في البدء كانت الكلمة، وفي البدء تعلّم آدمُ ابتكار الأسماء، كان ذلك عملًا خارقًا وضروريًا لوجود الإنسان في العالم؛ فالعالم ما قبل الأسماء سديم لا يمتاز فيه شيء عن سواه، ولا يمتاز فيه كائن عن غيره.. لا أحد بمقدوره تصوّر العالم دون أسماء، أو دون القدرة على إطلاقها وتعيين ما يُحيط بنا.

وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يتعلم آدمَ الأسماء أولًا، وأن يُجرِّب هذه الطاقة المذهلة بنفسه قبل هبوطه إلى الأرض.. وظل آدم يلاحق – بطاقة اللغة الجبارة – العالم من حوله، يعيّن هذا ويكشف عن ذاك، لم يكن هذا عملًا عاديًا أو مجانيًا وإنما كان تملكًا للعالم وإعلانًا عن مركزية الإنسان وقدرته على الإيجاد والتّملّك والبحث والكشف.

ولم يكتف الإنسان بوضع اسم واحد لكل مُسمى؛ فوضع أكثر من اسم للمُسَمَى الواحد، وهذا ما يدرسه علماء اللسانيات (اللغات) تحت عنوان “الترادف”، ويرجعونه إلى أسباب مختلفة، ليس هنا مجال ذكرها، ولكنهم لا يتوقفون – بما يكفي – إزاء فكرة غواية الإنسان بالتسمية، ومجازية الخلق بها؛ فالتَّسمية تضيء المُسمى، توجده في الوعي بصفات مميَّزة، وما أوجده الوعي يصبح في حوزة الإنسان، والاحتياز تملّك وقدرة على التّصريف والتّسخير.

التسمية استبقاء للمُسمى كي يتمكن الذَّهن من استعادة صورته بعد غيابه. وهذا يعني أنها تقاوم الزمن والتحوّل والفناء. التسمية استمرار للحكاية واستبقاء لها من براثن الضعف والوهن، تلاحظ هذا المعنى في أكثر الفنون عمقًا وتركيبًا، كما تلاحظه في سلوك بسطاء الناس حين يطلقون أسماء موتاهم على مواليدهم الجدد، وهذا مسلك لا يخلو من حسّ المقاومة، والوجود كله مقاومة: نقاوم المرض بالطب، ونقاوم تغيّر الطقس ببناء المنازل، ونقاوم الغياب والتغير والصيرورة بالأسماء..الخ.

فالأسماء إذن لها طابع وظيفيّ يتصل بضرورة الحياة في العالم، ولا يمكن التواصل بدونها. وكان ضروريًّا أن تتفق كل جماعة بشرية على مدلول الكلمات التي تتداولها، تمامًا كما يتفق العربي على مدلول كلمات: أسد، جبل، شمس، شجرة، رجل، امرأة…الخ. إذ لا يمكننا الحياة دون اتفاق حول المفردات التي نتكلم بها، وهذا الاتفاق يمنحه لنا المجتمع الذي نعيش فيه؛ فحين ينطق العربي كلمة مثل: “شجرة” يدرك مراده كل من يعرف اللغة العربية، دون أن تكون ثمة علاقة واضحة بين هذه الحروف: “ش ج ر ة” وهذا المدلول الذي يستدعيه الذهن حين التلفظ بها، فكل ما هنالك مجرد اتفاق تعارفت عليه الجماعة العربية.

يبدو الأمر واضحًا أو بسيطًا مع أسماء الأشياء وما يحيط بنا، ولكننا حين ننظر في أسمائنا نجد الأمر أكثر تركيبًا؛ فنحن لا نُسمّي أولادنا ولم يُطلق علينا أباؤنا أسماءنا من أجل التعيين والتمييز فحسب، وإنما فعلوا ذلك طبقًا لعادات اجتماعية ومفاهيم دينية وأحيانًا أسطورية، فاكتسبت أسماؤنا أبعادًا أخرى بجوار بُعْدها الوظيفي؛ كالأسماء الدينية والطائفية والعِرْقية والطبقية، وما يعبر عن قيم معينة يحرص عليها المجتمع كالأمانة والشجاعة والصبر.. إلخ.

وهناك أسماء تنتشر في فترة زمنية معينة ثم تغيب في الفترات التالية، فقد يطلق الآباء على أبنائهم أسماء القادة السياسيين البارزين، وكذلك نجوم الغناء والسينما وشخصيات المسلسلات الدرامية.. وفي العقدين الأخيرين – وقد بات التواصل أسهل وأسرع – انتشرت في مجتمعاتنا أسماء ذات طابع مُعولم، تنتمي إلى ثقافات أخرى، وإن ظل ذلك قليلًا وداخل دوائر محددة (حتى الآن).

فالأسماء لا تشير إلى مُسَمّاها أو أصحابها فحسب، ولكنها تنطوي على أبعاد (فوق_وظيفية) يمكن استنتاجها أو ملاحظتها بقليل من التأمل.

*ولكن الإنسان لا يكتفي بالتمييز العام الذي يمنحه له الاسم فحسب؛ فالإنسان شغوف بمزيد من التمييز داخل هذا الإطار العام، ورحلته في الحياة يمكن اختزالها في رغبته في التميز وتطلعه إلى مزيد من التحديد والتخصص حتى لكأنّه عَلَمٌ في رأسه نار..!

