(الخيال هو الواقع)

قال الولد إن الملك عريان
كانت أصوات الطبل تدوي فوق كل كلام، كانت الحشود تهلل منتشية في الاحتفال المهيب بثياب الملك “الجديدة”، فالملك كما وصفه الكاتب هانز كريستيان في مطلع القرن 19 مأخوذ بكل عجيب وجديد، لكن كلمة الولد عرت الحفل كله، كشفت الخديعة المصنوعة بين الواقع ومملكة الكلام والشعار
قال الولد ما رآه: الملك عاري
فلم ينتبه الملك ولم يلبس ثيابا تستره، بل حبس الولد، وظل يختال عاريا وسط حاشيته وعينه على احتفال الجموع المستسلمة لحديث المعجزات

(الواقع هو الخيال)
قال الولد إنه شاهد “حمامة” تقصف مدينة وتقتل الناس بالمتفجرات، وسأل ببراءته المدانة دوما: هل يخطط محمد بن سلمان من الآن لشراء الحمامة القادرة على وقف هجمات الحوثيين على المملكة؟
قالوا: مسكين، لقد جن الولد وصار يهذي، فما الذي يجعل “رمز السلام” يتورط في كل هذا الدمار.. في اليمن، في أفغانستان، في العراق، في سوريا، في فلسطين، وفي كل مكان؟
بعد أيام نشرت الصحافة البريطانية (حيث عاش الكاذب المدان توني بلير سنوات الحكم والعار) أن شركة أمريكية تخطط لتدريب الحمام على مواجهة الطائرات الإرهابية المسيرة “الدرونز” وإسقاطها بعمليات مفخخة!
لم تكشف الصحافة البريطانية عن اسم الشركة الأمريكية ولا عن تفاصيل تتعلق بطرق تدريب الحمام على تفخيخ نفسه، وعن علاقة معسكرات تدريب الإرهابيين داخل أمريكا بهذه الفكرة التي تسعى لتجنيد الحمام في الجيوش بدلا من استمراره في وظيفة السلام البائرة البائدة، لكن جامعة استانفورد الأمريكية كشفت عن المشروع العجيب الذي يخلط بين الخيال والواقع، حيث يعكف فريق من العلماء بقيادة “ديفيد لينتينك” لتصنيع طائرة مسيرة في صورة حمامة، وأعلن معمل لينتينك فعلا عن دراسات ناجحة (ممولة من مركز البحث العلمي التابع للقوات الجوية الأمريكية) لاستخدام الريش بدلا من الأجنحة ومحاكاة هيكل وحركة الطيور بما يجعل “الدرون” تطير وتناور بسهولة مثل الحمامة..
مشروع لينتينك يعنى أن مشروع تدريب “الحمام المفخخ” قد يتأخر أو يتعطل، لصالح خطة تصنيع روبوت طائر يؤدي دور “الحمامة العسكرية”..

تأملات في الحمامة
تأملات في الحمامة

(بين الواقع والخيال)
لم أكتب ولم أنشر داخل مصر منذ سنوات لأسباب لا أهمية لذكرها الآن، لذلك كنت أسأل نفسي كثيرا في الفترة الأخيرة: أكتب أو لا أكتب؟!، وكنت أتذكر محمود درويش
“قال يحاصرني واقع لا أجيد قراءته
قلت: دوّن إذن ذكرياتك
عن نجمةٍ بعدت
وعن غدٍ يتلكأ
واسأل خيالك: هل كان يعلم أن طريقك هذا طويل؟!”
كنت أخطط لكتابة الوداع.. تلك الكتابة السردية الطويلة عن الزمن الذي يراوغنا ويخدع أحلامنا ويقنعنا برواية قصة الهزيمة وفقط، ربما لهذا وضعت أمامي نسخة عصرية من لوحة “عودة الصيادين وسط الثلوج” وهي لوحة قديمة وخالدة رسمها فنان هولندي منذ قرون لتعبر عن الخيبات الناعمة التي تسكن وجوه الصيادين العائدين بحصيلة هزيلة وسط واقع شديد البؤس والفقر
والمقصود بالنسخة العصرية هو المحاكاة السينمائية للوحة التي قدمها المخرج السويدي روي اندرسون في فيلمه البديع “حمامة جلست على غصن تتأمل الوجود”!
هل يكفي التأمل؟
وهل تصلح كتابة الذكريات مُسكّناً مقبولا لوجع الهزيمة، وبديلا مازوخيا لعجز الخيال عن ترويض الواقع؟

