كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لا يكترث بمشاعر أصدقائه عندما هزَّ صورة ملك السعودية أمام جمع غفير من أنصاره في ولاية فرجينيا، في أكتوبر 2018، حين تندَّر على الملك سلمان بكلمات تخلو من صياغات دبلوماسية من نوعية “ادفع لتبقى في الحكم”؛ وقتها علَت صيحات الجماهير ضحكًا واستهزاء، لكنها كانت شهادة رسمية على فقدان دول الخليج الثقة في واشنطن.

مكاشفة ترامب

وقتها لم يترك ترامب، الشريك القاسي في مفرداته، سقف الخوف مفتوحًا، حين حدده بأسبوعين فقط. قال أمام الجماهير إنه أخبر الملك سلمان بأنه “لن يبقى بالسلطة أسبوعين من دون حماية أمريكية”. كان الرئيس الأمريكي عائدًا لتوه من الرياض تركًا خلفه عناوين رئيسية لكبرى صحف المملكة مفادها الملك سلمان والرئيس ترامب يبحثان العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، ومعها سيل من المفردات المعتادة من جنس “التعاون المشترك”.

https://www.youtube.com/watch?v=gCifrXT4oOA

جرّدت الولايات المتحدة علاقاتها مع دول الخليج العربية من كل دبلوماسية خطابية، فهي راسخة وتاريخية عندما تفتح الدول النفطية خزائنها لواشنطن، ودون ذلك فستُترك تحت وطأة تهديدات قادمة من دولة منافسة دينيًا وسياسيًا، إنها إيران التي تحتفظ واشنطن دائمًا بـ”كرتها”؛ كي ترفعه في وجه الخليج عندما تطلب مالاً إضافيًا.

حديث ترامب دفع دول الخليج لفقدان الثقة في الحماية الأمريكية بعدما أذاعته علنًا، وهنا بدا لتلك الدول أن الذهاب إلى إيران بإرادة تريد التصالح وكفّ الأذى، أقل كُلفة وأكثر ضمانًا من تقلُّب أمزجة الساكنين في البيت الأبيض. فانخرطت في مباحثات يجرى تعريفها بأنها “حوار استراتيجي إقليمي” ترعاه العراق ويهدف إلى تسكين الأزمات بالمنطقة.

سياسة بايدن الانسحابية

ترامب يرحل وإعصاره يخمد، لكن ما انخفض هو الخطاب فقط، عندما خلفه زعيم يحتفظ بقدر كبير من الدبلوماسية والكلام المنمق، لكنه كثير الفعل، فيقرر جو بايدن سحب قواته وأنظمة دفاعه من المنطقة، لتترجم أفعاله ما نطق به سلفه ترامب.

سيطرت على دول الخليج تخوفات مشروعة من أن الولايات المتحدة ماضية في تقليص التزامها بأمن الخليج. وعززت تلك المخاوف مواقف “واشنطن بادين”، المرتكزة على السياسة “الانسحابية” من الشرق الأوسط. هذه المخاوف أثارها مسؤول خليجي في حديث مع وكالة “رويترز” الأمريكية عندما قال إن الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان أثار تساؤلات لدى حلفاء واشنطن العرب في الشرق الأوسط عما إذا كان بمقدورهم مواصلة الاعتماد على الولايات المتحدة.

اقرأ أيضًا|بايدن المناسب للشرق الأوسط وتقبل الاتفاق النووي.. قراءة في التحولات الجديدة بالمجتمع الخليجي

قدمت واشنطن دلائل على تغير سياستها، وهو ما دفع بالمسؤول الخليجي الذي وصفته الوكالة الأمريكية بالبارز للقول: “هل يمكننا بحق الاعتماد على مظلة أمنية أمريكية للسنوات العشرين القادمة؟ أعتقد أنها مسألة شائكة للغاية في الوقت الحالي.. شائكة جدًا حقًا”.

بايدن والملك سلمان
بايدن والملك سلمان

يبدو أن حبال الثقة تمزّقت بين واشنطن ودول الخليج العربي التي رأت في المحور الروسي، وتصفية الخلافات مع إيران، وتسكين الأزمات في المنطقة، حلاً مثاليًا، لعدم الانكشاف على مصير يخلو من الحماية، ويجعلها عُرضة لمصائر دول مجاورة.

لكن هل فعلاً بمقدور دول الخليج العربي أن تتخلص كليةً من الحاجة للولايات المتحدة الأمريكية؟ هنا يجب التعريج على جملة من الشواهد التي ترصد علاقة الطرفين. كما أنه لفهم مستقبل العلاقة بين دول الخليج العربية والولايات المتحدة يجب التمعُّن في استحضار إجابة مبنية على شواهد لهذا السؤال: أيُّ الطرفين في جيبِ صاحبه؟.

