2 – عدم الاستقرار ونمو الدور اﻷمني
الغزو الأمريكي للعراق كان نقطة تحول رئيسية في الحرب على الإرهاب، التي بدأتها إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش قبل قرابة عامين من ذلك. لا شك أن بوش ومعاونيه الرئيسيين كانوا يرون الخطوة شديدة الأهمية لتحقيق عديد من الأهداف الاستراتيجية، التي لم تكن كلها بأي حال متعلقة بالحرب على الإرهاب في حد ذاتها. النفط العراقي بالتأكيد كان أحد العوامل الأساسية التي كانت موضع اهتمام بوش، ومن دعموا إدارته مما يسمى بالمجمع الصناعي العسكري، أي مجموعات المصالح الكبرى المرتبطة بالصناعة والدفاع.
وأغلب الظن أن بوش وإدارته كانت لهم تصورات شديدة التفاؤل حول مجريات العمليات العسكرية وما يليها. ربما كانت هذه التصورات تستوحي ما حققه الاحتلال الأمريكي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، أكثر مما تنتبه إلى دروس التجربة الأمريكية المريرة في حرب فييتنام، برغم أنها أقرب تاريخيا، وموضوعيا أيضا. ما يكشف عمى السياسة الأمريكية حينها، أكثر من غيره، كان عدم توقع الفوضى التي سيحدثها غزو العراق وإسقاط الدولة المركزية فيه؛ وليس المقصود هو الفوضى داخل العراق وحده، ولكن في مجمل المنطقة. لقد تجاهل السياسيون الأمريكيون، بشكل مثير للدهشة، كل مؤشرات الهشاشة السياسية والاجتماعية للدول القومية ما بعد الاستعمار في المنطقة، والتي كانت الأنظمة الاستبدادية عسكرية الطابع قادرة بالكاد على ضبطها وتحجيمها، ولكنها لم تستطع يوما التخلص منها أو حتى إخفائها بالقدر الكافي.
اختيار الإدارة الأمريكية أن تستخدم في البروباجندا المصاحبة لغزو العراق، وقبل ذلك لغزو أفغانستان أيضا، دعاوى تتعلق بالإصلاح الديموقراطي، وبناء المؤسسات الديموقراطية، زاد الطين بلة، بالنسبة لقضية الإصلاح الديموقراطي في المنطقة كلها. فأولا كانت الفوضى التي أحدثها الغزو، وإسقاط نظام صدام حسين في العراق، عاملا حاسما في دعم القناعة التي حاول الحكام الديكتاتوريون في المنطقة ترسيخها، طوال عقود سابقة؛ وهي أن البديل الوحيد للأنظمة الاستبدادية وانتهاكاتها المنهجية المستمرة، هو الفوضى وتفكك الدولة وتفجير الصراعات الطائفية. وثانيا، ارتبط بالحكومات التالية للغزو، والمفترض أنها انتخبت بشكل ديموقراطي، صفات العجز التام عن تدارك الوضع المشتعل، والتخبط، واللجوء إلى حلول تتناقض مع الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة، ومنها الاعتماد على معاونة ميليشيات قبلية مسلحة لمواجهة الجماعات الإرهابية، بدلا عن التمسك بمبدأ احتكار الدولة لاستخدام القوة.
أثر انهيار استقرار المنطقة على فرص الإصلاح الديموقراطي في مصر
في المقال السابق تناولت المحور الأول من بين ثلاثة محاور، اخترت الحديث من خلالها عن أثر الحرب على الإرهاب على فرص الإصلاح الديموقراطي في مصر. كان المحور الأول هو الضغوط المباشرة للإدارة الأمريكية على نظام الرئيس محمد حسني مبارك، في إطار استراتيجية أجندة الحرية، لتنفيذ إجراءات للإصلاح الديموقراطي. المحور الثاني هو أثر الحملات العسكرية والإجراءات السياسية التي قامت بها الإدارة الأمريكية في المنطقة في إطار الحرب على الإرهاب، على فرص الإصلاح الديموقراطي، وتمثل مقدمة هذا المقال السياق الذي تشكلت فيه ملامح هذا المحور الثاني. ويمكن تلخيصها في أن الحملات العسكرية والإجراءات السياسية، قد أدت أولا إلى خلق وضع من الفوضى وعدم الاستقرار مثل ضغوطا أمنية ضخمة على النظام المصري، خاصة بعد عقد من تصاعد واحتدام الحرب الداخلية ضد الجماعات الإرهابية، وثانيا أدت إلى تقديم نموذج غير مشجع، على أقل تقدير، لعدم كفاءة الحكومات المدنية المنتخبة ديموقراطيا في مواجهة التحديات التي يفرضها تعقيد الأوضاع في المنطقة.
