بعد فترة من الجمود امتدت لتسعة أسابيع منذ انتهاء إثيوبيا من الملء الثاني لخزان سد النهضة. أصدر مجلس الأمن الدولي بيانا رئاسيا في 15 سبتمبر الجاري، اقتصر على دعوة الأطراف المتنازعة للتفاوض بالعودة إلى نفس المسار والآلية التي يتبناها الاتحاد الأفريقي. بغية الانتهاء سريعاً من صياغة نص اتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل سد النهضة، في إطار زمني معقول.
مجلس الأمن شجع المراقبين السابق مشاركتهم في المفاوضات الماضية. للاستمرار في دعم مسار التفاوض بشكل نشط وتيسير تسوية المسائل القانونية والفنية العالقة.
ويعد البيان الرئاسي وثيقة رسمية من وثائق مجلس الأمن. وإن كانت لا ترقى لمستوى القرار. حيث لا يزال المجلس يرى أنه ليس جهة الاختصاص في حسم النزاعات الدولية على المياه العابرة للحدود. واقتصار جهوده على صيانة السلم والأمن الدوليين. حسب ما جاء في نصوص ميثاق الأمم المتحدة. ما جاء متوافقاً مع التوقعات بعدم قدرة المجلس على تحقيق اختراق كبير في الجمود الذي وصل له الموقف التفاوضي. خاصة مع عدم اتخاذ المجلس أي اجراءات توقف التصرف الإثيوبي الأحادي بالشروع في عمليتي الملء الأول والثاني للسد رغم الشكاوى التي تقدمت بها مصر والسودان.
ويأتي رد فعل مجلس الأمن وفق المادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة. بتحريك الجمود في المفاوضات دون ممارسة أي ضغوط أو الانحياز لأي من أطراف المشكلة. خاصة وأن ملف سد النهضة يعتبر سابقة حيث لم ينظر المجلس في أي من المشاكل المتعلقة بالنزاع على مورد مائي إقليمي من قبل.
توقيت البيان ورد الفعل الثلاثي
رغم حالة الجمود والهدوء النسبي في مواقف مصر والسودان على المستوى الرسمي منذ يوليو الماضي. إلا أن تتبع البيانات الرسمية لوزيري خارجية مصر والسودان والرئاسة المصرية. نجد أن ملف سد النهضة كان حاضراً في أغلب اللقاءات الرسمية مع مسئولين دوليين خاصة من أمريكا والاتحاد الأوروبي وأفريقيا. بل شملت أجندة اللقاء الذي جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، تناول تطورات ملف سد النهضة.
وفق مصدر رسمي مطلع على ملف سد النهضة. فإن وزارة الخارجية كانت على اتصال دائم بمندوب تونس في الأمم المتحدة. للتنسيق من أجل حث الدول الأعضاء في مجلس الأمن على تبنى مشروع قرار من أجل الضغط على إثيوبيا لوقف أي اجراءات أحادية. ما كان نتيجته صدور البيان الرئاسي. وإن كان جاء أقل من مستوى الرد الذي كانت تأمله مصر. إلا أنه خطوة في صالح الموقف المصري على الأقل. حيث أصبح المجتمع الدولي الآن لديه إطلاع كامل بحقيقة تطور الإطار التفاوضي الثلاثي حيث تم الكشف عن التعنت الإثيوبي والإصرار على الإضرار بالمصالح المصرية والسودانية في مياه النيل.
كان الرد الرسمي المصري والسوداني على بيان مجلس الأمن في مجمله يحمل ترحيبا حذرا. حيث قال بيان وزارة الخارجية المصرية: “نرحب بالبيان الرئاسي الذي يأتي في إطار مسئولياته عن حفظ السلم والأمن الدوليين”.
واعتبر البيان المصري إصدار مجلس الأمن للبيان الرئاسي. تأكيداً للأهمية الخاصة التي يوليها أعضاء مجلس الأمن لقضية سد النهضة. ما يأتي وفق الخطاب المصري الموجه للمجتمع الدولي بالتركيز على تداعيات التصرفات الأحادية الإثيوبية على السلم الإقليمي في وقت تتجه مصالح المجتمع الدولي نحو منطقة القرن والشرق الإفريقي.