مواقف أمريكية فاترة

مخاوف دول الخليج من نزع الحماية الأمريكية ارتكزت على مواقف فاترة لإدارة واشنطن تجاه إيران المتهمة بالوقوف وراء الهجمات الصاروخية البالستية وعمليات التهديد البحرية لناقلات النفط. كما أظهرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال الفترة الماضية، علامات تشير إلى نيتها خلخلة شراكتها مع الرياض. من خلال مطالبتها بضبط الأعمال العسكرية في اليمن، وتعليق مبيعات الأسلحة للمملكة، واحترام حقوق الإنسان، ورفع الحوثيين من قائمة إرهابية، ونشر معلومات استخباراتية تؤكد تورط محمد بن سلمان في اغتيال خاشقجي.

وأظهرت التصريحات اللاحقة لقيادة واشنطن العسكرية، نية حقيقة لرفع غطاء الحماية، حيث صرّح الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة قائلاً: “بوضوح ليست لدينا قوة ردع لاعتراض هجمات على شركائنا في المنطقة. يمكنك أن ترى السعودية والإمارات تعرضت مؤخراً لاعتداءات”. كان الجنرال الأمريكي يعرض بحديثه على صواريخ الحوثيين على شركة أرامكو السعودية واستهداف سفن بميناء الفجيرة الإماراتي.

انسحاب عسكري

بعدما نشرت الولايات المتحدة منظومات صواريخ في الخليج للحماية من هجمات إيرانية، بدأت منذ منتصف العام الماضي عمليات سحابها تدريجيًا، كان آخرها في يونيو الماضي عندما سحبت أنظمة صاروخية دفاعية ومعدات عسكرية، بالإضافة إلى جنود من السعودية ومناطق أخرى بالشرق الأوسط، ضمن حملة قالت وزارة الدفاع الأمريكية إنها تهدف لإعادة تموضع مهمتها وقواتها لمواجهة روسيا والصين.

البنتاغون قام بسحب بطاريتي صواريخ وبعض الطائرات المقاتلة من السعودية ما أثار تكهنات حول الغرض من تلك الخطوة.
البنتاغون قام بسحب بطاريتي صواريخ وبعض الطائرات المقاتلة من السعودية ما أثار تكهنات حول الغرض من تلك الخطوة.

وقتها تحدثت تقارير عن عزم البنتاجون سحب ثماني بطاريات باتريوت المضادة للصواريخ من دول، بينها العراق والكويت والأردن والسعودية. وتتطلب كل بطارية مضادة للصواريخ وجود مئات الجنود، وسحب تلك البطاريات يعني رحيل آلاف الجنود الأمريكيين من المنطقة.

اقرأ أيضًا| موسم احتضان الخصوم.. بن سلمان يصنع كرسيه لحكم السعوديين

كما ذكرت وكالة “بلومبرغ” أن الجيش سحب منظومة أخرى مضادة للصواريخ، تعرف باسم منظومة دفاع في المناطق ذات الارتفاعات العالية الطرفية “ثاد” من السعودية، كما يجري تقليل عدد أسراب المقاتلات النفاثة المخصصة للمنطقة. ونُشر نظام ثاد في السعودية بعد ضربات جوية استهدفت موقعين نفطيين استراتيجيين في المملكة، اتُهمت طهران بالوقوف وراءها.

وفي مايو 2020 سحبت الولايات المتحدة بطاريتي صواريخ باتريوت وبعض الطائرات المقاتلة من المملكة العربية السعودية. وقتها كان الرئيس الأمريكي يضغط على الرياض لتخفيض إنتاج النفط.

الحوار الإقليمي.. والذهاب إلى إيران

راكمت السنوات الماضية مواقف صنعت عقيدة عسكرية خليجية قائمة بشكل شبه تام على طلب الحماية الأمريكية لأمنها العسكري والنفطي، غير أن الشواهد تشير إلى ارتباك عنيف في تلك العقيدة جعل دول العربية العربية تتخبط في استراتيجيتها التي ما انفكت تغيرها، كيف لها أن تبلور عقيدة جديدة، خالية من الأمريكان. هنا كان عليها أولاً تصليح علاقتها مع إيران.

الذهاب الخليجي إلى إيران للتفاهم معها، جاء بعد إدراك أن أمريكا لن تدافع عن أمنها، وهو ما اتسق تماما مع تصريحات أمريكية غير رسمية بأن واشنطن لا يريد الحرب مع طهران، بل إن الموقف وصل إلى حد التصريح الرسمي لدونالد ترامب بأن بلاده “لا يهمها إغلاق مضيق هرمز؛ لأنها لا تحتاج لنفط الخليج”.

اقرأ أيضًا| هل تستطيع إيران والخليج العيش في سلام؟

التوجه نحو إيران اتخذ مسارين، الأول دبلوماسي عبر الحوار الاستراتيجي الإقليمي القائم حاليًا، من أجل أن يعيش الخليج وإيران في سلام، والثاني من خلال خطوات تعاون اقتصادي قائم بالفعل ومتطور بين دول الخليج وجاراتهم إيران، وهو ما حدا بأبو ظبي لتوقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي وتبادل تجاري مع طهران قبل أشهر.

