بينما كانت الأمور تسير في إطار تعاون اقتصادي “تاريخي” وغير مسبوق بين مصر وليبيا، فكَّر أحدٌ ما في حِيلة وصفت بـ”الصبيانية”، عندما جرى تسريب حديث دار في اجتماع مغلق بين رئيسي وزراء البلدين، عبدالحميد الدبيبة ومصطفى مدبولي.

ومحتوى الحديث لا يُدين الجانب المصري، بقدر ما يُسجِّل مآخذ على الطرف الليبي باعتباره أخرج حديث الغرف المغلقة للعلن، في مخالفة للأعراف الدبلوماسية، خاصة في ظل علاقة آخذة في التطور، لعل أكبر خسارة يمكن أن يسببها هذا الموقف هو فقدان الثقة في الطرف الليبي، وهو ما سينعكس مستقبلاً على إطار العلاقة بين الطرفين، بيد أنه من المستبعد أن يهز خطة التعاون التي أُعلنت من القاهرة قبل أيام، باعتبارها استراتيجية تعلو على تلك التصرفات، لاعتبارات اقتصادية بعيدة المدى.

“دقائق متناقضة”.. الدبيبة يستعطف ويهاجم ويمدح

محتوى التسريب جاء في إطار طلب الدبيبة من رئيس الحكومة المصري التدخل، لدعم موقف ليبيا في صراع قضائي تنظره محكمة تجارية مصرية بين الدولة الليبية وشركة الخرافي الكويتية منذ عام 2010، وصدر حكم بأحقية الشركة الكويتية في تعويض 935 مليون دولار.

الدبيبة الذي غلب على حديثه الجانب العاطفي في طلب الدعم المصري، قال في التسجيل المتداول: “هذه الأحكام ظالمة نطلب منكم التدخل لوقف هذا الظلم.. مصر دولة جيدة للاستثمارات الليبية، ونحن لا نشكك في الدولة المصرية، لكن عندما يكون في أحكام ظالمة لازم تساعدونا”.

وتابع: “عارف القضاء نزيه لكن نريد أحكاما حقيقة، لا ترضوا بظلمنا ولا ترضوا بظلم شعبنا.. هذه أموال الشعب الليبي ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نسكت عنها ونتركها تذهب.. سواء من المحاكم التي صدرت منها الأحكام أو من خلال بعض النصب والاحتيال من الليبيين أو من أي طرف ثاني”.

الدبيبة ناقض نفسه كثيرًا خلال التسجيل الذي لم يتعد بضع دقائق، ففي حين كرر احترامه القضاء المصري، تحدث عن ظلم وقع على الدولة المصرية في القضية باعتبار أن حكم المحكمة ظالم وسلب أموال الليبيين.

اقرأ أيضًا| هدف اقتصادي في شباك سياسية.. حصاد مصري متعدد من برنامج “إعمار ليبيا”

لكن رغم ذلك، جاء رد رئيس الحكومة المصرية دبلوماسيًا، باعتبار أن الملف قضائي وليس سياسي، لذلك تسلم الكلمة من الدبيبة بالقول مباشرة: “شكرًا دولة الرئيس مرة أخرى كل الترحيب بحضراتكم وكل الزملاء، نستأذن حضرتك للانتقال للتوقيع على المشروعات”، دون أن يتطرق للقضية سواء بالإيجاب أو بالسلب.

ما قصة قضية “الخرافي” وليبيا؟

النزاع بين شركة الخرافي الكويتية والدولة الليبية يعود للعام 2010، عندما سحبت الحكومة الليبية إبان عهد حكم الرئيس الراحل معمر القذافي من مجموعة الخرافي أرضًا بمساحة تقارب 60 فدانا في منطقة تاجوراء بالعاصمة طرابلس، كانت قد حصلت عليها بحق انتفاع لمدة 90 عاما بقيمة إيجار سنوية تقدر بـ730 ألف دينار ليبي، بموجب تعاقد بينهما عام 2006، نظير إقامة مشروع استثماري بقيمة 130 مليون دولار، وذلك “لعدم التزام الشركة ببنود التعاقد”.

