أعادت تركيا فتح ذراعيها لعائلة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، في محاولة تبدو محاطة باستشراف مصير التيارات الإسلامية بغرب ليبيا. تلك التيارات التي لقيت دعمًا منقطع النظير من الأتراك لتثبيت وجودهم السياسي والعسكري، حماية للمصالح التركية بالعمق الليبي وفي المتوسط.
اليوم وبعدما بات مصير تيارات الإسلام السياسي التي أفرزتها ثورات الربيع العربي يتلاشى تدريجيًا في المحيط العربي. وجدت تركيا في تبديل لعبة تبديل الكرسي فرصة سانحة، من خلال دعم عائلة الزعيم الراحل معمر القذافي للانخراط كلاعب رئيس في المشهد، باستطاعته اقتناص كرسي الحكم في بلد ممزق بفعل الحرب.
عندما أفرجت السلطات الليبية عن الساعدي القذافي استقل طائرة خاصة إلى تركيا، وهي الوجهة التي فضلها من بين ثلاث وجهات عرضت استضافته. في الأثناء كشفت الشواهد عن دور تركي يبدو في مشهد الإفراج عن عدد من عائلة وأركان النظام السابق من بينهم أحمد رمضان، المعروف بـ”اليد اليمنى للزعيم الليبي الراحل”.
في بداية أحداث 2011، تذكَّر الزعيم الليبي معمر القذافي علاقته بالأتراك، وعندما أثير حديث عن تدخل دولي لدعم الانتفاضة الشعبية، كان القذافي لا يزال متفائلاً بشأن احتمالات دعم رجب طيب أردوغان لنظامه. وقال القذافي في مقابلة مع محطة “تي آر تي” التركية قبل 10 أيام فقط من التدخل: “ستغير تركيا بالتأكيد موقفها عندما تدرك الطبيعة الحقيقية للأحداث”. “الأتراك إخواننا. نحن نتشارك في تاريخ مشترك. لقد عاش شعبنا معًا لعدة قرون. كلنا عثمانيون”.
مكالمة أردوغان وسيف القذافي
عندما تحدث سيف القذافي لأول مرة من مكان إقامته في الزنتان لصحيفة “نيويورك تايمز” في أغسطس الماضي، استحضر واحدًا من المواقف بعيدة الدلالة. قال سيف إنه كان يتلقى اتصالات هاتفية منذ اندلاع الاحتجاجات في فبراير 2011، من زعماء أجانب كانوا يعتبرونه “وسيطًا بينهم وبين أبيه”.
أحد المتصلين المعتادين كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قال عنه سيف القذافي: “في البداية كان في صفّنا ضد التدخل الغربي، ثم بدأ يقنعني بمغادرة البلاد”. وأضاف أن أردوغان “وصف الانتفاضات بأنها مؤامرة خارجية تُحاك منذ زمن بعيد”.
اقرأ أيضًا| ليبيا.. ماذا تعني عودة سيف القذافي؟
خلال هذا الحوار قال نجل القذافي إن الظروف تغيرت وإن المقاتلين الذين اعتقلوه قبل عشر سنوات قد تحرّروا من وهْم الثورة وأدركوا في نهاية المطاف أنه قد يكون حليفًا قويًّا لهم. لذلك يبدو أن ثمة علاقة بين استدعاء الماضي وما يحاك لمستقبل العملية السياسية في ليبيا.
تركيا و”ليبيا ما بعد 2011″
اختارت تركيا رسم علاقتها بليبيا ما بعد 2011 بناءً على المصلحة، فشهد حضورها منعطفات، لكنّ أوضحها الدعم المطلق لتيارات الإسلام السياسي التي تسيطر على العاصمة ومناطق الشق الغربي من ليبيا، وهي الأقرب للمصالح التركية في المتوسط.
ساعد التدخل التركي في الغرب الليبي على منع عملية عسكرية قادها قائد قوات شرق ليبيا المشير خليفة حفتر لاستعادة المناطق الغربية من الجماعات المسلحة والإخوان المسلمين. وقتها وسّعت تركيا مصالحها في الغرب الليبي، وأقامت قواعد عسكرية ومشروعات اقتصادية.
وبعدما ضاق الشعب الليبي من الحرب الممتدة والمتصلة وكفر بالنخبة المتصارعة شرقًا وغربًا، بدأت تركيا في مراجعة خياراتها بليبيا؛ في محاولة لتأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية، وهي لا تستبعد احتمال، بل حتمية، خروج متصدري المشهد الحالي في عملية اقتراع شعبي مقررة بنهاية العام الجاري.