اتفاق بين الإمارات وإيران
اتفاق بين الإمارات وإيران

كما أن الانسحاب الإماراتي من اليمن الذي اكتمل في فبراير 2020 يمكن تصنيفه ضمن مراجعة الإمارات سياستها الخارجية تجاه طهران، باعتبار أن تقليص الوجود العسكري الإماراتي فى اليمن يهدف إلى تجنب استهداف الحوثيين وعدم استفزاز الإيرانيين. بعدها رصدت وسائل إعلام لقاءات علنية بين مسؤولين أمنيين من الإمارات وإيران، تركزت على مسائل “الأمن المشترك”. هذه السياسة الإماراتية، تستند إلى مخاوف تساورها بشأن أنشطة وكلاء إيران في المنطقة، لاسيما أن قدرات طهران الصاروخية يصل مداها لجميع الإمارات ومواردها الاستراتيجية.

اللاعب الروسي

مع خروج اللاعب الأمريكي من المنطقة، ظهرت مؤشرات على دخول نظيره الروسي أرضية الملعب، مرشحًا للعب دور ضابط الإيقاع بالخليج. وهو ما اعتمدت عليه بالفعل السعودية والإمارات، حيث وقعت الأولى اتفاقية تعاون عسكري مع موسكو قبل أيام، كما اقترحت روسيا بيع أسلحة متقدمة للمملكة. كما أعلن نائب وزير الدفاع الروسي ألكسندر فومين أن موسكو مستعدة لتوطين إنتاج الأسلحة والمعدات العسكرية في الإمارات.

ولاحقًا اتسعت العلاقة بين الرياض وموسكو، مع طلب الأخيرة شراء أنظمة “إس-400” الروسية للدفاع الجوي، وهو ما أزعج واشنطن التي قالت إن قانون مواجهة خصوم أمريكا بالعقوبات يتيح فرض عقوبات على أي دولة تشتري أنظمة سلاح روسية. وقبل أسبوع تطرق متحدث باسم الخارجية الأمريكية إلى هذا الاتفاق وقال إن واشنطن على علم بعقد اتفاقية التعاون العسكري بين روسيا والسعودية.

ومع تنامي العلاقات بين السعودية وروسيا، قال نائب وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان آل سعود في أغسطس الماضي، إن المملكة ملتزمة بتعزيز التعاون مع روسيا، وأن ذلك سيساعد على الاستجابة المشتركة للتهديدات والتحديات.

لم يكن الحضور الروسي مقتصرًا فقد على الذهاب الخليجي إلى موسكو، بل بادرت الأخيرة بطرح نفسها بقوة كبديل للخروج الأمريكي. بدا ذلك من خلال اقتراحها على مجلس الأمن إنشاء “تحالف أمني جماعي هدفه تخفيف التوتر الحالي في المنطقة”. لاحقًا اتفقت موسكو وطهران على إجراء مناورات بحرية في خليج عمان. وتخطط إيران وروسيا لإقامة قاعدة عسكرية في ميناء بوشهر، جنوب إيران على الساحل الشرقي للخليج العربي.

دول الخليج وسياسة الاعتماد على النفس.. هل قادرة على بناء قدراتها؟

عندما بدأت واشنطن سحب قواتها ومنصات الصواريخ من السعودية، بدا للرياض أن بإمكانها بناء قدرات ذاتية، للخروج من عباءة الابتزاز. فهل الخليج قادر على حماية نفسه وبناء قدراته؟

لم تتخذ السعودية خطوات ملموسة في هذا الاتجاه، باستثناء، قرار صدر أمس الثلاثاء عن مجلس الوزراء، برئاسة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، بإنشاء “الهيئة العامة للتطوير الدفاعي”، مهمتها البحث والتطوير في مجالات التقنية والأنظمة الدفاعية. وحددت الحكومة السعودية أهداف هذه الهيئة في القيام بأنشطة البحث والتطوير والابتكار بمجالات التقنية والأنظمة الدفاعية ووضع سياساتها واستراتيجياتها.

وبينما فاقت السعودية لتوِّها، فكرت الإمارات في تقوية نفسها أمام تقلبات الزمن والابتزاز الخارجي قبل أشهر. وفق بيانات رسمية صادرة عن جهات حكومية تشير إلى أن الإمارات تعمل على مستويين عسكريين حاليا هما: توطين الصناعة الدفاعية ورفع قدرات الأفراد العسكريين.

في أواخر 2019، دمجت الإمارات 25 شركة دفاعية محلية في شركة واحدة شاملة اسمها Edge.30ـ والتي تهدف إلى تسريع إنتاج الأسلحة، وقالت إنها تستهدف- بجانب الاحتياجات المحلية- التوريد للخارج، كما دخلت سوق الأسلحة الصغيرة عبر شركة Caracal.32، وطورت سلسلة من المركبات القتالية الخفيفة. وفي عام 2014 أدخلت الإمارات التجنيد الإلزامي للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عامًا. ورفعت حجم إنفاقها العسكري 1.66 مليار دولار في عام 2018 إلى 2.3 مليار دولار في 2019.