يرتبط نجاح أي نظام تعليمي جديد على مقدار ما يحدثه من تغييرات إيجابية بمنظومة التدريس والتَعَلُّم في المدارس والمناهج والمُعلّمين، ويظل الحكم عليه مرهونا بقدرته على توليد مستهدفات منطقية محددة زمنيًا. وحل المشكلات المزمنة، وتحسين تصنيفه ضمن مؤشرات الجودة.
قبل ثلاث سنوات. أعلن وزير التربية والتعليم طارق شوقي. عن منظومة تعليمية جديدة من المفترض أن تحدث تغييراً جذرياً في فلسفة التعليم وأساليبه في المدارس الرسمية بشقها التقليدي أو التجريبي بهدف: المزيد من التفاعل بين المُعلم والطلاب، والقضاء على التلقين والحفظ، وتطوير البنية التكنولوجية في المدارس بتوصيل الإنترنت وتعزيز استخدام الطلاب للتعلم عن بعد عبر “التابلت”.
يرتكن النظام الجديد للثانوية العامة على تنمية مهارات التعليم الذاتي. من خلال تركيز المناهج على المعارف والمهارات وليس الحفظ والتلقين. وتوجيه المتعلم لمصادر متنوعة مثل بنك المعرفة للحصول على المعلومات بنفسه، بما يُنمّي مهارات التفكير الإبداعي والنقدي.
ووفقًا لملامح النظام الجديد فإنه يركز على الاستخدام الذكي للتكنولوجيا عن طريق توظيف التعليم الإلكتروني. من خلال الفصول الافتراضية والإنترنت والقنوات التعليمية. للتغلب على نقص عدد المدرسين والمدارس، وارتفاع الكثافة العددية في الفصول، وندرة بعض التخصصات الجديدة.
بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن عدد مدرسي الثانوية العامة (دون الأزهري والفني) 106.7 ألف مدرس. يُدرّسون لما يقرب من مليون و800 ألف طالب، وقد انخفض إجمالي عدد المدرسين بمراحل التعليم قبل الجامعي بمقدار 1.5%، مقارنةً بين عامي 2018/2019 و 2019/2020، أي بمعدل مُدرس لكل 17 طالب تقريبا. ووفقا للجهاز فإن عدد المدراس الحكومية في مصر يصل إلى 3 آلاف و861 مدرسة.
لا تعد المشكلات التي صادفت النظام الجديد وليدة النسخة الأخيرة من الثانوية العامة، ولكنها صادفته منذ تدشينه بسبب غياب الحوار المجتمعي وقت التطبيق والتي جعلت قطاعا عريضا من داخل الوزارة يرفضه حتى الآن، خاصة بعد التغييرات التي أجراها على نظام التدريس بالمدارس التجريبية.
ما أثار المخاوف أيضًا، المبادرات السابقة لتطوير التعليم خلال العقد الأخير التي تضمنت عدة استراتيجيات، أولها للتعليم العالي عام 2000 ثم الخطة الاستراتيجية القومية لإصلاح التعليم قبل الجامعي في الفترة من 2007 وحتى 2011 ، ثم استراتجية ثالثة بدأ الإعداد لها في 2008، عند عقد المؤتمر القومي، وتستهدف التعليم الثانوي والفني. وكلها لم تحدث تغييرات جذرية.
تؤكد الوزارة أن مستهدفاتها من نظام التعليم الجديد: تأسيس مجتمع معرفي ذي تنافسية عالمية يشمل كافة المراحل العمرية ويلبي احتياجات سوق العمل المستقبلية مع ضمان جودة المخرجات، كما فتحت مدارس يابانية تعتمد على تطبيق النموذج الياباني “توكاتسو“. لكن تلك الجهود تصطدم بعدم وجود تأهيل قوي للمعلمين.
معلمين غير مؤهلين
وفقا لدراسة لليونسكو حول ريادة التعليم، تضمنت مصر بجانب دول عربية أخرى، فإن معظم كليات التربية بمصر تُعد المعلمين للمواد الدراسية والتخصصات المختلفة ولكنها لا تلبي الحاجة لإمداد خريجيها بالمهارات اللازمة في مجال التعليم للريادة، بجانب أن تولي كلية التربية اهتماما بالمُدرس القادر على توفير توعية التعليم والتدريب للريادة، مع تدريب شامل أثناء الخدمة لنحو مليون من المدرسين والمدربين بتشبيكهم معا بشكل مباشر إلكترونيا.
