خرجت كثير من التقارير العربية والعالمية لتفتح ملف الإسلام السياسي في العالم العربي، وتحدث كثير منها عن هزيمة حزب العدالة والتنمية في المغرب. وعن مسؤولية حركة النهضة عن الأزمة السياسية في تونس، واسترجع البعض الثالث تجربة الإخوان المسلمين في مصر.

والحقيقة أن المقارنة بين تجارب مصر وتونس والمغرب واردة لأن القوي الثلاثة وصلت إلى السلطة عبر استخدام الآليات الديمقراطية، حتى لو اختلفت فيما بينها في الشكل والمضمون. فستظل خصوصية تجربة الإخوان في مصر أنها التجربة الوحيدة التي وصل فيها فصيل إسلامي للسلطة بشروط الجماعة الدينية وليس الحزب السياسي. على خلاف حالة حزبي النهضة والعدالة والتنمية، ولذا كان مسارها مختلفا وعنيفا.

التجربة الأولي: فشل الإخوان المسلمين

لا يجب التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين بنفس المنطق الذي يتم التعامل به مع حزبي النهضة في تونس والعدالة والتنمية في المغرب ولا أي حزب سياسي له مرجعية إسلامية. فجماعة الإخوان المسلمين جماعة دينية عقائدية تصف نفسها أنها جماعة ربانية، وتعتبر أن الانضمام لها جهاد في سبيل الله وأن أعضائها في مرتبة أعلى مقارنة بباقي أفراد المجتمع.

إن هذا التنظيم الديني المحكم والمغلق والمتعدد المستويات والذي لا يقبل أعضائه إلا على أساس التزامهم ببرامج إعداد دينية وتطلب الولاء والثقة المطلقة في القيادة. واعتبره سيد قطب مظهر العبقرية الضخمة في بناء الجماعات ويجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل في داخل النفس قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظما.

إن قناعة عضو الإخوان المسلمين أن انتماءه للجماعة “جهاد في سبيل الله” وأن الحفاظ عليها هدف وغاية في حد ذاته. تحول بعد وصوله إلى السلطة إلى عنصر ضعف لأنه أصبح عامل انغلاق وعزله عن باقي أفراد المجتمع، وحول الرابطة التنظيمية والتربية الدينية لدي الجماعة إلى شعور بالتمايز والتفوق على الآخرين.

لقد خسرت جماعة الإخوان المسلمين على مدار أكثر من 90 عاما كل معاركها السياسية والدينية مع النظم المختلفة دون أن تقدم تجربة نقدية واحدة. والغريب أنها خسرت معاركها وهي في المعارضة في مواجهة النظام الملكي والنظم الجمهورية، وحين لاحت لها فرصة استثنائية ووصلت للسلطة بعد ثورة التحقت بها ولم تصنعها. خسرت معركتها أيضا بتكريس مشروع استفاد من الآلية الديمقراطية من أجل التمكين الأبدي من السلطة.

إن دخول تنظيم ديني المجال السياسي بشروطه الدينية الخاصة وليس بشروط الحزب السياسي المدني يعني منذ البداية خلل بنيوي سيؤدي إلى فشل مدوي للتجربة. وسيحول أي خلاف سياسي بين التنظيم وخصومة إلى خلاف على الدين، أو مع “التنظيم الرباني” الذي يحمل رسالة دينية وليس برنامج سياسي. وهذا ما يفسر حجم العنف الذي مارسه الإخوان عقب خروجهم من السلطة مقارنة برد فعل حركة النهضة على إجراءات الرئيس التونسي التي استهدفتهم بشكل أساسي.

المؤكد أن هناك صعوبات وتحديات كثيرة في دمج الأحزاب المدنية ذات المرجعية الإسلامية في مسار بناء دولة القانون والديمقراطية. أما التنظيم الديني فمستحيل دمجه في العملية السياسية والديمقراطية، ولا بد من الفصل الكامل بين أي جماعة دينية وبين الحزب والمجال السياسي.

التجربة الثانية أزمة النهضة

حركة النهضة هي حزب سياسي له مرجعية إسلامية وكثير من قادته انتموا لفكر الإخوان ولتنظيمه الدولي، بما يعني إنه يمكن وصف الحركة إنها في “منزله وسط” بين التنظيم الديني والحزب السياسي المدني. وظلت خليط بين الاثنين، فالحركة ظلت تمارس السياسة والدعوة الدينية ولم تفصل بينهما إلا في 2016، وهو ما جعلها تتقدم بقوة للسيطرة إذا لاحت لها فرصة تكريس مشروع التمكين مثلما تفعل أي جماعة إخوانية. وتتراجع وتناور مثل أي حزب سياسي مدني في حال وجود ضغوط قوية عليها في الداخل والخارج.