وفى أعقاب ذلك، دخل الجانبان في نزاع قضائي بالمحاكم المصرية، على خلفية ما نص عليه العقد الموقع بينهما. وفي 22 مارس 2013، حصلت المجموعة الكويتية على حكم لصالحها من هيئة التحكيم العربي في القاهرة، بتعويضها بقيمة 30 مليون دولار عن الأضرار الأدبية، و5 ملايين دولار قيمة خسائر مصروفات، و900 مليون دولار عن الكسب الفائت عن الفرص الضائعة المحققة والمؤكدة، ومليون و940 ألف دولار رسوم ومصاريف التحكيم، فضلاً عن فائدة 4% من إجمالي مبالغ التعويضات المحكوم بها من تاريخ الحكم وحتى السداد التام.

وعندما حصلت الشركة الكويتية على الحكم القضائي، وتحديدا في أبريل 2014، حجزت على 120 مليون دولار أمريكي من أموال المؤسسة الليبية للاستثمار في فرنسا، بموجب حكم التحكيم بتعويضها بقيمة قاربت مليار دولار.

وفي 4 نوفمبر 2015، قضت محكمة النقض (أعلى جهة قضائية) في حكمها الأول، بقبول طعن الحكومة الليبية وإلغاء حكم الاستئناف. وقضت محكمة النقض في حكمها الحديث بقبول الطعن وإعادة القضية للمرة الثالثة إلى الاستئناف لتحكم فيها بهيئة مشكلة من قضاة آخرين، مؤكدة أن حكم محكمة الاستئناف جاء معيبا مستوجبا الإلغاء، لعدم اتباعه حكم النقض السابق في الدعوى، الذي قضى صراحة باختصاص محكمة استئناف القاهرة بنظر دعوى بطلان حكم التحكيم.

من هو وليد اللافي المتهم بالتسريب؟

لم يهتم الليبيون بمحتوى التسريب قدر اهتمامهم بمنْ يقف وراءه، والذي تشير كافة الترجيحات إلى وليد اللافي وزير الدولة للشؤون السياسية والاتصال، وهو أحد القيادات الشابة بجماعة الإخوان المسلمين، والذي يملك رصيدًا سابقًا من العداء مع الدولة المصرية.

وليد اللافي
وليد اللافي

وبينما عجّت مواقع التواصل الاجتماعي في ليبيا بالتسريب، إلا أن تعليقات الليبيين جاءت في إطار كشف الوجه الآخر لوليد اللافي الذي عمل سابقًا كرئيس لقناة “النبأ” الإخبارية المملوكة لعضو جماعة المقاتلة عبدالحكيم بالحاج، ثم تولى إدارة شبكات إخبارية، كانت الذراع الإعلامية لقوات غرب ليبيا خلال الحرب الأخيرة مع قوات شرق ليبيا.

في يونيو 2017 وضعت لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب الليبي وليد اللافي ضمن قائمة قدّمتها إلى دول الرباعي العربي لوضعهم على قوائم الإرهاب لارتباطهم بجماعات متطرفة، وعلاقات بأطراف في تركيا وقطر.

وكان اللافي لسنوات ناطقًا باسم “مجلس شورى مجاهدي درنة وبنغازي” الذي تشكل عقب أحداث 2011، وضم بين تشكيلاته عناصر تنتمي أو مرتبطة بتنظيم القاعدة في ليبيا، والجماعة المقاتلة وأنصار الشريعة وشباب الإسلام.

وعندما جرى اختياره ضمن التركيبة الوزارية لحكومة عبد الحميد الدبيبة، أصدر ليبيون اعتراضات عديدة، لكن أطرافًا محلية رأت في رأب الصدع وتجاوز الخلاف مقدمًا على رفض وزير في الحكومة الجديدة.

