هنا في القاهرة، في المدينة حيث التحضر والرُقي كما هو مفترض، تعاني المرأة منذ طفولتها من سوء معاملة في الشارع حيث التحرش. وفي العمل حيث الأجور الأقل مقارنة بزملائها الرجال، والتعامل معها كطرف تابع للرجل سواء أب أو زوج، وكذلك نظرة المجتمع الدونية لها كأم مطلقة أو أرملة أو تعيش بمفردها مستقلة.

هنا في المدينة وفي كل المدن تخوض النساء حربا بالفعل يوميا، في الطريق إلى العمل وفي مدارس الأبناء، في البحث عن سكن بمفردها وفي المطالبة بالطلاق ونفقة الأولاد في المحاكم. في محاول إثبات أنهن متساويات مع الطرف الآخر، أحيانا يكون هناك قانون تلجأ له فيُطبق في أحيان وأحيانا أخرى يستطيع الطرف الآخر المؤذي التملص أو النفاد من ثغرة قانوينة يهرب بها من تحمل العقاب. وأحيانا يدعمنا بعض الأقارب المتنورون وأحيانا نلجأ لمنظمات حقوق المرأة فتدعمنا بالنصائح القانونية أو الدعم النفسي. ولكن في الريف، حيث الأرض والرجال وسلطة العادات والتقاليد فقط، لا داعم أمامها ولا مفرمنها، تواجه المرأة الريفية كل هذا وحدها. تواجهه غير متعلمة، فقيرة، ربما تعول أسرتها، تعاني من نقص الرعاية الصحية.

حقوق ضائعة 

يقول بيان صادر عن الأمم المتحدة احتفاء بالمرأة الريفية: “نعترف بالدور الحاسم للمرأة الريفية، بما في ذلك نساء الشعوب الأصلية، في تعزيز التنمية الزراعية والريفية، وتحسين الأمن الغذائي، والقضاء على الفقر في الأرياف”.

وتمثل المرأة نسبة كبيرة من القوة العاملة الزراعية، بما في ذلك العمل غير الرسمي، وهي تقوم بالجزء الأكبر من أعمال الرعاية والأعمال المنزلية غير المدفوعة الأجر داخل الأسر والأسر المعيشية في المناطق الريفية. وهي تسهم إسهاما كبيراً في الإنتاج الزراعي، والأمن الغذائي والتغذية، وإدارة الأراضي والموارد الطبيعية، وبناء القدرة على مواجهة تغير المناخ. ومع ذلك تعاني النساء والفتيات في المناطق الريفية أكثر من غيرهن من الفقر بجميع أشكاله. فعلى سبيل المثال، قد تكون المزارعات منتِجات وصاحبات مشاريع مثل نظرائهن من الرجال، ولكنهن أقل قدرة على الحصول على الأراضي والائتمانات والمدخلات الزراعية ودخول الأسواق وسلاسل الأغذية الزراعية ذات القيمة العالية؛ كما أنهن أكثر عرضة للحصول على أسعار أقل لمحاصيلهن.

الأمم المتحدة لا تحتفي فقط بدور الفتيات والسيدات الفلاحات ولكن تُشير إلى أهمية دورها ليس فقط كأم وزوجة تدعم الزوج وتُقيم البيت. ولكنها كعامل اقتصادي مهم في الأراضي والأسواق كفرد مُنتج وفي كثير من الأحيان لا يتلقى أجرا ولا حتى تقديرا معنويا.