ومع ذلك فلا يمكن تجاهل تأثير التجربة السياسية الديمقراطية في تونس على قطاع من أعضاء النهضة وشبابها ممن انضموا لها في السنوات العشر الأخيرة لأسباب محض سياسية. فهي بالنسبة لكثيرين منصة لتحقيق طموحاتهم في عضوية المجالس المحلية أو المجلس التشريعي، أو قناعة ببرنامجها السياسي. فكان منهم العمال والموظفون والتجار بجانب آلاف الفتيات غير المحجبات، وكل هؤلاء كانوا بعيدين عن أوهام أستاذيه العالم والاستعلاء الإيماني والجماعة الربانية التي يرددها الإخوان. وتفرض على كل عضو أن يبقي محبا للجماعة لسنوات قبل أن تقبله كعضو عامل فيها.

حركة النهضة
حركة النهضة

يقينا تواجه تونس حركة سياسية مراوغة تمثل عقبة أمام الانتقال الديمقراطي وبناء دولة القانون المدنية، ولكنها ليست جماعة دينية وهو فارق مهم في التحليل والنتائج وأيضا أدوات المواجهة. ولا يمكن تصور أن حل إشكالية النهضة في تونس سيكون بنفس الطريقة التي اضطرت فيها مصر أن تتعامل مع جماعة دينية عقائدية مغلقة مثل الإخوان المسلمين. وبالتالي فإن قدرة الرئيس التونسي على وضع بديل سياسي يؤمن به غالبية التونسيين، والذهاب نحو استفتاء لتعديل الدستور في اتجاه نظام رئاسي ديمقراطي. من شأنه أن يحجم حركة النهضة ويعجل بتأسيس ثاني لها يفصل بين أجيال الإخوان القديمة وبين أعضاء الحزب السياسي المدني الذين انضموا إلية في السنوات الأخيرة.

التجربة الثالثة هزيمة العدالة والتنمية وفوز المغرب

يقينا لا يمكن وصف حزب العدالة والتنمية في المغرب بأنه “إخوان” ولا يمكن اعتباره حزبا أو جماعة دينية فهو منذ نشأته فعل “ما يقوله الكتاب” لتأسيس حزب مدني حديث حتى لو احتفظ بمرجعيته الإسلامية. فهو لم يمارس الدعوة الدينية كما فعلت حركة النهضة التونسية، وألتزم بالقوانين المغربية التي تحظر على الأحزاب السياسية ممارسة الأنشطة الدينية. كما أن علاقته بالحركة الدينية التوحيد والإصلاح (لم تنتم في أي مرحلة من مراحلها إلى التنظيم الدولي للإخوان). ظلت غير تنظيمه، فقد دعت الحركة للتصويت له في انتخابات 2011 و2016 ولكنها قررت الحياد في الانتخابات الأخيرة، ولنا أن نتخيل الفارق بين هذه العلاقة غير التنظيمية بين الجانبين والتي يمكن أن نجدها بين جمعيات أهلية دينية وأحزاب سياسية في كثير من البلاد الديمقراطية. وبين علاقة التلاحم العضوي التي قدمتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر بين الجماعة الدينية وذراعها السياسي (الحرية والعدالة).

والحقيقة أن التحليلات المغاربية التي عالجت أسباب الهزيمة المدوية لحزب العدالة والتنمية (حصل على 13 مقعدا في مقابل 125 في انتخابات 2016) لم تشر إلى أن السبب الرئيسي في خساراته إنه “إسلامي”. إنما ركزت في أغلبها على أسباب تتعلق بأداء الحزب وإخفاقاته الاجتماعية طوال السنوات العشر التي قضاها في السلطة، بجانب انقسامه الداخلي. وفقدانه هويته السياسية بقبول التطبيع مع إسرائيل وحضور رئيس وزراء الحزب (سعد الدين العثماني) لحفل التوقيع الثلاثي الذي ضم ممثلين عن الجانب الإسرائيلي والأمريكي.

بالمقابل فإن الحزب الفائز في الانتخابات الأخيرة وهو التجمع الوطني للأحرار (حصل على 97 مقعدا)، فرغم إنه حزب تجار وأعيان وشرائح عليا من الطبقة الوسطي. إلا إنه أيضا حزب مهنين ربح أعضائه منذ تأسيسه عام 1977 معظم انتخابات النقابات المهنية والغرف التجارية ويضم فنانين ورياضيين، أي إنه رغم علاقاته القوية بالسلطة الملكية إلا إنه اعتمد أساسا في نجاحه على قاعدته الاجتماعية.

والحقيقة أن بنيه حزب العدالة والتنمية المدنية ووجوده في ظل نظام ملكي راسخ لديه تقاليد عريقة وهامش ديمقراطي. كل ذلك جعل الخسارة المدوية لحزب العدالة والتنمية لا تمثل أي تهديد للعملية الديمقراطية ولا لثوابت النظام السياسي، حتى لو كانت هناك شكاوى من بعض تدخلات أجهزة الدولة، وشكاوى أكبر من المال السياسي. وتجعل فرص عودته في أي استحقاقات انتخابية مستقبليه وارده إذا راجع أسباب الخلل والهزيمة.