم بدأوا فجأة، كما لو أن يداً خفية تحركهم، بالإشارة إلى أنفسهم وإلى بعضهم بعضاً على أنهم سنة وشيعة.
عملية كوماندوز 2006
اغتالت الولايات المتحدة الزرقاوي في عملية كوماندوز عام 2006. ومع فقدانها لزعيمها، فإن القاعدة في العراق لم تستعد قوتها. لكنها لم تختفِ أيضاً، بل ظلت على قيد الحياة كحال حركات التمرد في سائر أنحاء العالم، بالاختباء في الأرياف، والظهور فجأة فقط لإضعاف معنويات السلطات عبر غارات ليلية على نقاط التفتيش، ونصب الكمائن للدوريات على الطرق الرئيسية وأحياناً القيام بتوغلات في المناطق الحضرية. إلا أن الضرر كان قد لحق بالمجتمع العراقي؛ فعمليات القتل الطائفي استمرت حتى بدون أن تحفزها وتوجهها عمليات القاعدة في العراق الأكثر دموية، مع هيمنة الميليشيات الشيعية الآن.
اخترق القتال المناطق السنية –الشيعية المختلطة لنحو ثلاث سنوات إلى أن نجحت الولايات المتحدة باستعادة قدر من النظام عبر مقاربة عسكرية جديدة– “الحشد” – وتعبئة المجموعات القبلية السنية. وقد كان دافع هؤلاء لمحاربة تنظيم القاعدة في العراق الشراسة التي تعامل بها هذا التنظيم مع السنة الذين لم ينحنوا لإرادته. في عام 2012، هرب بقايا تنظيم القاعدة من العراق إلى سورية الغارقة في حرب أهلية لإعادة تشكيل أنفسهم كنسخة جديدة أخرى من القاعدة. وسرعان ما انفصلوا عن القاعدة المركزية بشكل أكثر قطعية لإنشاء تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والاستحواذ على جزء كبير من شمال سورية، حكموه بوحشية قبل العودة منتصرين إلى العراق في أيار/مايو 2014. ومن ثم أعلنوا عن تأسيس خلافة جديدة في المناطق التي بدأوا بـ “تحريرها” من سيطرة بغداد – والتي بلغت في النهاية نحو ثلث البلاد.
باختصار، فإن الغزو الأميركي خلق وحشاً. فالقوات الأميركية التي رحب بها كثيرون لإطاحتها بديكتاتور فظيع، وأيضاً سلطة الائتلاف المؤقتة التي تم تأسيسها فوراً. فقدت شعبيتها بسبب عدم قدرتها (التي فسرت على أنها عدم استعداد “لفرض الأمن، إضافة إلى تفكيك الجيش العراقي، والحظر الشامل لحزب البعث. ورعاية وتمكين المنفيين العراقيين، والأبوية في الحكم – التي جعلها عدم كفاءة سلطة الائتلاف المؤقتة أكثر مرارة) وتجاهل المؤسسات العراقية الحاكمة التي كانت قد ظلت تعمل رغم الحكم العنيف لنظام صدام. وحتى بعد تفكيك سلطة الائتلاف المؤقتة، وتسليم زمام السلطة لحكومة عراقية مؤقتة في عام 2004، فإن الوجود الأميركي كان مكروهاً ومقاوماً بفعالية من قبل أولئك الذين شعروا بأنهم وضعوا في الخانة الواسعة للتعاون مع نظام صدام، وهي التهمة التي اعتبروا أنفسهم أبرياء منها. بالنسبة للقاعدة في العراق، كانت تلك بيئة مثالية يمكنها أن تزدهر فيها، بالاستفادة من استياء ومظالم إحدى المجموعتين.
هزيمة القاعدة في العراق
بمرور الوقت، أحكم المتشددون العراقيون سيطرتهم على القاعدة في العراق، ومنحوها، وخليفتها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، قيادة عراقية مهيمنة تمتلك أيديولوجيا ذات صبغة عراقية وتستند جزئياً إلى الدين (وهو شكل ضيق جداً. ويقول البعض إنه منحرف، من الإسلام السني) وجزئياً إلى الشوفينية العربية العراقية. العديد من الكوادر العليا في التنظيم كانوا من أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للنظام المخلوع. اليوم، وبعد هزيمة التنظيم واستعادة جميع الأراضي التي كان يسيطر عليها في العراق وسورية، تعود بقاياه للعب اللعبة الطويلة للتمرد المسلح التقليدي، التجول بعيداً عن أعين السلطات والتحرش بالقوات الحكومية عبر هجمات مباغتة في محاولة لإعادة بناء القوة القديمة لما يسمى بالخلافة.