الحرب على الإرهاب والإصلاح الديموقراطي في مصر
الفوضى التي أنتجها الغزو الأمريكي للعراق فتح أولا مساحة خالية من السيطرة الكاملة للدولة المركزية أمكن لعديد من الجماعات المسلحة استخدامها للتمدد والنمو، وثانيا أنتج الغزو الظروف المواتية للجماعات الجهادية لتجنيد أعداد متزايدة من المقاتلين سواء من داخل العراق أو خارجه لمواجهة المحتل الأجنبي (الكافر)، ولمواجهة تغير توازنات القوى الطائفية والعرقية الذي أنتجته سياسات الاحتلال الأمريكي في العراق. إضافة إلى ذلك وجدت الجماعات المسلحة في فلول نظام صدام مصدرا عال القيمة كمتطوعين للانخراط في صفوفها، وكثيرون من هؤلاء تحولوا إلى قيادات هامة في هذه الجماعات، بداية من تلك التي أعلنت ولاءها للقاعدة أولا، ثم تلك التي انضوت تحت لواء داعش لاحقا. في المحصلة تحول العراق إلى مركز ضخم للتجنيد والتدريب والإمداد والدعم للجماعات الجهادية داخله وخارجه أيضا، وهو ما مثل أكثر من صداع في رؤوس الأنظمة في المنطقة وفي مقدمتها أنظمة مصر والسعودية.
دعنا هنا نؤكد أن مخاطر تمدد الجماعات الجهادية حقيقية بلا أدنى شك، ولكن سبل مواجهة هذه المخاطر، تتعلق باختيارات الأنظمة الحاكمة، وحدود خيالها. وبالنسبة لخيال البيروقراطية الحاكمة في مصر، استدعت مواجهة المخاطر المتزايدة لنمو الجماعات الجهادية، ووصولها إلى مناطق داخلية في مصر وبصفة خاصة في شمال سيناء، الاتجاه أكثر فأكثر إلى ترسيخ وسيادة العقلية الأمنية لهذه البيروقراطية. الأنظمة البيروقراطية تكنوقراطية بالأساس، ولا يمكنها أن تكون أي شيء آخر. يمعنى أنها لا تمارس السياسة ولا تستطيع ذلك. حلولها في مواجهة المشاكل هي منح الجهات المختصة بالتعامل معها مزيدا من الصلاحيات، وهي تميل إلى الإيمان بتكرارية الأنماط، وتقييم أجهزتها بمقياس الانضباط والقدرة على الإنجاز، وبالتالي فالبيروقراطيات الحاكمة تميل دائما إلى أن تكون أكثر أمنية وعسكرة، حسب نوعية المخاطر، والجهة الأقرب إلى قيادة التعامل معها.
واحدة من أهم صفات ما أسميه بالأنظمة البيروقراطية أيضا هو أنها جهاز بيروقراطي يعمل عاريا دون غطاء سياسي. وهي تستشعر أنها هي ذاتها الدولة، ببساطة لأن هذه هي الحقيقة. الجهاز البيروقراطي هو التمثبل المادي لاستمرارية وجود الدولة في أي مكان. في ظل الأنظمة الديموقراطية تتداول أحزاب مختلفة القيادة السياسية للدولة فيما يظل الجهاز البيروقراطي ثابتا ومستمرا في عمله وفق قواعد يصعب وربما يستحيل تبديلها، فيما ترضي التغييرات القشرية للسياسيين رغبة الناس في التغيير. بالنسبة للدول غير الديموقراطية لا وجود لمجال سياسي، ولا لأحزاب تتداول السلطة، ثمة فقط جهاز بيروقراطي، تقوده إدارة بيروقراطية عليا. مثل هذه الإدارة تشعر عن حق أنها هي الدولة وأن فكرة تداول السلطة ليست أكثر من محاولة لإسقاط الدولة نفسها.
