في عصر تطورت فيه القنوات التلفزيونية حتى وصلت إلى ثمانية لا تشمل ساعات بثها الكثير من برامج الأطفال سوى بضعة أيام في الأسبوع، كانت المكتبات المتنقلة التابعة لوزارة الثقافة واحدة من أسباب بهجة أطفال التسعينات من القرن الماضي، حيث كان الكثير منهم ينتظرها ويستقصون مواعيد وصولها من بعضهم البعض. فقد كانت القراءة هي السبيل الأفضل لقضاء وقت في عالم لم يعرف بعد انتشار الانترنت.
كبر هؤلاء الأطفال، شاهدوا اختفاء المكتبة المتنقلة من الحي، لكن شغفهم بالقراءة دفعهم للتقصي حتى وصلوا إلى أقرب مكتبة عامة، قد تكون واحدة من التي حملت اسم “مكتبة مبارك” وتتميز بالكثير من الإمكانيات، أو غرفة صغيرة في أحد مراكز الشباب التي أفرزت وقتها جيلًا كبيرًا من الرياضيين والقراء. من اتبع شغفه من هؤلاء نضج مع قراءاته حتى صار يبحث عن أجمل المطبوعات بأرخص الأسعار، والتي حملت وقتها اسم “مكتبة الأسرة”.
مبان فارغة
مع انتشار الفضائيات والانترنت تضاءل دور المكتبات العامة رويدًا حتى كادت تتلاشى إلا من مباني حكومية تُعاني الفراغ أو الإهمال، وصارت مُحاطة بالباعة الجائلين والمخلفات من كل جانب، مثل مكتبة الطفل في قرية محلة حسن، التابعة لمركز المحلة الكبرى في محافظة الغربية. والتي تحولت من صرح ثقافي يعمل في خدمة الأهالي ويتباهى به الصغير والكبير لما يقرب من 21 عامًا، إلى مبنى مهجور تسكنه الحشرات والزواحف والثعابين، ويفترش الباعة الجائلون ساحته لبيع الخضروات والأطعمة. فصارت موضع استغاثة يصدح بها الأهالي دون تحرك من الأجهزة المعنية لإنهاء الحصار، ورفع الإشغالات المخالفة.
استغاثة أهالي القرية بشأن حصار الباعة الجائلين حول المكتبة جاءت قبل أيام، بعد أن تسببوا في إغلاق أبوابها فعلياً، لتكشف الإهمال البشع الذي تعرضت له المكتبة التي جرى تشييدها على مساحة كبيرة، ثم أصبحت مغلقة بصفة دائمة، دون أن يتم استغلالها بصورة كافية، في ظل غياب العاملين بها، وانتشار الباعة الجائلين، كما أكد الأهالي خلال الاستغاثة التي نشروها.
ليست مطالبات أهل قرية محلة حسن بإعادة استغلال مكتبة الطفل هي الأولى بالنسبة لظاهرة إغلاق المكتبات العامة، والتي زاد من فداحتها جائحة كوفيد 19، فالكثير من المكتبات في العديد من ربوع مصر طالتها يد الإهمال أو الإغلاق، إما بسبب التكاسل الوظيفي، أو عدم توفير إمكانيات مناسبة. كما أن بعض المكتبات تعاني من ضعف الإقبال، نظراً لضيق مساحتها وإمكانياتها وأنشطتها المحدودة التي لا تجذب القراء، مثل مكتبة الزيتون العامة التي تم توسعتها مؤخرًا.
في الوقت نفسه، تُعاني العديد من المكتبات التي تملك المقومات الكبيرة لجذب الجمهور، سواء مباني وتجهيزات حديثة أو وسائل متطورة، من قلة الإقبال الجماهيري لأسباب متنوعة، منها ضعف الدعاية، أو عدم قدرة العاملين على تحقيق الأهداف المرجوة، ما يُساهم في عزوف الجمهور لوسائل تثقيفية أخرى مثل مواقع الانترنت.
1456 مكتبة
بلغ عدد دور الكتب والمكتبات 1456 مكتبة (عامة -متخصصة – جامعية ومعاهد) في عام 2018 مقابل 1440 مكتبة (عامـة -متخصصة – جامعية ومعاهد) عام 2017 بنسبة زيادة قدرها 1.1 ٪. وفق بيان للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء صدر بمناسبة اليوم العالمي للكتاب، والذي يوافق 23 أبريل من كل عام.