أدوار متعددة

حين كنت أزورها في البلد في إجازة نهاية العام، كنت أستيقظ ظهرا لأجدها قامت بكل شيء يمكن أن تفعله في الدار وخارجه. كانت تستيقظ فجرا فتجهز الإفطار لخالي في منديل كبير وأطباق صاج ملونة، وتسحب خلفه البهائم من حظيرة البيت وتمشي معه حتى “أول السكة” المؤدية للغيط تؤنسه. ثم تعود فتعجن وتترك العجين يختمر وتبدأ في إطعام الطيور وتزغيط البط الواحدة تلو الأخرى. ثم تبدأ في “تقريص” العجين لقطع خبز متماثلة الشكل والوزن بلا ميزان أو مقارنة، يدها هي الميزان. تحمي نار الفرن وتبدأ في التبطيط والرح أو رق العجين وفرده، تساعدها ابنتها او إحدى الجارات. وبينما يخبزن العيش تحضر صواني الطعام، البتنجان والفلفل المشوي وتضيف له الصلصة وطاجن الأرز المعمر بالسكر والسمن وأحيانا فطيرتين على الماشي حين يكون عندها ضيوف مثلنا أو تود تدليل أسرتها.

تلملم جلسة الخبيز ثم تدور علينا توقظنا وتضع كل شيء على الطبلية الكبيرة، وحين ننتهي تقوم لتنظيف البيت واعداد الغداء، وحين يعود خالي من الغيط تستقبله بملأ أواني كبيرة لتشرب المواشي وتدخل ورائها لحلب لبنها الذي ستصنع منه جبن تبيعه يوم السوق مع بيض دجاجها، تضع العشاء وتضحك في وجه الجميع.

أيام السوق كنت أذهب معها فتبيع الجبن والبيض وربما بعض الحبوب أو تتبادلها بفاكهة تضعها فوق رأسها في المشنة –طبق يصنع من الخوص- وفي مواسم الحصاد تذهب إلى الغيط تجمع الذرة أو البرسيم أو الفول والخضراوات وتعود مرة أخرى لعمل المنزل ومتابعة 5 أبناء في أكلهم ونظافتهم وانجاز واجباتهم المنزلية التي كانت تتم أحيانا بالشبشب الطائر..

ظلت هكذا حتى مات خالي صغيرا وتزوج الأبناء جميعا ولا تزال تراعي الأحفاد حتى الأن في بيت العائلة وتعلم زوجات الأبناء الصغيرات كيف يصبحن مثلها. هي أم عظيمة وزوجة داعمة متفانية ومدبرة برتبة وزير أقتصاد بارع، وفلاحة ماهرة في الأرض، وسيدة مُنتجة. وحين جاء حقها في الميراث لم تستطع استلام جزء من أرض أبيها بل تم تقديره ماديا كده بالبركة من اخوتها الرجال. ولم يكن هذا بالنسبة لها شيء مجحف او ظلم بل بالعكس هي محظوظة، أفضل حالا من كثيرات لم يستطعن حتى أن يفتحن أفواههن بالمطالبة بحقهن في أمتلاك الأرض.

المرأة الريفية ومصادر السلطة

يشير الدليل الصادر عن البنك الدولي بعنوان قضايا الجنسين في الزراعة إلى “أن قوة إنفاذ القانون الرسمي أضعف من الأعراف والتقاليد في المناطق الريفية. ويلاحظ أن القانون الرسمي يتناول أساساً المشاكل الحضرية وينص على حلول حضرية ويترتب على انتشار مصادر السلطة المحلية آثار على إعمال حقوق المرأة في المناطق الريفية. بمعنى أنـه يمكـن أن يحرمها من قدرتها على المطالبة بحقوقها وتحدي مصادر السلطة هذه”.

وبالطبع فالأعراف والتقاليد في الريف تُعطي الرجل حق الامتلاك للأراضي والبيوت والحيوانات، وكذلك أن تكون له سلطة مُطلقة في قرار زواج بناته. وفي كثير من الأحيان يتسبب ذلك في الزواج المبكر بجانب الإصرار على الختان والتسريب من التعليم ونفسيا ومعنويا يُفضل ابنه الذكر على الإناث. حتى في حصصهن من الطعام، فالولد والشاب يحوز على النصيب الأكبر من البروتين والخبز والفاكهة. فتصبح الجملة هكذا أكثر واقعية: الأعراف والتقاليد تُعطي الرجل حق الأمتلاك للأراضي والبيوت والحيوانات والنساء.