الطبيعة الإلزامية
وأشار بيان وزارة الخارجية المصرية إلى الطبيعة الإلزامية للبيانات الرئاسية لمجلس الأمن. واعتبر أن اصدار بيان يدعو للعودة للتفاوض سيكون دفعة هامة للجهود المبذولة من أجل إنجاح المسار الأفريقي التفاوضي. ما يفرض على أثيوبيا الانخراط بجدية وبإرادة سياسية صادقة بهدف التوصل إلى اتفاق قانوني مُلزِم حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة على النحو الوارد في البيان الرئاسي لمجلس الأمن.
وعلى الجانب السوداني لم يختلف رد الفعل كثيراً عن مصر. حيث رحبت وزارة الخارجية السودانية بالبيان الرئاسي. وقالت “نرحب بالبيان الرئاسي الذي يعكس اهتمام المجلس بهذه المسألة بالغة الأهمية وحرصه على إيجاد حل لها، تلافيًا لتداعياتها على الأمن والسلم في الإقليم.
لكن البيان السوداني حمل قدرا من التشكك في أن يكون لإصدار البيان نوع من الإلزام أو الضغط على الجانب الإثيوبي قائلاً: “تعرب الوزارة عن أملها في أن يدفع اعتماد البيان الأطراف الثلاثة إلى استئناف التفاوض في أقرب الآجال، وفق منهجية جديدة وإرادة سياسية ملموسة. تحت رعاية الاتحاد الأفريقي”، مؤكداً استعداد السودان للانخراط البنَّاء في أي عملية تقود إلى استئناف التفاوض. تحت مظلّة الاتحاد الأفريقي. توصل الأطراف إلى اتفاق ملزم حول ملء وتشغيل سد النهضة. وذلك توافقًا مع الفقرة الخامسة من البيان والتي تعطي المراقبين دورًا تيسيريًا في عملية التفاوض.
تشكيك في نجاح المسار التفاوضي
كانت السودان تشككت من قدرة المسار التفاوضي تحت مظلة الاتحاد الأفريقي من حسم الجدل في المسائل الفنية العالقة. وذلك خلال جلسة مفاوضات عقدت على مستوى وزراء المياه والخارجية في العاصمة الكونغولية كينشاسا تحت مظلة ورعاية الاتحاد الأفريقي.
وأصرت السودان على استئناف المفاوضات وفق آلية رباعية دولية تكون بمثابة وسيط لتسهيل وتيسير عملية حسم الجدل وفض الاشتباكات بين الرؤى المختلفة للدول الثلاث. واعتبرت أن هذه الآلية شرطها لاستئناف المفاوضات وهو ما رفضته إثيوبيا بإعطاء أي أدوار للمراقبين في عملية التفاوض.
استمرار التعنت الإثيوبي
رغم ترحيب إثيوبيا بقرار أعضاء مجلس الأمن بإعادة توجيه ملف سد النهضة إلى المفاوضات الثلاثية برعاية الاتحاد الأفريقي. حمل الرد الإثيوبي عبارات شديدة اللهجة على البيان الرئاسي لمجلس الأمن. حيث قالت وزارة الخارجية الإثيوبية في بيان على صفحتها على موقع فيسبوك: “جاء بيان رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن مسألة سد النهضة الإثيوبي بطريقة غير مسبوقة بعد تسعة أسابيع من الاجتماع المفتوح لمجلس الأمن الدولي بشأن سد النهضة. ومن المؤسف أن يعلن المجلس نفسه في مسألة الحق في المياه والتنمية التي تقع خارج نطاق صلاحياته”.
وألقى البيان الإثيوبي اللوم على تونس مقدمه مشروع القرار ضد السد الإثيوبي لمجلس الأمن قائلا: إن زلة تونس التاريخية في تقديم قرار المجلس تقوض مسؤوليتها الرسمية كعضو مناوب في مجلس الأمن الدولي على مقعد أفريقي.
فيما أكدت أن المياه العابرة للحدود توفر فرصة لتحقيق التعاون الإقليمي، وموقف إثيوبيا من النيل عادل ويطمح إلى الحصول على حقها المشروع وبناء الصداقة بين شعوب الدول المشاطئة.
حسم البيان الإثيوبي الموقف الرسمي لأديس أبابا بعدم تقديم أي تنازلات عن مواقفها التفاوضية السابقة قائلاً: لن تعترف إثيوبيا بأي مطالبة قد تثار على أساس البيان الرئاسي.