اقرأ أيضًا| ليبيا.. محاولة لتقليم أظافر أمراء الحرب وفرصة لتقوية أنياب الدولة

سابقة ابتزاز

اللافي يبدو أنه متمرس في فنون “الابتزاز”، فقد قام برفقة مدير الإنتاج في قناة “النبأ” باسم العرفي، حفلات وسهرات فنية في العاصمة التركية أسطنبول، واستدعى خلالها شخصيات ليبية معروفة وقام بتصويرهم في حالة سُكر لابتزازهم، وهو ما كشفته مذكرة تحقيق لدى النيابة الليبية مطلع العام الجاري كانت تحقق في قضية اختلاس وفساد اشترك فيها وليد اللافي وعاطف بكره وأشرف بن إسماعيل وعلي الصلابي.

التحقيقات كشفت عن أن عاطف بكره ووليد اللافي سافرا إلى إيطاليا، قبل الاتفاق على تشكيل الحكومة الحالية، وعقدا لقاء مع “جهات سيادية”، جرى الاتفاق خلالها على ممارسة روما ضغطًا على الأطراف الليبية لتولي أحدهما منصبًا حكوميًا رفيعا، ثم لاحقا كشف مذكرة تحقيق أن اللافي متورط في تجنيد شخصيات ليبية اجتماعية وسياسية لصالح جهات أجنبية.

لماذا خرج التسريب في هذا التوقيت؟

منذ تحول التسريب إلى قمة اهتمام الرأي العام في ليبيا، تباينت التعليقات التي تفسّر السبب الذي يقف وراء هذه الخطوة، سواء كانت تصرفا شخصيًا من وليد اللافي أو باتفاق مسبق أطراف حكومية، حتى لم تستبعد رئيسها عبد الحميد الدبيبة.

حملة دعائية

جانب من الآراء، خاصة من الأطراف المعارضة لرئيس الحكومة الحالي، تذهب في اتجاه أن التسريب ياتي في سياق حملة دعائية من الدبيبة، لإظهار كونه مهتمًا بأموال الليبيين في الخارج ومساعيه لاسترداد حقوقهم، بالتوازي مع حملات داخلية بدأت بمنحة الزواج ودعم مالي للشباب.

https://twitter.com/M_MAHJOOB32/status/1439379645518991366?s=20

هذه الآراء تعتقد أن الدبيبة متفق مع وزيره اللافي على إخراج التسريب بهذا الشكل، خاصة كونه لا يحمل إحراجًا في التفاصيل مع الجانب المصري، بخلاف كونه خرج من دون علم المصريين، وهو ما يستطيع احتواءه بسهولة، لكن في الوقت نفسه يسجل من خلاله أهدافًا جماهيرية عديدة، تسبق الانتخابات المقررة قبل نهاية العام، والتي تضع مؤشرات الرأي العام الدبيبة بين الأكثر شعبية.

اقرأ يضًا| 100 مليار دولار تنتظر مصر من استقرار ليبيا

حركة تركية

بعض اتجاهات الرأي تربط بين فرضية وقوف وليد اللافي وراء التسريب وبين علاقته القوية بتركيا، وهجومه السابق ضد مصر مرارا وتكرارا، ولذلك يعتقدون أن هذا الموقف يهدف لإفساد العلاقة بين مصر وليبيا، خاصة بعد عقود الاستثمار المليارية التي كانت تريدها تركيا في البلد المقبلة على عملية إعمار.

قبل أن تختار الحكومة التركية الجانب المصري كأول المضطلعين بعملية إعادة الإعمار، كانت عين تركيا منصبة على الدمار في البنية الليبية باعتبارها الأولى بترميمها، وهو ما بدا من حديث مدحت ينيغون، رئيس اتحاد المقاولين الأتراك لوكالة “فرانس برس” العام الماضي بما يُشبه المصارحة حول الأهداف التركية في ليبيا، عندما قال: “هناك حالة خراب في ليبيا للأسف، وستكون هناك فرصة لصفقات كبيرة في قطاع البناء في البلاد. أقدرها بحوالي 50 مليار دولار”.