نموذج القيادة السياسية المدنية الذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، أضاف الكثير إلى امتعاض البيروقراطية العليا الحاكمة في مصر وتقززها من فكرة القيادة السياسية المدنية. فقد أكدت بالنسبة لها عدة تصورات حول عدم الكفاءة، عدم القدرة على الحسم، الفساد السياسي (وليس بالضرورة المالي فهو شائع بشدة في النظم البيروقراطية)، الولاءات الأيديولوجية والطائفية التي يمكن أن تكون عابرة للحدود مما يحول الدولة إلى ساحة لعمل الدول الأخرى التي يمكن أن يكون لها نفوذ كبير على الأحزاب والجماعات السياسية الداخلية. هذه التصورات التي أكدتها تجربة العراق بصفة خاصة لم تغب يوما عن خيال البيروقراطية الحاكمة في مصر، ولكن تأكيدها بصورة عملية كان له أثر بالغ، لا يزال بالإمكان تبينه في خطاب هذه البيروقراطية بصفة خاصة اليوم، بعدما أضيفت إليه تأكيدات تجارب ما بعد ثورات الربيع العربي، في سوريا، وفي مصر نفسها، كما قرأتها أجهزة هذه البيروقراطية العسكرية والأمنية.
انخراط مصر في الحرب على الإرهاب
طالبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ 2001 حلفائها الدوليين والإقليميين بالتعاون الكامل معها في حربها على الإرهاب. في حين أن الإسهام في الحملات الحربية كان مهما لهذه الإدارات، إلا أن حاجتها إلى التعاون الأمني الاستخباراتي كان أكبر. في حالة دول المنطقة ومنها مصر، تنوعت أشكال التعاون الذي طالبت به الإدارات الأمريكية. في المقدمة كانت المطالبة بأن يكون لاستراتيجية مواجهة الإرهاب داخل كل دولة الأولوية القصوى. تزايدت في هذا الإطار الضغوط على المؤسسات العسكرية في المنطقة لتعديل عقائدها العسكرية بحيث تتجه إلى مخاطر الإرهاب الداخلية أكثر. وأعادت واشنطن توزيع بنود معوناتها العسكرية بحيث تتجه إلى جهود مكافحة الإرهاب.
على جانب آخر، وسعت الأجهزة الأمريكية مجالات تعاونها مع أجهزة دول المنطقة، في المعتاد كان أكثر التعاون يتم من خلال المؤسسات العسكرية، والمخابرات العامة والعسكرية، ولكن مع اهتمام الأجهزة الأمريكية بتتبع الشبكات الداخلية للإرهاب قامت بتوسيع علاقاتها بأجهزة الأمن والاستخبارات الداخلية. هذه العلاقات كمثيلاتها بالأجهزة الأخرى انطوت على تبادل للخدمات والخبرات والتنسيق الدوري المشترك. في جزء منها كان لصور التعاون التي طلبتها الأجهزة الأمنية أثر هام على مدى افتناع النظام المصري نفسه بجدية المطالب السياسية العلنية بإحداث إصلاحات ديموقراطية وحقوقية على وجه التحديد، فمن بين الخدمات التي تعاونت الأجهزة الأمنية المصرية فيها مع مثيلاتها الأمريكية كانت حالات احتجاز واستخلاص معلومات بالوكالة، وباستخدام وسائل لا تستطيع الأجهزة الأمريكية استخدامها على الأراضي الأمريكية أو تفضل تجنب استخدامها لارتفاع كلفتها السياسية. أثر ذلك إلى جانب اقتناع النظام المصري بعدم جدية الإدارة الأمريكية في مطالبها بالإصلاح الديموقراطي، هو ازدياد تقدير البيروقراطية الحاكمة في مصر لحرية الحركة وإطلاق اليد الذي يمنحها لها غياب الالتزامات السياسية، وهو ما أضاف إلى قناعات هذه الأجهزة بأن الإصلاح الديموقراطي وتبعاته من شأنها أن تشل حركتها وتجعلها أقل كفاءة، بما في ذلك في قدرتها على توفير خدمات ذات قيمة للشركاء الدوليين الذين يقدمون في مقابلها موارد ومعلومات هي حاجة إليها.