إن مصير القاعدة والدولة الإسلامية في العراق أقل أهمية من الرسالة التي بعث بها ظهورها؛ وهي أن الأيديولوجيات الخبيثة والتنظيمات العنيفة موجودة في كل مكان من حولنا، لكنها بحاجة للتربة المناسبة للازدهار. وقد وفر لها العراق ما بعد الغزو تلك التربة، وكذلك العديد من البلدان والمناطق الأخرى التي مزقتها الحرب منذ ذلك الحين. وحتى لو كانت الولايات المتحدة قد اتبعت سياسة أكثر حكمة تركز على بناء مجتمع عادل بقدر ما تركز على التخلص من عدو متعب، فإنها كانت ستجد صعوبة في تحقيق أهدافها. لكن رغم جميع ادعاءاتها، فإن تطبيق الديمقراطية في العراق لم يكن مجال تركيزها الرئيسي، ونشأت القاعدة في العراق في الفوضى التي خلقتها.
كان التخطيط للمشروع الأميركي في العراق سيئاً وتنفيذه أسوأ. فقد سمح بترسيخ بعض العمليات الديمقراطية، لكن هذه العمليات وقعت ضحية للفساد المستشري الذي شجعت عليه هي نفسها. وقلت حينذاك – وما زلت أعتقد بقوة – إنه ما كان لينجح، حتى ولو خصصت له موارد أكبر بكثير، وقدر أكبر من الخبرات ودرجة أكبر من الإرادة. مهما كانت حكومات المنطقة بحاجة للإصلاح، فإن الحكام المستبدين في الشرق لن يتم إسقاطهم بشكل دائم بأيدي أجنبية، وخصوصاً ليس عبر خطط غير ناضجة تعتمد على قراءات انتقائية جداً للتاريخ، وتسييس الاختلافات الإثنية والدينية، وتعزيز قوة بعض المجموعات على حساب مجموعات أخرى، دون رأفة أو رحمة. هذه هي الظروف التي يمكن استغلالها بسهولة والتي نشأ فيها الزرقاوي وعصابته.
هجوماً دراماتيكياً على رموز القوة الأميركية
من منظور الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، فإن المناورة العراقية كانت فعلاً لا مبرر له في إيذاء الذات، حتى لو كان معظم العراقيين قد شعروا بارتياح عميق برحيل النظام القديم، وحتى لو كان كثيرون منهم ما يزالون لا يرغبون بعودة أي نظام شبيه به. لقد كان رداً زائفاً على هجمات 11 أيلول/سبتمبر، بالنظر إلى أن أياً من منظمي أو منفذي الهجوم لم يكن له أي علاقة بالعراق. لقد كان حالة من حالات الغطرسة التي منحت تنظيماً جهادياً كان قد نفذ للتو هجوماً دراماتيكياً على رموز القوة الأميركية فرصة في تفريخ العديد من مقلديه المحتملين، مثل الزرقاوي وزعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي، في الشرق الأوسط وغيره. إضافة إلى ذلك، فإنه بعث حياة جديدة في النزعة الجهادية العالمية بعد أن فقدت ملاذاتها الآمنة في أفغانستان وكانت في حالة انحسار بشكل عام.
بعد 11 أيلول/سبتمبر، أصبحت الحرب العراقية المسرّع الأول للجهادية، فأغوت العديد من الشباب الساعين إلى فرصة لتحقيق البطولة والشهادة، وتشكيل مجتمع وإيجاد غاية ومعنى لحياتهم. كما أظهرت الحالة العراقية أنه في حين أن المظالم لعبت دوراً رئيسياً في تشكيل القوة الدافعة للتمرد – المظالم ضد الاحتلال الأميركي؛ وضد الأحزاب الإسلامية الشيعية التي سيطرت على الدولة، وهمشت السنة؛ وضد الراعي الرئيسي لهذه الأحزاب، إيران – فإنها تبنت أيديولوجية خارجية، مع ما يرافقها من هجمات مشهدية على أهداف مختارة، لتوفير الوقود الذي سمح للتمرد بالانتشار واتخاذ شكله الطائفي الخبيث.
