في سيرته الذاتية الهامة “أوراق العمر“، يستعرض الدكتور لويس عوض تطور الأسماء التي أطلقها المصريون على أبنائهم عبر السنوات، ويوضح من خلال هذا الاستعراض كيف هيمنت الأسماء “المحايدة” طوال عقد الخمسينيات ومعظم الستينيات، أي الأسماء التي لا يمكن من خلالها تمييز ديانة صاحبها، على غرار نبيل وشريف ورمزي وسلوى وسناء وليلى، ثم مع “الصحوة” الدينية التي أعقبت هزيمة 1967 ودولة السبعينيات، هيمنت الهوية الدينية على الأسماء، فأصبحت أسماء النبي والصحابة وآل البيت ملازمة للأسر المسلمة، بينما استعادت الأسر المسيحية أسماء القديسين والقديسات والآباء والرهبان.
لقد مر أكثر من ثلاثين عاما على صدور كتاب لويس عوض، واصلت فيها الأسماء الدينية الهيمنة، وإن تطورت الأسماء الإسلامية أكثر فلم تعد تكتفي بأحمد ومحمد وعلي وزينب كما كان جيل الآباء، بل صارت أكثر “تخصصا” لو جاز التعبير، على غرار معاذ وحذيفة وجويرية، أما من يخلو اسمه الثلاثي أو اسم شهرته من لقب ديني، فكثيرا ما يبحث عن جد يحمل مثل هذا اللقب ليضيفه إلى اسمه، ليشتري انحيازا – كما يظن – أو ليمنع غموضا يعتقد أنه قد يضره.
وقد لاحظ البعض، من دون إحصاء أو دراسة جدية، أن ثمة تغيرا جديدا في الأسماء، في السنوات القليلة الماضية، أصبح فيه الاهتمام الأكبر للأسر هو اختيار أسماء غريبة أو جديدة أو ذات وقع مختلف ومتميز، وإن كان ذلك يحتاج وقتا لتبيان مدى تحوله إلى ظاهرة.
والقصد أن الحجة التي أثارها البعض، بالتقليل من أهمية حذف أو الإبقاء على خانة الديانة “لأن الأسماء تفصح عن ديانة أصحابها على أي حال”، هي حجة تتجاهل التغيرات الاجتماعية عبر الزمن، وتعتقد أن كل المسلمين كانوا يسمّون أولادهم دائما عبد العزيز وعمر وحسين، وأن الأقباط لم يحملوا مطلقا سوى أسماء دميانة ومينا وكيرلس.
ومع ذلك فإن معظم النقاشات حول خانة الديانة في البطاقة الشخصية تكاد ألا تنتبه إلى المعنى الحقيقي لوجود مثل تلك الخانة؛ إن وجود خانة للديانة لا يعني أن من حقك أن تدوّن رسميا العقيدة التي تؤمن بها، بل يعني أنك مجبر على الاختيار بين ديانات محدودة للغاية تحددها لك الدولة، وأن تنتسب إلى إحدى تلك الديانات حتى لو لم تكن مؤمنا بها فعلا، فالمهم أن يتم “توزيعك” إلى تلك الديانة أو غيرها، أما عقيدتك الحقيقية فلا تهم، وفضلا عن ما يترتب على ذلك من اعتبارات قانونية ومعاملات مادية وكافة ما يتداخل فيه الانتماء الديني بالقوانين المدنية، فإن الأمر ليس إلا ترسيخا للازدواجية الأخلاقية التي تضرب العديد من “قيم ” المجتمع، والتي أساسها أن يظهر الإنسان عكس ما يبطن، والطريف إن البعض أعلن خشيته من أن يستغل البعض حذف خانة الديانة لكي يتزوج من ديانة أخرى “لا تجوز له”، وبعيدا عن أن هذا أمر يسهل علاجه في أعرق بيروقراطية في العالم، فإن هذا التخوف يفترض أن القناعة الدينية نفسها لا يمكن أن تكون أوسع من الديانات التي حددتها الدولة، فإذا لم يكن أحد الأشخاص مسلما فهو لا يمكن أن يكون إلا مسيحيا والعكس صحيح.
وحتى مع استبعاد غير المؤمنين، فإن طيف المؤمنين متسع وهو أوسع كثيرا من الديانات الثلاث المسموح بتدوينها في بطاقاتنا الشخصية، وهما عمليا ديانتان فقط لأن اليهودية تكاد تكون انقرضت في مصر، أما البهائيون، وهم ديانة مستقلة فهم يعانون حتى لمجرد وضع شَرطة ( – ) في خانة الديانة بدلا من مسلم ومسيحي، وحتى تدوين الديانة في حالات الانتقال الديني بين عنصريّ الأمة، ليس بهذه السهولة. وفي كثير من الأحيان، كما في مسائل الميراث، يطبّق المشرع القوانين الإسلامية على الجميع، وبالطبع فإن عبارة “القوانين الإسلامية” هي عبارة واسعة جدا، أو قُل هي عنوان تندرج تحته مذاهب وتأويلات لا نهاية لها، وما الخلاف الأخير بين أستاذين كبيرين في الشريعة هما الدكتور علي جمعة والدكتور مبروك عطية، حول أحقية الأب في كتابة أملاكه لبناته في حياته، إلا أحد الدلائل على ما يمكن أن تتسع فيه الفجوة في الآراء حتى بين عالمين ينتميان لذات الدين والطائفة والمذهب، فما الحال حين يختار التشريع أحد الآراء لا للتطبيق على أبناء مذهب معين فحسب، بل على معتنقي المذاهب أو الآراء الأخرى، بل على من لا يعتنقون شيئا.
لهذا فإنه إن كان حذف خانة الديانة من البطاقة ليس أمرا كافيا – نحو دولة مدنية – على أي حال، إلا أن السبب ليس الطبيعة الدينية للأسماء (فتلك يغيرها الزمن كما أوضحنا)، وإنما لأن ترسانة قوانين هائلة لابد أن تتيح الاختيار المدني كي يكون لمثل هذا الحذف المفترض معنى، ومع ذلك، فإنه يبقى – إذا تم يوما- إجراءً رمزيا مهما، ومقدمة لا غنى عنها لما قد يليه، وإعلان حقيقي عن أن “الوطن للجميع” بعد مئة عام على إطلاق هذا الشعار.