النساء يدفعن ثمنا أكبر

بشكل عام فوضع المرأة المصرية كزوجة وعاملة سيء وغالبا تأثرت اقتصاديا وماديا في فترة الإغلاق وتعليق العمل في العام الماضي بسبب كورونا. وحين عادت المصانع والشركات للعمل تم الاستغناء عن كثيرات منهن وتفضيل إدارات هذه المصانع والشركات والمحلات لعودة الرجال عنهن. بينما الوضع قبل الإغلاق كان سيئا حيث – حسب الأرقام الرسمية- ففي نهاية عام 2019 مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء أعد تقريرا بالأرقام عن وضع المرأة المعيلة في مصر. جاء فيه أن من أكبر المشكلات عدم استطاعة السيدات المعيلات الإنفاق على صحتهن، وعدم وجود دخل كاف لهن، وأخيرا سكن بعضهن في أماكن لا يوجد بها خدمات أساسية مثل المياه والصرف الصحي، ما يصعب من مسؤولياتهن.

نسبة كبيرة من هؤلاء المعيلات دخلهن لا يكفي الأسرة ما ترتب عليه خروج بعض الأبناء من التعليم نتيجة قلة الدخل. كما أن أغلبهن غير متعلمات وبالتالي تقل فرص العمل لديهن في القطاعات الرسمية لأن قدرات بعضهن محدودة.

ومن المعروف رسميا أن هناك 33% من الأسر المصرية تُعيلها 18% من النساء، سواء في وجود زوج أو عدم وجوده، و41%من إجمالي العمالة غير الزراعية من الإناث. وأخريات يعملن في وظائف غير رسمية و34%من عمالة الإناث في أعمال هشة. كما أن 6.7% يعملن في قطاع الصناعات، و56.8% يعملن في القطاع الخدمي. وتمثل المرأة المصرية 70% من القوى العاملة في قطاع الرعاية مدفوعة الأجر علاوة على ذلك، يمثل قطاع الرعاية المدفوعة في مصر حوالي 28-31% من إجمالي عمالة الإناث. وتزيد احتمالات عمل النساء في قطاع الرعاية المدفوعة بـ4 مرات أكثر من الرجال، و 36.4٪ من الإناث يعملن في الزراعة.

“محلاها عيشة الفلاحة”

فليس “محلاها عيشة الفلاحة” مطلقا، فهي تبدو أنها تعيش بين الطبيعة والخير والهدوء بعيدة عن الزحام والإزعاج ولكنها بعيدة أيضا عن مفهوم حقها في المطالبة بحقوقها: المادية والجنسية والنفسية والمساواة في التعليم وتلقي الرعاية الصحية. هي بعيدة وترضى بواقعها ومقتنعة -كثيرات منهن- بأن هذه هي الحياة الطبيعية وأن هذا هو دورها وهكذا يجب أن تعامل.

اُحرض كل فتاة ريفية أن ترفض استغلالها وتطالب بالمساواة بداية من حقها في التغذية مثل أخوها وذهابها للمدرسة مثله. وأطالب كل أم ريفية لم تستطع أن تدافع عن حقها بأن تعوض بناتها الصغيرات بدعمهن في بداية حياتهن، تساوي في المعاملة وتمنحهن حق الاختيار في التعليم والزواج والميراث.

 

 

ويقتضي أي نهج لحقوق الإنسان تحديد المجموعات الضعيفة. غير أن هنـج حقـوق الإنسان نفسه يقر بأن الضعف ليس سمة معينة تعزى إلى جنس الشخص، ولكن الضعف يعتبر بناءً اجتماعياً، . وفي معظم الحالات، تكون أنماط التمييز، بحكم القانون أو بحكـم الأمـر الواقع، الناشئة إما عن فعل الدولة أو الأسرة أو امتناعهما عن الفعل، هي سبب هذا الضعف. والحقيقة المؤكدة التي تفيد بزيادة احتمال تعرض المرأة عن الرجل إلى الجوع في جميع أنحـاء العالم وخاصة في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية ترجع جذورها إلى أنماط التمييز.