المفارقة، أن القاعدة في العراق، ولاحقاً الدولة الإسلامية في العراق والشام باتت من القوة إلى حد يدفع إيران والولايات المتحدة إلى التلاقي وأحياناً التعاون دولياً في جهودهما المنفصلة في محاربة الجهاديين. عارضت إيران الوجود العسكري الأميركي في العراق لكنها لم تعارض مساعدتها في محاربة الجهاديين السنة. الولايات المتحدة، من جهتها، كانت مختلفة مع إيران منذ ثورة عام 1979 وأزمة الرهائن، لكنها ما تزال ترى فائدة للميليشيات المدعومة إيرانياً في المحافظة على النظام الجديد المتداعي الذي كانت قد خلقته في العراق، خصوصاً في محاربة تمرد مسلح عنيد. كل ما هنالك أنها تفضل اندماج هذه التنظيمات بشكل كامل بالدولة المركزية المدعومة من الولايات المتحدة والخضوع لسيطرتها.
مجالس الصحوات
كما تظهر الحالة العراقية أيضاً أن الجهاديين يمكن أن يكونوا أسوأ أعداء أنفسهم من خلال التطرف. إن وحشيتهم تزرع الخوف لكنها أيضاً تنفر أنصاراً محتملين، بل مجتمعات بأكملها، على سبيل المثال عندما تفرض عقوبات قاسية على التدخين أو تجبر الأُسر على التخلي عن بناتها “بتزويجهن” لهم. بسبب هذه الممارسات بالذات تمكّن الجيش الأميركي من تعبئة المجموعات القبلية التي باتت تعرف بـ “مجالس الصحوات” أو “أبناء العراق”. كان يمكن للقاعدة في العراق أن تكون أكثر فعالية بكثير في كسب السكان في المناطق التي نشطت فيها لو أنها جعلت من نسختها من الفكر الإسلامي السني أكثر اعتدالاً أو مثلت المظالم المحلية من أجل اجتذاب السكان المستائين وتزويدهم بالعتاد اللازم وشحنهم عقائدياً وحشدهم. بدلاً من ذلك، كانت القاعدة في العراق حاملة معول تدمير ذاتها. علّمت هذه التجربة بعض فروع القاعدة التي نشأت لاحقاً، مثل جبهة النصرة في سورية، أن تخفف من حدة نهجها في الحكم، وبالتالي تعزيز شرعيتها وتوسيع نطاق حكمها.
قتل الزرقاوي قبل خمسة عشر عاماً، إلا أن إرثه العنيف مستمر في العيش بعده. وهو واضح في دول هشة وفي ميادين المعارك في سائر أنحاء العالم الإسلامي، وكذلك في مدن الغرب وروسيا. لم يخترع الزرقاوي التفجيرات الانتحارية، لكنه حولها إلى سلاح جهادي عابر للحدود الوطنية يستعمل بشكل روتيني. وجعل من استهداف المدنيين سياسة عامة – وهي في الأصل ممارسة حربية قديمة إشكالية حتى داخل الجماعات الجهادية – في البيئات غير الحربية. كما إنه أول من استحدث أسلوب الهجمات المزدوجة، بتفجير قنبلة ثانية حالما تكون القنبلة الأولى قد اجتذبت فرق الإسعاف والأشخاص المندفعين للعثور على أحبائهم.
إن فكرة ألا أحد آمن، وأن القاعدة الوحيدة هي عدم وجود قواعد، مخيفة على نحو خاص، بما في ذلك للعاملين في الشأن الإنساني الذين يسعون، دون أن يكون لهم أجندة سياسية، إلى نجدة ضحايا الحرب وتقديم العون لهم. أحد هؤلاء الأشخاص هو جيل لوشر، الذي توفي عام 2020 عن خمسة وسبعين عاماً، وهو خبير في شؤون اللاجئين تنقل في سائر أنحاء العالم لتقديم المشورة للأمم المتحدة. وكتب بشكل موسع عن التهديدات التي باتت مهنته تتعرض لها. وحذّر في كتاباته من أنه “في الحرب العالمية على الإرهاب، أصبح الخط الفاصل بين النشاط الإنساني والنشاط العسكري مشوشاً”.
وكان لوشر يعرف عما يتحدث. فمن بين الأشخاص الثمانية في مكتب فييرا دي ميلو في زاوية فندق القناة عندما انفجرت القنبلة الموضوعة في الشاحنة، كان الشخص الوحيد الذي ظل على قيد الحياة، رغم أنه فقد ساقيه أثناء محاولة سحبه من بين الأنقاض. ورغم إصاباته، استمر في عمله في صياغة السياسات الدولية المتعلقة بقضايا اللاجئين، من خلال كتاباته، وبالتالي السماح للوكالات الإنسانية بتقديم معالجة أفضل للتحديات الحرجة التي يواجهها عالمنا الذي يزداد تعقيداً، والمساهمة في إرث يستطيع أن يستمر ربما بعد موت إرث الزرقاوي.
[مهداة إلى آرثر هيلتون، سانت لويس، ميزوري، 1949 – بغداد، 2003]