أهمية الأجهزة الأمنية، في إطار العلاقات الاستراتيجية بالولايات المتحدة أضاف أبعادا جديدة لثقل هذه الأجهزة في التوازنات الداخلية للقوى داخل النظام البيروقراطي المصري نفسه، وهو ما دعم توسيع اختصاصاتها وإطلاق يدها، واسباغ مزيد من الحصانة ومساحة العمل خارج أي رقابة من أي نوع.وهو ما أضاف بدوره إلى مدى ميل النظام المصري بصفة عامة إلى اختيار المقاربات الأمنية في مقابل المقاربات الاقتصادية والاجتماعية للتعامل مع القضايا المختلفة. لاحظ أنني لم أذكر المقاربات السياسية لأنها لم تكن مطروحة في أي وقت، نظرا للطبيعة البيروقراطية والتكنوقراطية للنظام. حتى في ظل صعود جماعة مبارك الإبن واستيلائها علي قيادة الحزب الحاكم، فقد كانت مقاربات هذه الجماعة اقتصادية بالأساس، وظلت في مرتبة ثانية في ظل أولوية المقاربات الأمنية.
لا أرغب مطلقا في المبالغة في أثر الحرب على الإرهاب في تنامي وانكماش حظوظ الإصلاح الديموقراطي في مصر. حقيقة الأمر أن الحرب على الإرهاب لم تخلق أي جديد من العدم بهذا الخصوص، ولكنها أضافت ثفلا إلى عوامل بعينها تصادف لاحقا أن كان لها أثر حاسم، وأمكن للبيروقراطية المصرية الحاكمة أن تستخدمه في مناوراتها للخروج من الأزمة التي مثلتها ثورة يناير بالنسبة لها. بعض من آثار الحرب على الإرهاب كان سببا في أن تدفع البيروقراطية الحاكمة بنفسها الأمور نحو الانفجار، بينما قدم لها بعض آخر من هذه الآثار أدوات استخدمتها لتفريغ الطاقة التي أنتجتها الثورة، وتحويلها في اتجاه الثورة المضادة التي استعادت للنظام البيروقراطي سيطرته أكثر مما كانت قوة وحصانة. في المحصلة تتعلق حظوظ الإصلاح الديموقراطي في مصر في معظمها بعوامل داخلية يطول النقاش حولها، ولكن الحقيقة أن أية عوامل خارجية يمكنها فقط أن تترك أثرا بقدر تقاطعها مع العوامل الداخلية. وفي الواقع تظل الحصيلة الأكثر أهمية لعقدين من الحرب على الإرهاب هي التراجع الحقيقي والملموس لقدرة الولايات المتحدة على أن تكون اللاعب الأكثر تأثيرا والأكثر استقلالية في بناء استراتيجيته للتعامل مع شؤون المنطقة. مستقبل المنطقة يتجه بنحو متزايد إلى أن يكون لاستراتيجيات القوى الإقليمية الأكبر الأثر الحاسم في توجيهه. كيف ستمدد القوى الإقليمية نفوذها لتملأ الفراغ الذي خلقه انكماش الدور الأمريكي؟ هذه سؤال يصعب جدا التكهن بإجابته، ولكن الحرب الإقليمية على الإرهاب سيكون لها دور كبير في صنع هذه الإجابة.