وهي تعيد ترتيب أوراقها في ليبيا، لم تتجاهل تركيا مَن بإمكانه حماية التعاون العسكري واتفاقات ترسيم الحدود البحرية التي وقعتها أنقرة مع حكومة طرابلس. هنا فهي مضطربة لدعم تحالف يجمع الحلفاء في الغرب الليبي ولاعب جديد يمكنه الآن إحداث فارق كبير في حال تُرك الأمر لاختيار شعبي، هذا اللاعب هو النظام السابق، الذي قيل دائمًا عنه لو عاد الأب القذافي مرة أخرى لحكم ليبيا التي دمرها “جيل فبراير” المتناحر على السلطة.
هدفان لتركيا من إعادة ترتيب الأوراق
خلال المعركة التي شنتها قوات ليبيا ليبيا على مناطق الغرب، انضم كثير من أنصار معمر القذافي إلى صفوف المشير خليفة حفتر. وهنا يمكن الاعتقاد بأن وجود تركيا في مشهد الإفراج عن سعدي القذافي وأتباع النظام يهدف إلى انفضاض أتباع القذافي عن قوات الشرق، في محاولة لتمكين حلفائها في طرابلس والاستثمار في سيناريو عودة محتملة لعائلة القذافي، وفق ما رصد موقع المونيتور الأمريكي مؤخرًا.
الهدف الثاني هو تنويع أنقرة لحلفائها، بعد أن أدركت أن القوات المتمركزة في طرابلس لن يكون قادرة على تأمين مصالح تركيا بمفردها، وأن الوضع على الأرض سيكون أكثر تقلباً بعد الانتخابات الرئاسية في 24 ديسمبر.
يساعد تركيا في هذا المشهد، الطبيعة التي بدا عليها المجتمع الليبي حاليًا، والذي قابل إطلاق سراح السعدي وأقرانه بترحيب واسع، وصل إلى حد الاحتفالات في بعض مدن البلاد. كان ذلك متماشيا مع مبادرة أطلقتها الحكومة القريبة من غرب البلاد لتنفيذ مصالحة وطنية شاملة تستهدف في أحد بنودها الواضحة حتى الآن الإفراج عن قيادات النظام السابق المسجونين، وعدم اعتراض طريقهم إلى السلطة، من خلال تسهيل قانون انتخابات لا يحظر ممارستهم للسياسة.
اقرأ أيضًا| تركيا وروسيا تسعيان لاستنساخ صفقتهما بسوريا في ليبيا
محمد المنفي، رئيس المجلس الرئاسي الليبي، وصف هو الآخر عملية المصالحة الوطنية التي أطلقها رسمياً في 7 سبتمبر الجاري، بأنها “تعكس رغبة حقيقية لليبيين في تجاوز الخلافات ونبذ الانقسام ووقف إراقة الدماء وإراقة الدماء. وضع حد لكل الآلام”.
من الواضح أن إطلاق سراح بعض السجناء من السجون لم يكن تطورًا مفاجئًا وسط عملية المصالحة الجارية والاستعدادات للانتخابات. كما أشار رئيس الوزراء عبد الحميد دبيبة إلى ضرورة المصالحة بإعلان إطلاق سراح سعدي القذافي.
امتداد لعلاقة الوالد
بالعودة إلى العلاقة التركية بعائلة القذافي، فإنّ ثمة دوافع قوية ترشح هذا الدعم الذي يمكن أن يحظى به الابن “سيف” إذا ما قرر جديا المضي في أمر ترشحه لرئاسة ليبيا. هذه العلاقة التي وطئنا لها بمكالمات لم تنقطع خلال باكرة الثورة عام 2011، كانت مبنية على علاقة ممتدة مع الوالد معمر القذافي.
في عام 1974، بدأت تركيا غزة قبرص، وقتها لم يؤيد الغزو سوى ليبيا. يرصد هذا التفاعل الدكتور نبيل المظفري، أستاذ التاريخ بجامعة كركوك العراقية في كتابه “العلاقات الليبية التركية 1969 – 1989″، الصادر عام 2010. يقول المظفري إن السفير الليبي اتصل بالقذافي فرد الزعيم دون تردد: “سنقف معهم مدى الحياة وسندعم كل قراراتهم”.
اتسمت علاقة القذافي بالأتراك بشيء من الخصوصية الشديدة، والتي كانت تسمح له تطوعا طرد العمالة البلغارية من ليبيا عندما يقع مشكلة بين البلغار من أصل تركي وحكومة صوفيا. وهو موقف يمكن اعتباره مغالاة دبلوماسية، باعتبار أن الأتراك لن يلموه إن احتفظ بعمالة البلغار في بلاده. لكن ذلك يكشف جانبًا من العلاقة بين الطرفين، ويفسر أيضًا الآن لماذا اختار الساعدي القذافي عندما حصل على حريته من سجن طرابلس أن يطير إلى تركيا.