وبلغ عدد المترددين (مطالعين / مستعيرين) 6260 ألف متردد عام 2018، كما بلغ عدد المقتنيات بالمكتبات العامة 2879 ألف كتاب عام 2018 مقابل 2857 ألف كتاب عام 2017 بنسبة زيادة قدرها 0.8٪.
وبلغ عدد الكتب والكتيبات المؤلفة والمترجمة المودعة إيداعا قانونيا بدار الكتب والوثــائق القومية 14.8 ألف كتاب وكتيب، وبلغ عدد الـنسخ المطـبوعة 148.2 ألف نسخة عام 2018 مقــابــل 14.6 ألف كتاب وكتيب، وبلغ عدد النسخ المطبوعة 146.1 ألف نسخة عام 2017 بنسبة زيادة قدرها 1.5٪.
تتضاءل هذه الأرقام بشدة بالمقارنة بدول كالولايات المتحدة وبريطانيا، حيث تضم الأولى ما يقرب من 117 ألف مكتبة، منها 9 آلاف مكتبة عامة تنتشر في 16 ألف مبنى، وما يزيد عن 98 ألف مكتبة في المدارس 81 ألف منها في المدارس العامة. بينما وصل عدد الزيارات إلى مليار ونصف المليار شخص في عام 2012.
أما في بريطانيا، فعدد المكتبات العامة قد وصل إلى 4145 مكتبة في 2014 من 4620 في 2002، بينما بلغ عدد المكتبات الأكاديمية ما يصل لألف مكتبة.
وفي مصر هناك مكتبة عامة لكل 300 ألف شخص، وفي الولايات المتحدة هناك مكتبة عامة لكل 20 ألف شخص.
المكتبات المتنقلة
مثّلت المكتبات المتنقلة في بدايتها، قبيل غزو التكنولوجيا المدن والقرى المصرية، مشروعًا ضخمًا حقق صدى كبير للغاية في ربوع البلاد، عندما وجد الناس الثقافة تصل إلى باب بيتهم، سواء في القرى أو المناطق الشعبية. لكن سرعان ما تحول المشروع الذي بدأته دار الكتب في عام 1984 إلى نشاط حكومي مترهل آخر.
بدأ مشروع المكتبات المتنقلة بمكتبتين تم صنعهما من سيارتين مقطورة، وكانت إحداهما للاستعارة والأخرى منفذ لبيع الكتب. شرعت السيارتان تجوبان المنطقة بين التبين القريبة من حلوان وحتى قليوب الواقعة على أطراف القاهرة الكبرى؛ وفى العام التالي، أصبحت الاثنتان للاستعارة وتم تحويل خط سير واحدة منهما ليصبح بين الوراق ومدينة السلام.
تلقت الدار بعد ذلك هدية من المجلس الثقافي البريطاني شكلت الوحدة الثالثة للمشروع، لتصبح أول مكتبة متنقلة مصرية متخصصة “مكتبة طفل”. وفى عام 1998 قدمت وزارة التعاون الدولي دعم للمشروع بثلاث مكتبات متنقلة، وأضيفت المكتبات -التي صنعت هذه المرة من أتوبيسات مثل المستخدمة في نقل الركاب- إلى المشروع، ليصبح ست سيارات تعمل كل منها بسائق وقوة 3 موظفين لتقديم خدمات المكتبة.
بدأت كل مكتبة متنقلة الخدمة وبها ما يتراوح بين 3 و4 آلاف كتاب، يضاف إليها دائما عن طريق قيام الموظف بالتوجه إلى قسم التزويد، للحصول على الكتب الجديدة التي تصل إلى الدار من الناشرين بموجب قانون الإيداع، بالإضافة إلى شراء كتب بحسب الميزانية ولمرة واحدة سنويا.
دون إقبال
وكانت خطة عمل المكتبات تقتضي بأن تمر الواحدة منها بعشرة مواقع مرتين في الشهر، بحيث تصبح مدة الاستعارة لكل قارئ أسبوعين يسمح له فيهما بأن يستعير 3 كتب مع وجود هامش من المرونة يسمح له بتجديد استعارة الكتب لمدة أسبوعين آخرين خاصة إذا كان الكتاب لا يحظى بإقبال كبير من الجمهور.