وتبنى شوقي خلال فترة عمله باليونسكو أسلوب الشراكات الاستراتيجية مع الشركات الكبرى في مجالات تقنيات الاتصالات والمعلومات، كما تولى إدارة المشروع العالمي لتأسيس معايير قياسية لتدريب المعلمين على استخدام تلك التقنيات في التدريس، لكن تحول التدريب في بعض المناطق إلى حفظ للمعلم لأبجديات الحاسب الآلي وأمور بعيدة تماما عن توظيفها دراسيًا.
غياب الفلسفة التعليمية
تؤكد العديد من الدراسات الأكاديمية أن نظام التعليم القديم لم يتضمن فلسفة واضحة المعالم للتعليم العام، كما عاني لعقود من نقص حاد في معظم مدخلات النظام التعليمي، من تردي أوضاع المباني والفصول غير المجهزة لوقاية الطلاب من تقلبات الطقس صيفا وشتاء، وضعف الإمكانات وقلة الوسائط التعليمية، وفق دراسة بعنوان تطوير الثانوية العامة نشرتها المجلة الدولية للبحوث التربوية.
اعتمد نظام التعليم في مصر لعقود على تكريس التلقين والحفظ والتذكر فالمعلم يملأ رؤوس الطلاب بالمعلومات المجردة ويتذكروها في ورقة الامتحان ليصبح الطالب الأكثر تفوقا هو الأكثر حفظا للمعلومات وقدرةً على استرجاعها دون نسيان.
عانى النظام القديم أيضًا من عدم مسايرة التعليم لمستويات الجودة التعليمية حتى أن مجلة مونتور كريستيان ساينس وضعت مصر في ترتيب متدن الجودة بعد منغوليا وهندوراس، في ظل عدم استخدام المدارس للوسائل العملية والتكنولوجية، ووجود التعليم الموازي ممثلا في الدروس الخصوصية، بجانب عدم مواءمة منتج النظام التعليمي لحاجات قطاعات الإنتاج والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
عجز التعليم العام عن إعداد جيل متواكب مع متطلبات سوق العمل، حتى في التعليم الثانوي الصناعي، ولم يستوعب علوم المستقبل ومتغيرات العصر، وانتشار الأفكار التقليدية أمام أي محاولة لتطوير نظام التعليم، وعدم مواكبة الإدارات التعليمية لحاجات التطور السريع الذي يتمثل في زيادة الطلب الاجتماعي، والعجز عن الاستخدام الأمثل للموارد البشرية المتاحة.
يتماشى النظام الجديد للثانوية العامة مع سياسة أكبر لعلوم التقنية بعد التوسع الشديد في كليات الذكاء الاصطناعي والحاسبات لتبلغ حاليا قرابة 27 كلية، بجانب كليات متخصصة في التكنولوجيا والتنمية ونظم المعلومات والملاحة والفضاء والأرض، وكلها مجالات تُصنف على أنها علوم المستقبل.
ويرى طارق شوقي أن نظام التعليم القديم كان مجرد شهادة، دون فتح مجالات واسعة أمام الطلاب للإبداع والابتكار، فيظل مفرخة للعاطلين غير المؤهلين لسوق العمل.
نماذج آسيوية
يبدو تأثر محاولات تطوير التعليم المصري واضحا بجربة سنغافورة، الدولة قليلة الموارد الطبيعية، التي جعلت مهمة التعليم تكوين وبناء الإنسان بمساعدة التلاميذ علي اكتشاف مواهبهم، واستغلال طاقاتهم بأفضل شكل ممكن، لذا خصصت 15.2% من ميزانيتها للتعليم.
يظهر تأثر الوزير بتجربة سنغافورة التي يُقبل 25% من الطلبة فيها فقط على المرحلة الجامعية- في تبنيه نظام الشراكات بين الوزارة وكيانات أجنبية، مثل المدارس المصرية اليابانية. وهو نظام تنتهجه سنغافورة التي يدخل فيها نحو 300 معهد في شراكات مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
أما ماليزيا، التي يذكرها طارق شوقي كثيرا في خضم الحديث عن التطوير، فتعتمد في المرحلة الثانوية على “شمول المناهج الدراسية” فالطالب يتعلم بجانب المقررات الأساسية مواد خاصة لإكسابه بعض المهارات الحياتية في المجالات الفنية والمهنية التى تمنحه فرصة تنمية وصقل مهاراته، وتؤهله لدخول سوق العمل في مجال الهندسة الميكانيكية والكهربائية.
