عيب الانحراف التشريعي يتعلق أساساً بالغاية من التشريع وهي المصلحة العامة دائما، ولا يتصور تحقق هذا العيب إلا حينما يمنح الدستور سلطة تقديرية للمشرع في مجال معين من التشريع، ذلك أن السلطة التقديرية هي التي تتيح للمشرع الخيار بين عدة حلول ووسائل، وعلى هذه الحال من سلطة التقدير ينبغي على المشرع أن يستهدف المصلحة العامة دون سواها، فإن انحرف عنها واستهدف غيرها مثل تحقيق مصلحة فردية أو مصلحة حزب من الأحزاب، فإن المشرع يكون قد انحرف بسلطته التشريعية.

وقد تبنى الأستاذ الجليل السنهوري وضع معيار الانحراف التشريعي قياساً على معيار الانحراف الإداري، حيث يقول (إذا قسنا الانحراف في استعمال السلطة الإدارية لقلنا بإن المشرع يجب أن يستعمل سلطته التشريعية لتحقيق المصلحة العامة، فلا يتوخى غيرها، ولا ينحرف عنها إلى غاية أخرى، وإلا كان التشريع باطلاً، والمعيار هنا ذو شقين، ذاتي وموضوعي، والشق الذاتي يتعلق بالنوايا والغايات التي أضمرتها السلطة التشريعية وقصدت إلى تحقيقها بإصدارها تشريعاً معيناً والشق الموضوعي هو المصلحة العامة التي يجب أن يتوخاها المشرع دائماً في تشريعاته، وكذلك الغاية المخصصة التي رسمت لتشريع معين). واتجه الأستاذ السنهوري، بعد أن استبعد فكرة الغايات الشخصية في تصرفات السلطة، التشريعية، إلى تبني معيار موضوعي يتمثل في المصلحة العامة التي يجب أن تكون هي هدف المشرع دوما.

ولما كانت دولة القانون يجب أن تتسم بجملة مبادئ تُجسد الحقوق والحريات الإنسانية في الدولة على أساس المواطنة، والأسس الثلاثة أعلاه تُشكل قاعدتها. وهذه الحقوق لا تتحقق بمجرد النص عليها في دستور الدولة وفي قوانينها، ولا تتحقق بمصادقة الدولة على اتفاقيات ومواثيق دولية بشأن تلك الحقوق والحريات، بل في نظام حكم يعترف، في إطار قانوني وتطبيقي، بحق المواطنين بأنهم أصحاب ومصدر السلطة الحقيقية. وتصبح الدولة الديمقراطية مرادفة لدولة القانون في سياق نظام سياسي يقوم على مفهوم المواطنة.

هذا التنظيم القانوني والسياسي هو الدولة الديمقراطية- دولة القانون التي، تعترف بخضوع سلطة الحكم للقانون، كحال خضوع المحكومين له، حيث تشكل حقوق وحريات المواطنين في هذا القانون، قيوداً على الدولة.

ولكي يقوم نظام الحكم هذا، من خلال قواعده ومؤسساته، بعمله على وجه سليم، يتطلب ذلك ضمانات تتلخص في المبادئ الآتية: سيادة القانون.. الفصل بين السلطتين المدنية والعسكرية.. الفصل بين السلطات.. استقلال السلطة القضائية.. تقرير الرقابة القضائية على دستورية القوانين.. تقرير الرقابة القضائية على تصرفات الإدارة وقراراتها. من هنا، فإن مفهوم دولة القانون، يتجسد في هذه المبادئ، تتقدمها سيادة القانون – خضوع سلطة الحكم للقانون كمثل خضوع المحكومين له. وما يقيد سلطة الحكم دستور يضع القواعد الأساسية لنظام الحكم في الدولة، ويقرر حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم.

وبهذا يتحقق للأفراد مركز قانوني في مواجهة سلطة الحكم يكون ضماناً لهم في حرياتهم وحقوقهم. والقانون الذي تكون له السيادة في دولة القانون يجب أن يكون صادراً عن مجلس منتخب من الشعب، ولا يكون مخالفاً للدستور أو منطوياً على انحراف في استعمال السلطة التشريعية. وإذا لم يؤخذ بهذا المفهوم القانوني، عندئذ ينتفي معنى ومضمون دولة القانون.[1] وبتحديد مجال الانحراف التشريعي يظهر لنا أن هذا العيب لا يتضمن مخالفة المشرع لظاهر نصوص الدستور وإنما مخالفة لروح النصوص وفحواها ومقاصدها ، أضف إلي ذلك فان هذا العيب لا يظهر لأول وهلة كونه عيب يتصل بالغاية (الباعث والمقاصد)، أي غاية القانون ومقارنتها بغايات الدستور وهذا ما يجعله عيب صعب الإثبات.