مع الوقت، بدأ نجم المشروع في الخفوت، بعد أن ترك المؤسسون الخدمة لوصولهم السن القانوني للمعاش، بينما فضّل آخرون العمل في المكاتب الإدارية، فالموظف العامل في المكتبات المتنقلة يذهب إلى إدارة دار الكتب صباحا قبل أن يتوجه مع السيارة إلى المكان المفترض.
بالإضافة إلى ذلك، واجهت سيارات المشروع مشكلات أخرى، مثل إيقاف السيارة في أي مكان، ليستدعي الأمر ضباط المرور منعها، وكان بعضهم يطلب تصاريح عمل هذه السيارات في الشارع. كذلك هناك مشكلة الباعة الجائلين المنتشرين في كل الأماكن، وسائقي الميكروباص والمواقف العشوائية.
حتى عندما حاولت إدارة المكتبات المتنقلة التحايل على الظروف والتركيز على الجامعات ومراكز الشباب بما يتناسب مع أهداف المشروع من خدمة المناطق التي لا توجد بها مكتبات ثابتة، تظل مشكلة التصاريح عائق كبير؛ وهو ما أدى إلى تدنى أعداد المشتركين في استمارات الاستعارة مما يقرب من 15 ألفا عام 2010 إلى أقل من 5 آلاف عام 2012.
مكتبات مصر
في مارس 1995 أطلقت السيدة الأولى السابقة سوزان مبارك مشروع مكتبات مصر العامة، والتي حملت سابقًا اسم “مكتبات مبارك” حتى تم تغيير اسمها في أعقاب ثورة يناير 2011، بهدف تنمية وتشجيع القراءة لدى جميع الأعمار بفروعها في القاهرة، ومكتباتها المنتشرة في أرجاء المحافظات.
وتعتبر منظومة مكتبات مصر العامة من أكبر المكتبات العامة في مصر ومن أفضلها على الإطلاق. فهي واحدة من المشروعات الثقافية الرائدة في مصر. وهي نتاج تعاون دولي مصري ألماني مشترك يضم ثلاثة أطراف هي، وزارة الثقافة ممثلة في صندوق التنمية الثقافية، ومؤسسة برتلسمان الألمانية، وهي مؤسسة أهلية ألمانية تعمل في مختلف مجالات الخدمة العامة بما فيها مجال المكتبات العامة، وجمعية مصر للثقافة وتنمية المجتمع -جمعية الرعاية المتكاملة سابقاً- وهي مؤسسة أهلية مصرية.
كان وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني قد خصص دعمًا كبيرًا للمشروع، حتى أن الفرع الأول لمكتبة مصر العامة بحي الزيتون بالأميرية، تم افتتاحه في شهر مارس عام 1995 بحضور رئيسة البرلمان الألماني -البوندستاج- ووزير خارجية ألمانيا.
بعد ذلك أنشأت المكتبة مكتبة فرعية أخرى في منطقة الزاوية الحمراء. وتم افتتاحها في 2014. وساهمت الدانمارك في إنشائها في إطار منظومة تعاون ثقافي مصري- دانماركي مشترك.
ويقع مبنى مكتبة مصر العامة في مكان متميز يطل على النيل في حي الدقي بمحافظة الجيزة. كما أنه يتميز بقربه من جامعة القاهرة والكليات التابعة لها والمعاهد العليا والمتاحف الفنية والمدارس الابتدائية والإعدادية الخاصة والحكومية. ويقع المبنى في ثلاثة طوابق على مساحة 600 متر مربع، تحيطه حديقة مزدهرة على مساحة 2000 متر مربع.
المبنى في الأصل “فيلا” مميزة ذات طراز معماري خاص، وقد تم تهيئتها لكي تفي بحاجة المكتبة، من حيث المساحات المناسبة للقاعات، وكفاءة التهوية والتكييف، وجودة الإضاءة بالاعتماد على الإضاءة الطبيعية، والأثاث المناسب من ناحيتي الشكل والأداء.
مكتبات المحافظات
وتطور المشروع لافتتاح عدد من المكتبات الإقليمية بالمحافظات، منها مكتبة الوادي الجديد في أكتوبر 2003، على مساحة 1132 مترا مربعاً، وتضم قاعات للكبار والأطفال ولذوي الهمم ومواقع لإقامة الأنشطة والهوايات وقاعة للإنترنت. وأيضا كافتيريا لخدمة جمهور المكتبة، وقاعة متعددة الأغراض، وتستخدم في التدريب والمحاضرات والندوات وكصالون للفكر والأدب، ومسرح روماني لإقامة الأنشطة المختلفة.