هل تأخذنا الواقعية إلى ضرورة إخضاع أحلامنا لعملية تجميل حسب قواعد السوق للحصول عل “لوك جديد” قد يؤهلنا لنيل إعجاب ابن مسعود وأبو هشيمة أو الملك العاري نفسه؟

فيلم حمامة جلست على غصن تتأمل الوجود
فيلم حمامة جلست على غصن تتأمل الوجود

(ولماذا لا تدربون الغراب؟)

قلت كثيرا: إذا مت قبل أن أكتب كتابي في الفلسفة، فإنني قد مت فعلاً، مشكلة الحمامة التي تجلس الغصن تتأمل، أنها لا تجيد الكتابة ولا تهتم بتسجيل ذكرياتها، وربما تهتم وتتألم لكنها لم تقل لنا شيئا عن ألمها أو فلسفتها، أما أنا كإنسان فلدي حكاية ولدي رؤية فلسفية للأحداث التي عصفت بنا وفينا، لذلك لا يخلو مقال لي من “ديبوزيت” يذكرني دوما بسداد دين كتاب الفلسفة، ولهذا أسأل الآن: لماذا اختارت الشركة الأمريكية تدريب الحمامة على العمليات الانتحارية والتضحية بنفسها في حرب تصنع السلام!، ولماذا لم تفكر في الغراب، فمن حيث الذكاء فالغراب ذكي، ومن حيث الدلالة فإنه رمز الموت مقابل الحمامة كرمزز للسلام؟، ومن حيث الاقتصاد فإن الحمامة أنفع منه في المطاعم، ومن حيث التاريخ فإن للحمام فضل كبير في الاتصالات التي سبقت البريد والانترنت؟!!
كما تعرفون فإن الفلسفة لا تهتم بالإجابات، هي فقط تدعونا للتفكير والتأمل، وهذا يقودنا إلى أشياء من نوع أن “الدرونز” صارت خطرا مخيفا على امبراطوريات تمتلك الأساطيل العملاقة والطائرات الضخمة والجيوش الهائلة، وهذا يعيدنا إلى قصص قديمة عن بعوضة النمرود والأشياء الصغيرة التي تهزم الأشياء الكبيرة
اممممم….
الفلسفة إذن قد تمنحنا الأمل
قد تجعل من ضعفنا قوة، وقد تعلما أن جناح الفراشة قادر على تدمير ولاية أمريكية كاملة في إعصار جارف كاعصار كاترينا
الفلسفة إذن قد تعلمنا أن الجيش الأمريكي الجرار خرج لإزاحة حركة طلابية من الحكم في أفغانستان وبعد أن أنفق تريليون دولار وبضعة جالونات من الدم البشري، خرج عاريا قبل أن يتمكن من ارتداء ملابسه، وأن أسيرا سيزيفيا بقبضة فارغة تمكن من هزيمة زيوس والفرار من سجن جلبوع مستخدما ملعقة وطبقا وإيمان صادق بالحرية
بل أن أمريكا أنجزت بحمامتها العسكرية ما لم ينجزه الجيش الجرار، واغتيال قاسم سليماني بطريقة البلاي ستيشن مثال جيد يوضح لنا لماذا تسحب أمريكا قواتها التقليدية وجيوشها لتخوض حروبها الجديدة بطريقة الحمامة والدرونز وحروب الخيال

(خاتمة موسيقية)
مثل مفتاح باب القلعة الحصينة، فتحت لي أغنية صغيرة الباب للتعرف على المناضلة الفلسطينية أمل مرقس ومشروعها الغنائي المقاوم الذي يهتم بإحياء الذاكرة والحفاظ على الحمامة كرمز للسلام في مواجهة الحرب واباطرتها، وأختم مقالي بكلمات الأغنية لعلها تلخص حال العالم الآن:

“حمامة بيضا حاملة في منقارها زهرة
وحالفة بعيونها ما تسح من دم البشر قطرة
ومخربشة بجناحها ع الغيم كام شطرة
لو تفتحوا عيون البشر مرة
لو تشربوا المي من فرد جرة
كان الشمل يتلم
وما كان عرفوا الهم
لو تفتحوا عيون البشر.. ما كانوا عرفوا الحرب بالمرة
.
أشكركم على تحمل قراءة المقال إذا وجد طريقه للنشر، والسلام حمام