يميز النظام التعليمي في ماليزيا تشجيعه الطالب على الابتكار والإبداع، كما يعتني بالمواهب الخلاقة وينميها، ولذلك أنشأت الدولة العديد من المدارس الذكية التي تساعد الطلاب علي دراسة التكنولوجيا واستيعاب التقنيات الحديثة من خلال مواد متخصصة في أنظمة التصنيع وشبكات الاتصال ونظم استخدام الطاقة النظيفة.
افتقار البنية التحتية
المشكلة الرئيسة التي واجهت تطبيق النظام الجديد للثانوية العامة هي عدم قدرة البنية التحتية على استيعابه فبعد التخطيط لعقد الامتحانات عبر التابلت تم التغاضي عن الفكرة بعدما أثبتت الامتحانات التجريبية انقطاع الإنترنت عن مدارس في مدن كاملة.
اضطرت الوزارة إلى تغيير الوجهة إلى “البابل شيت” (اختيار من بين متعدد) دون تأهيل كاف للطلاب للتعاطي معه. خاصة بعد الاعتماد على أسئلة غير مباشرة وغير تقليدية. وتحتاج إلى نمط تفكير ووقت لم يتم مراعاته في أغلب الامتحانات. بجانب عدم استفادة الطلاب من مصادر التعلم المتعددة. سواء بنك المعرفة المصري أو منصات التعلم، إضافة إلى القنوات التعليمية.
وعانى النظام الجديد من عدم استيعاب الطلاب لكيفية التصحيح في “البابل شيت”. وكيفية تصحيح الحاسب الآلي الإجابة الصحيحة. ففريق منهم ظللوا بدوائر، وآخرين بعلامة صح. وفريق ثالث وضع خطأ، وفريق رابع ظلل بالرصاص، وخامس بالجاف ما جعل 300 ألف طالب يتظلمون على نتائجهم.
وقالت الوزارة إن تحويل الثانوية العامة لـ”بعبع” وفر التربة الخصبة للدروس الخصوصية. وقضى على فكرة أن يكون التعليم متعة ما تسبب في تحول المدرسة إلى “سجن كبير”، وهي إحدى مستهدفات النظام الجديد لكنه لم يستطع تحقيقها حتى الأن بل على النقيض زادت الدروس الخصوصية.
ويقول الدكتور سامي محمد نصار، الذي تولى عمادة كلية الدراسات التربوية لما يزيد عن 15 عامًا وشغل عضوية المجلس الأعلى للجامعات سابقًا. إن أهداف أي نظام تعليمي يجب أن تتضمن “4 سي” وهي “الاتصال والتشارك والتفكير النقدي والإبداع”، وكلها مهارات أساسية تبدأ بحرف “سي” في اللغة الإنجليزية.
بناء المناهج
يضيف نصار أن تلك الأساسات حال عدم بناء المناهج عليها فلن يؤتي النظام التعليمي ثماره، مؤكدا تأييده لوزير التربية والتعليم في سعيه لتغيير طريقة الحفظ والتلقين إلى التفكير النقدي، لكن أولاً يجب أن يتواجد الطالب في مدرسته في ظل عملية تعليمية تبدأ مبكرا لإكسابه المهارات الأربعة المطلوبة.
يتفق نصار مع وزير التعليم أن التركيز على الامتحانات جعل هم الطلاب الحصول على الشهادة وليس المهارة، لكنه يرى أن المشكلة في تغيير نظام الامتحانات مع طلبة غير مستعدين ولم يتم تدريبهم عليه، ما وضعهم في صدمة، خاصة أن الاعتياد جعل لكل كلية سعر تًأخذ على حساب النتيجة.
ويعتبر كثير من الخبراء أن النسبة القياسية للتظلمات على النتيجة التي وصلت إلى 300 ألف. دليل على عدم تأهيل الطلاب للتعامل مع النظام الجديد. لكن الوزير يرى أن أولياء الأمور قد لا يدركون. خلال الوقت الراهن، أن الثانوية الجديدة أكثر جودة، لكن سيستوعبون حينما يرون أبناءهم متميزين في مراكزهم.
يقول نصار إن ما يريده شوقي هو نظام تعليم لا يعتمد على الحفظ. لكنه بدأ بالتقويم (الامتحانات) وهي آخر مرحلة. والمفروض البدء بتعليم الطلاب تدريجًيا والتعلم على مراحل وتطوير المناهج التي يتم تدرسيها وتدريب المعلمين عليها. وأن تأتي في فترة دراسة مستمرة.وليس انقطاع على التعليم. موضحا أن طلاب الثانوية اعتادوا على عدم الحضور لكن ظلوا يعتمدون “سناتر” الدروس الخصوصية ومع تغيير التدريب حدث ذعر كبير وعجز عن التحصيل.