وبلغت مساحة المكتبة نحو 400 متر مربع، مزودة بالتجهيزات الخاصة بالصوت والإضاءة، كما تم إنشاء مبنى ملحق بالمكتبة يضم ثلاث قاعات بمساحة إجمالية نحو 512 مترا مربعاً.
كما تم إنشاء مكتبة بورسعيد في مارس 2004، وتشمل قاعات للكبار وقاعات للأطفال، ومركزا للتدريب، وقاعة متميزة للندوات، وناديا لتكنولوجيا المعلومات، وقاعة للمواد السمعية والبصرية، بالإضافة إلى مركز الإبداع بحديقة المكتبة.
وفي يونيو 2005 تم افتتاح مكتبة المنصورة، والتي تتكون من 4 أدوار تحتوي على العديد من قاعات الاطلاع للأطفال، والأنشطة والهوايات، والعرض السينمائي، والمعارض لعرض إنتاج ورش عمل الأطفال، بالإضافة إلى قاعة الاطلاع للكبار، والمكتبة الرقمية، وقاعة المخطوطات والكتب النادرة وقاعة الإنترنت.
وتوالى إنشاء العديد من المكتبات الأخرى التابعة لمكتبة مصر العامة، مثل مكتبة دمياط، ومكتبة الغردقة في أغسطس 2005، ومكتبة الأقصر في مايو 2007، ومكتبة دمنهور بمحافظة البحيرة في مايو 2009، ومكتبة الإسماعيلية في يونيو 2010.
451 فهرنهايت المصرية
في بعض الأحيان يبدو أن القائمين على المكتبات أكثر خطرًا من العوامل المحيطة بها. ففي تقرير نشرته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان في مارس الماضي بعنوان “451 فهرنهايت على الطريقة المصرية.. حرق الكتب وحصار وغلق المكتبات ودور الثقافة في مصر”. قام الباحثون بتوثيق ورصد لأهم وقائع حصار وإغلاق أو وقف أو هدم مؤسسات ثقافية في الفترة من عام 2014، وحتى نهاية 2020.
ورصد التقرير غلق وهدم 50 مكتبة ومسرح ومبادرة ثقافية تماما خلال 7سنوات، من 2014 حتى 2020. وهي (مسرح الاربعين، الفن ميدان، جاليري تاون هاوس، مسرح روابط، مسرح العبد، مسرح السلام، 6 مكتبات الكرامة العامة، مكتبة اليرموك، 37 مكتبات ألف).
ورصد الباحثون كذلك حصار وتهديد بغلق 5 مكتبات ودور ثقافية (دار نشر ميريت، مكتبة التفوق العلمي، مكتبة 6 أكتوبر، مكتبة البلد، مسرح البالون). حيث تم تنفيذ سياسات الغلق والهدم والحصار للمسارح والمكتبات والمنافذ الثقافية، بواقع أكثر من 7 مؤسسات في العام الواحد، وفقًا للقائمين عليه.
كما رصد ما حدث لمكتبتي التفوق العلمي و6 أكتوبر، التابعتين للهيئة العامة لقصور الثقافة. اللتان كانتا مقصدا ومنبرا ثقافيا هاما لكل جمهور ومواطني محافظة بورسعيد. حيث يقدمان خدمات الاستعارة والقراءة، ومقصدا لطلاب المدارس والجامعات، وكل المهتمين بالثقافة والأدب والفن.
لكن بشكل مفاجئ أصدر محافظ بورسعيد اللواء عادل الغضبان في أكتوبر 2016، قرارًا بإخلاء المكتبتين دون توفير بديل عنهما، بدلا من تطويرهما وتحسين أوضاعهما، وهو ما استنفر الاهالي والمثقفين والطلاب في بورسعيد ضد هذا القرار. وأصدر المثقفون بيانا بالرفض وطالبوا فيه أبناء بورسعيد بالتوقيع عليه والتضامن معهم، حتى لا يكون مصيرهما مصير الكتب هو الالقاء في الشارع، مثلما حدث مكتبة اليرموك. وقد نجحت الحملة جزئيا، حيث مازالت المكتبتين قائمتين بعد رفض المثقفون والاهالي للقرار.