لماذا عائلة القذافي مهمة لتركيا؟
قبل انتفاضة 2011 بعامين، تعاقدت ليبيا مع 35 شركة تركية لتنفيذ 207 مشاريع. وتعهد القذافي وقتها بتمكين شركات تركيا من تنفيذ استثمارات حكومية، خلال ثلاث سنوات، قيمتها 100 مليار دولار. وكانت أنقرة تخطط لاستثمار 35 مليار يورو في البنى التحتية بليبيا خلال الأشهر العشرة الأولى من العام 2011.
حاليًا بات الاقتصاد التركي يشهد أول انكماش منذ عقد، وفي سبيل الانفكاك من هذه الاختناق الاقتصادي، تخطط أنقرة لحصول الشركات التركية التي تعمل منذ عقود في ليبيا على حصة كبيرة في ملف إعادة إعمار البلد الغني بالنفط.
اقرأ أيضًا| “برلين 2” والتواجد العسكري التركي في ليبيا.. هل تنجح مناورات أردغان؟
العام الماضي تحدث مدحت ينيغون، رئيس اتحاد المقاولين الأتراك لوكالة “فرانس برس” بما يُشبه المصارحة حول الأهداف التركية في ليبيا، عندما قال: “هناك حالة خراب في ليبيا للأسف، وستكون هناك فرصة لصفقات كبيرة في قطاع البناء في البلاد. أقدرها بحوالي 50 مليار دولار”.
وفي مقابلة مع قناة “العربية” السعودية في أغسطس 2019، أطلق قذاف الدم ابن عم معمر القذافي، واحدًا من أغرب تصريحات عائلة العقيد الراحل، عندما قال إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه حصلا من القذافي على 30 مليار دولار كعقود استثمارية ودعم لهما للوصول إلى الحكم والسلطة في تركيا والفوز بالانتخابات البرلمانية.
هل الدبيبة عرّاب الصفقة؟
إزاء ما سبق، فإن عبدالحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية، الذي يقال إنه يقف وراء عمليات الإفراج عن عدد من رموز نظام القذافي، قالت عنه وكالة “فرانس برس” إنه يتمتع بعلاقات قوية مع تركيا. كما أنه عندما أجريت عملية الاقتراع في جنيف وفاز خلالها برئاسة حكومة موقتة، تفيد المعلومات التي تسربت وقتها بأن أنصار القذافي الذين شاركوا لأول مرة في حوار سياسي منذ 2011 أعطوا أصواتهم للدبيبة.
العامل المشترك في علاقات الدبيبة، وهو رجل أعمال ثري، علاقته بعائلة القذافي من جهة وتركيا من جهة أخرى. وسبق أن تولى إدارة مؤسسات إبان حكم النظام الليبي السابق؛ وكان من المقربين من العقيد معمر القذافي. كما أشرف على مشروعات استثمارية واتفاقيات أبرمتها ليبيا مع الجانب التركي إبان حكم القذافي.
بعد الإطاحة بنظام القذافي، حافظ الدبيبة على حضوره السياسي من خلال تأسيس حركة “ليبيا المستقبل”، التي اعتبرها البعض امتدادًا لمشروع “ليبيا الغد” الذي أطلقه سيف القذافي في السنوات الأخيرة من حكم أبيه، باعتبارها مشروعا إصلاحيًا من الداخل.
ما موضع الحضور التركي من التفاعل الدولي والإقليمي؟
هذا الحضور التركي في المشهد الليبي يأتي متزامنًا مع تزايد الحضور الإقليمي في المشهد الليبي، يبدو في مجمله قريب من توجه دعم المصالحة الوطنية. ففي الوقت الذي وصل فيه رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي إلى قطر، طار نائبه عبد الله اللافي العاصمة الإيطالية روما اليوم الثلاثاء، فيما ينتظر أن يصل رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة خلال ساعات العاصمة المصرية القاهرة.
كما استقبل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في القاهرة، الثلاثاء، رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، والقائد العام لقوات القيادة العامة المشير خليفة حفتر. في الوقت الذي كانت اللجنة العليا بين البلدين تعقد اجتماعا لوضع تصور مشاركة الشركات المصرية في خطة إعادة إعمار ليبيا.
اقرأ أيضًا| ليبيا والمبادرة المصرية.. السيناريوهات المتوقعة لمستقبل الصراع
في مقاربة بين الموقف المصري والتركي حيال الملف الليبي، يبدو أن الحوار الاستراتيجي الجاري حاليًا بين القاهرة وأنقرة، سيلقي بظلال عميقة على الواقع الليبي، وفق ما رصد مراقبون للمشهد خلال الأسابيع الأخيرة. كما أن الموقف الإيطالي القريب في حدوده الدنيا من الأطراف الفاعلة في غرب ليبيا، يبدو متفقًا مع الموقف القطري، وهي محاولات يمكن قراءتها على أنها دعم لإجراء الانتخابات المرتقبة قبل نهاية العام الجاري. فيما يبقى الحضور التركي رهينة التوافق مع الجانب المصري الفاعل الأساسي في الملف الليبي.