ومن هنا جاءت الألقاب لتلبي هذا الاحتياج الذي لا يعرف التوقف، فاخترع الإنسان الألقاب السياسية والاجتماعية والوظيفية (المدنية والعسكرية) بالإضافة إلى الدرجات العلمية ليحقق ذاته ويؤكد جدارته بالامتياز. لقد كانت الألقاب ضرورة نفسية بقدر ما هي ضرورة اجتماعية، وأوجدت كل ثقافة ألقابها التي تُجسّد قيمها وأخلاقها، وكثيرًا ما يملك الفرد الواحد اسمًا ولقبًا أو اسمًا وعدة ألقاب.

في هذا الإطار تؤدي الألقاب للمجتمعات وظائف جليلة، فمن خلالها تتجسد قيمها العليا في سلوك أبنائها، ويزداد الأمر أهمية حين يغدو أحد هؤلاء الأبناء مضرب المثل في الكرم أو الحِلْم أو الشجاعة أو حتى مضرب المثل في القيم السلبية التي تنفر منها وتعمل على استبعادها كالجبن والبخل والجحود..الخ. وما أكثر ممثلي هذه القيم – الإيجابية والسلبية – في الثقافة العربية القديمة، وما أكثر الأمثال التي وضعت لتشير إليهم ويشيروا إليها؛ ففي الثقافة القديمة بات “حاتم الطائيّ” مضرب المثل في الكرم وعلامة عليه. لقد استأثر “حاتم” بهذا الوصف طبقًا لمواقف وأفعال بالغة الدهشة، فأصبح علامة على القيمة، وقل الأمر نفسه عن حِلْم “الأحنف بن قيس”، وذكاء “إياس بن معاوية”.

فالثقافة تصطفي من أبنائها من يمثّل قيمها العليا، وتتجسد في أقواله وأفعاله، لتنتقل القيم من حالة المثال المتصوّر إلى الواقع المعيش، ولتقنع الممتازين من أبنائها بمجاراة هذا النموذج ومحاولة تكراره بل والتفوق عليه.

وفي فترات التّحول والتغيّر الاجتماعي الجذري، ويكون ذلك عقب الثورات الدينية والاجتماعية تحتاج المجتمعات إلى نماذج جديدة تجسّد القيم الصاعدة التي جاءت بها الثورة أو الدين الجديد، وتضع  – بدرجة أو أخرى – حدًا فاصلًا بين زمنين ورؤيتين للعالم.

ففي كتب السيرة النبوية يمكنك أن تقف على بعض الألقاب خلعها النبي (عليه السلام) على أصحابه، حتى باتت تُعرف بهم ويعروفون بها، وكثيرًا ما تحلّ محلّ الاسم نفسه، وكأنها تنازعه الشهرة والمكانة، كما نجد في: لقب الفاروق الذي اختص به “عمر بن الخطاب”، ولقب “الصديق” الذي أصبح وقفًا على “أبي بكر”، و”سيف الله” الذي تلقفته يد خالد بن الوليد، و”أمين الأمة” الذي حازه “أبو عبيدة بن الجراح”…الخ.

لقد كان الرسول (عليه السلام) حريصًا على توشيح أصحابه بهذه الألقاب التي غدت بالنسبة لهم كالأوسمة الرفيعة التي تمنحها المجتمعات المعاصرة للنوابغ من أبنائها، والملاحظ أن النبيّ لم يكن يفرط فيها، ولم يجامل بها أصدقاءه؛ فكل لقب حازه أحدهم كانت له حكاية تتصل بحدث محدد أو موقف بارز استحق فيه صاحبه هذا التميز وذاك الوسام؛ ففي موقف معروف مشهور نال أبو بكر لقب “الصديق”، وفي موقف شهير أيضًا حاز العَدَويّ عمر بن الخطاب لقب “الفاروق”، وكذلك حصل خالد على لقبه … الخ.

وارتباط الألقاب بأحداث تاريخية ومواقف محددة جعلها تبقى وتستمر، بل وتهيمن على أسماء أصحابها، ليس هذا فحسب، وإنما دفعت هذه الألقاب أصحابها إلى مزيد من التميز في إطار اللقب، وهكذا وجدنا خالد بن الوليد سيفًا مسلولًا يخوض المعركة تلو المعركة منتصرًا غير منهزم، يوشحه اللقب ويتوشّح به، وكذلك رأينا ابن الخطاب عقلًا خطيرًا وقادرًا على التمييز القاطع حين يلتبس الرأي أو تعزّ الحكمة والرشد.

وهذا هو السياق المثالي الذي تتخلق فيه الألقاب الإيجابية؛ فكل حدث يظهر القيمة برّاقة تخطف القلوب والعقول بقدر ما يظهر معدن صاحب الوشاح، ويؤكد استحقاقه وفرادته.. وحين تتمكن دعوة ما من الحياة في أقوال الطبقة الأولى من المؤمنين بها وفي أفعالهم، فهذا يؤشر لنجاحها وتأثيرها في محيطها وثقافتها.  في المقال القادم نتابع الوجوه الأخرى لتحولات الألقاب ودلالاتها.