السلطة التشريعية

اقرأ أيضا:

مجلس النواب واستحواذ السلطة التنفيذية على مقدرات التشريع

 

كما أنه لا يمكننا أن نسند للسلطة التشريعية ممثلة الشعب الانحراف عن الصالح العام، هذا ما يجعله عيبا احتياطيا لا يلجأ إليه القضاء الدستوري إلا في حالة عدم ثبوت العيوب الأخرى التي تشوب التشريع وهذا بخلاف الانحراف بالسلطة الإدارية، و معيار عيب الانحراف التشريعي لا يكون من ورائه إثبات النوايا السيئة بل التحقق وإثبات الانحراف أو عدم تحقق الصالح العام أو عدم تحقق الغاية المخصصة التي أرادها نص دستوري معين، وهو ما يعبر عنه بقاعدة تخصيص الأهداف.[2] وعيب الانحراف التشريعي قد يكون بينا، وذلك في حالة المخالفة الموضوعية الصريحة للدستور.

و قد تكون المخالفة بسيطة، إذا لم تكن المخالفة صريحة. على أن تطبيقات الانحراف التشريعي نجدها في الفروض التالية: الانحراف عن الصالح العام، تجاوز الفرض المحدد دستوريا، أما الفرض الثالث فإنه يتعلق بمسألة تنظيم المشرع للحريات العامة. و من المبادئ المسلمة في خصوص الحريات والحقوق العامة التي نص الدستور على تنظيمها بقانون أنه إذا خول الدستور للمشرع سلطة تقديرية لتنظيم تلك الحقوق فيجب على المشرع ألا ينحرف عن الغرض الذي قصد إليه الدستور وهو كفالة ممارسة هذه الحقوق والحريات العامة في حدودها الموضوعية فإذا نقضها المشرع أو انتقص منها وهو في صدد تنظيمها كان تشريعه مشوباً بالانحراف.. والقاعدة أن كل حق عام أو كل الدستور إلى المشرع تنظيمه بقانون فقد رسم الدستور للقانون الذي ينظمه غايات مخصصة لا يجوز للمشرع الانحراف عنها. ومن صور الانحراف في استعمال السلطة التشريعية مخالفة التشريع لمبادئ الدستور العليا.

والأصل العام أن يكون المشرع حريصاً على صون حقوق المواطنين وحرياتهم المقررة دستورياً، وألا ينال منها متخفياً وراء ستار من ولايته المنصوص عليها في الدستور، إذا لا يجوز أن تتخذ السلطة التشريعية من اختصاصها في تنظيم الحقوق ستاراً لإخفاء نواياها في الخروج بهذا التنظيم عن طبيعة الأغراض التي يجب أن يحرص عليها، حتى وإن حاجج البعض بأن للمشرع السلطة التقديرية في المفاضلة بين البدائل المتعددة حين تنظيم الحقوق، إلا أن ذلك محدود باختياره أفضل تلك البدائل لصون تلك الحقوق وحمايتها على أكمل وجه، دونما إثقال بالقيود، أو ما يجاوز حد التنظيم بشكل عام.

ولكن تكمن المشكلة من الناحية الواقعية في كون أن التشريعات المنطوية على عيب الانحراف بسلطة التشريع، حينما تصدر من المجلس التشريعي، لا يكون من سبيل لمواجهتها سوى اللجوء إلى القضاء الدستوري، وهو الأمر الذي صار شحيحاً من الزاوية الواقعية لكون أمر التقاضي الدستوري منعقداً في سلطة القضاء العادي التقديرية، ولا يوجد في النظام القضائي المصري سبيل اللجوء المباشر إلى القضاء الدستوري، ومن ثم يبيت أمر بقاء هذه التشريعات المتجاوزة مرهوناً على موافقة الجهات القضائية، أو تغيير النظام السياسي أو البرلماني بما يسمح بتغييرات لهذه التشريعات، بما يتوافق مع الحاجات المجتمعية، ويتسق مع فكرة الحقوق والحريات، وهذا الإصلاح لا يكون إلا إذا توفرت مقومات الإصلاح السياسي بوجه عام.