وتعكس العبارات الصريحة الواردة في البيان الإثيوبي باعتبار التصرفات الإثيوبية الأحادية حقا أصيلا لإثيوبيا في إطار مبدأ السيادة دون اعتبار الرفض المصري والسوداني. المزيد من الشكوك في إمكانية تحريك المياه الراكدة على طاولة المفاوضات بشأن الاتفاق المزمع حول ملء وتشغيل السد. مع استمرار التعنت وعدم توافر أي نية حقيقة للخروج من الدائرة المفرغة للمفاوضات.
وردت إثيوبيا بشكل عملي على بيان مجلس الأمن حيث أعلن وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي، سيلشي بيكيلي. نجاح بلاده في تركيب وحدة مولد التوربينات الدوار بالوحدة العاشرة بسد النهضة. في إشارة إلى إصرار بلاده على استكمال الإنشاءات في موقع السد دون التأثر بالجدل الدولي حوله أو مواقف دول المصب الرافضة، حيث كان قد أعلن قبل أسبوع استعداد بلاده لبدء توليد الكهرباء من سد النهضة في غضون الأشهر القليلة القادمة. حيث تجرى استعدادات للبدء بتوليد الكهرباء باستخدام توربينات سد النهضة في الأشهر الأولى من العام الإثيوبي الجديد الذي بدأ بالفعل قبل أسبوع.
ضغوط وتطمينات دولية
بعيداً عن الرد الإثيوبي المتوقع على البيان الرئاسي لمجلس الأمن. إلا أن الموقف الدولي من إثيوبيا خاصة مع استمرار العنف في الحرب ضد التيجراي لم يعد في صالح إدارة أبي أحمد حيث وقع الرئيس الأمريكي، جو بايدين أمس أمراً تنفيذيا لوضع آلية عقوبات. للضغط على إثيوبيا من أجل إنهاء الصراع القائم مع التيجراي عبر التفاوض، حيث يستهدف زيادة الضغط على إريتريا لسحب قواتها من إثيوبيا، حيث أكد مسئول أمريكي أن إدارة بايدن مصممة على الضغط لإنهاء الأزمة الإنسانية وأزمة حقوق الإنسان في شمال إثيوبيا، بخاصة مع المعاناة الإنسانية الهائلة التي سببتها الحرب على التيجراي فضلاً عن زعزعة الاستقرار الإقليمي، حيث ترى أمريكا أن الأزمة في إثيوبيا تسببت بواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية وأزمات حقوق الإنسان في العالم.
أزمات أثيوبيا الداخلية
ويرى مراقبون أن استمرار الضغوط الدولية والإقليمية على إدارة أبي أحمد فضلاً عن استمرار الانهيار والتوتر على الصعيد الداخلي بسبب تطورات وتداعيات الحرب على التيجراي. وانخراط قوميات إثنية أخرى في النزاع مع حكومة أبي أحمد وخروجهم عن سيطرته، قد يكون سبباً في استمرار تعنت إثيوبيا في المفاوضات في سد النهضة لعدم خسارة جبهات داخلية تتعلق بصورة الحكومة والتأييد الشعبي حيث لا يزال السد الأيقونة القومية لدى الشعب الإثيوبي، لكنه في الوقت نفسه سيكون سبباً في تشتت جهود الحكومة لإنجاز ملف السد.
اقرأ أيضا:
“تقسيم تيجراي” و”ديكتاتور إريتريا”.. ورقة آبي أحمد لاستمالة السلطة في إثيوبيا
من رد الفعل الهادئ نسبياً لمصر والسودان على البيان الرئاسي لمجلس الأمن. قد تكون القاهرة والخرطوم قد تلقوا تطمينات دولية بتفهم مواقفهم الرافضة للتصرفات الإثيوبية الأحادية في سد النهضة. لكنها لا تزال لم ترق إلى سياسات واضحة لمنع أي تصرفات مستقبلية من شأنها الإضرار بمصالح الدولتين. حيث إنه قد تكون عمليات ملء خزان السد قد تصادفت مع سنوات مائية ارتفع فيها مستوى الفيضان لفوق المتوسط.
إلا أنه بتوقع انخفاض معدلات المياه سيكون هناك مواجهات غير قابلة للشك وهو ما أكده وزير الخارجية المصري، سامح شكري في تصريحات سابقة بأن رد الفعل المصري مرهون بحجم الضرر المتوقع حدوثه على المدى القريب.
ضغوط على الاتحاد الأفريقي
قد يفرض تطور ملف النزاع حول السد بعد تدخل مجلس الأمن مزيد من الضغوط على الاتحاد الإفريقي باعتباره المؤسسة الإقليمية المنوط بها حسم النزاع. حيث أصبحت خطوات الاتحاد الأفريقي محل ترقب المجتمع الدولي. ما سيتطلب آلية جديدة يكون من شأنها تنظيم التفاوض بشكل عملي وهادف لإنجاز النقاط العالقة بشكل علمي من خلال منح الفنيين مساحة أكبر في بلورة المواقف وعدم ترك الأمر للسياسيين. ووضع كافة الأطراف أمام مسئوليتها. خاصة وأن الاتحاد كان ولا يزال يتلزم الصمت أمام أي محاولات للمراوغة والتعنت من قبل إثيوبيا.
ويبقى مؤشر آخر فرصة لدول المصب في الوصول لطريقة تضمن الضغط بشكل أو آخر على إثيوبيا. من أجل التوقيع على اتفاق شامل وملزم لعملية ملئ وتشغيل السد. وهو المشاكل الفنية التي تعرضت لها عمليه الإنشاءات في جسم سد النهضة وانخفاض مستوى الكفاءة المتوقعة والمروج لها للسد.
وظهرت بعض المشاكل الفنية عطلت عملية الملء الثاني لتنخفض كمية المياه المخزنة إلى 4 مليار متر مكعب فقط. بعد أن كان من المخطط حجز 13.5 مليار متر مكعب من المياه. وهو ما مثل فرصة لحماية المخزون الاستراتيجي لبحيرة ناصر من أي انخفاض خلال العام المائي الجاري والذي تصادف فيه ارتفاع منسوب مياه الفيضان للمستوى فوق المتوسط.
فرص نجاح المسار التفاوضي
لا يزال الموقف المصري الرسمي من استمرار المفاوضات يتوقف على ثوابت فنية محددة وواضحة لن تتغير. تتعلق بالاتفاق على ملء وتشغيل وإعادة ملء السد في فترات الجفاف. التي قدمت مصر بشأنها العديد من المقترحات للتفاوض حولها. تضمن الحد الأدنى من الضرر الذي يمكن أن تتأثر به مصر جراء ملء وتشغيل السد.
ويبقى الموقف المصري متمسكا بعدم قيام إثيوبيا بأي اجراءات فنية تتعلق بحجز أي كميات إضافية من المياه باعتباره أمرا غير قابل للتفاوض، بحسب أسس ومعايير القانون الدولي للأنهار ووفق آلية الإخطار المسبق.
ثوابت مصرية في أزمة السد
وفق معلومات حكومية. فإن القاهرة قد تكون منفتحة بشكل مرن على التفاوض على القضايا القانونية العالقة مثل آلية فض المنازعات. إلا أن المسائل الفنية المتعلقة بالملء والتشغيل خلال فترات الجفاف والجفاف الممتد غير قابلة للتراجع عنها أو التنازل بشأنها. لما تنطوي عليه من مخاطر وأضرارا بالغة للأمن المائي المصري لا يمكن تداركها.
كما أن موقف السودان أصبح متمسكا بشكل كبير بضمانات لعدم تعرضه لمشكلات فنية لا يمكن تداركها. سواء خلال فترات الفيضان والجفاف. ما يكشف عنه بيان وزير المياه السوداني الذي يدين فيه التصرفات الإثيوبية غير المسئولة. حيث احتج في خطاب رسمي على معلومات غير دقيقة وغير مكتملة زودته بها إثيوبيا بشأن ملء سد النهضة. كان من شأنها إلحاق أضرار كبيرة بالسودان في غياب التنسيق حول عملية الملء.
ويبقى نجاح المسار التفاوضي رغم الاهتمام الدولي الشكلي بملف سد النهضة. مرهونا بخطوات إثيوبية جادة للانخراط في التفاوض بحسن نية وتقديم ضمانات حقيقية لدول المصب تبعث الثقة من جديد. وهو ما قد يكون أمراً مستحيلاً في ظل انخفاض مستوى الضغط الدولي على الإدارة الإثيوبية. فيما يتعلق بسد النهضة والتحديات البالغة التي تتعرض لها إدارة أبي أحمد مع انفجار الأزمات المتتالية في الداخل الإثيوبي.