أردوغان يستقبل الدبيبة في إسطنبول
أردوغان يستقبل الدبيبة في إسطنبول

ورغم أن الدبيبة اصطحب وليد اللافي وعدد من الوزراء إلى تركيا مؤخرًا، لكن الزيارة لم تفض إلى اتفاقيات على غرار ما وقعها في القاهرة، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن 35 شركة تركية تعاقدت قبل انتفاضة 2011 بعامين، لتنفيذ 207 مشاريع في ليبيا. وتعهد القذافي وقتها بتمكين شركات تركيا من تنفيذ استثمارات حكومية، خلال ثلاث سنوات، قيمتها 100 مليار دولار. وكانت أنقرة تخطط لاستثمار 35 مليار يورو في البنى التحتية بليبيا خلال الأشهر العشرة الأولى من العام 2011.

ورغم أن الحديث عن “حركة تركية” بطلها وليد اللافي القريب جدًا من أنقرة، لكن يدفع مناهضون لهذه الفكرة بأن حكومة الدبيبة نفسها ستكون خاسرة بتوتر علاقتها مع مصر، وهو أمر غير وارد في الفترة الحالية، في ظل دور مصر آخذ في التطور والتنامي والتأثير بالملف الليبي.

توريط الدبيبة

الطرف الآخر، الداعم لرئيس الحكومة يدفع في اتجاه أن التسريب يهدف إلى توريط عبدالحميد الدبيبة الذي يكافح حاليًا لتجنب سحب الثقة الذي يحاول البرلمان فرضه منذ أسابيع. ويستبعد هذا الفريق أن يكون وليد اللافي هو المسرب للتسجيل، لكنهم لم يجدوا تفسيرًا آخر لمن يقف وراء التسريب، لكنهم يشيرون إلى أن الاجتماع الذي حضره عدد كبير من المسؤولين والوزراء يفتح الباب أمام عدة سيناريوهات.

هذا الفريق يفترض أن الجهة التي تقف وراء التسريب تريد تقديم إثبات للمجتمع الليبي أن الدبيبة لا يستطيع السيطرة على فريقه الحكومي، فماذا عن دولة مفتتة إلى أطراف متصارعة، وهنا يعتقد هذا الفريق أن رئيس الحكومة بات الآن في موقف ضعف فعلاً إن لم يخرج لكشف تفاصيل ما حدث، وإحالة الأمر للتحقيق.

النقطة الجوهرية في هذا الاتجاه، هو ما لفت إليه مغردون ليبيون على موقع “تويتر” بالتساؤل عن كم التسجيلات التي تتم لمسؤولين حكوميين في ليبيا ويجرى تسريبها لجهات أجنبية، باعتبار أن حكومة الدبيبة لم تستطع السيطرة على وفد صغير في القاهرة، فماذا عن اجتماعاتها محليا.

ابتزاز مصر

هنا يبرز فريق ثالث، لا يميل في مواقفه السياسية أو الأيديولوجية إلى أيٍّ من الطرفين، ينقل رواية أن الدبيبة الذي جاء بحكومة شبه كاملة إلى القاهرة ووقع اتفاقات بمليارات الدولارات، حاول ابتزاز المصريين بالمساواة بين الاستثمارات الضخمة التي وضعها تحت صرفهم وبين المساعدة في محو قضية تعويض بحوالي مليار دولار.

هذا الفريق يذهب في تصوره إلى أن الطرف المسرب للتسجيل لا يمكن تحديده على وجه الدقة، ولا يعتقدون أن أمر كشفه مهما، بقدر ما كشفت التسريب عن ماهية العلاقة التي يتعامل بها الدبيبة في سياستها الخارجية، وهم بذلك يتساءلون إن كان المصريون يقبلون بهكذا أسلوب.

ما تداعيات التسريب؟

حتى الآن تجاهل الجانبان التعليق رسميًا على التسريب، وهو ما رشّح لطيّ صفحته علنيا، وإن ظلت رواسبها باقية في سرية العلاقة بين الطرفين، لاسيما أن التسريب الذي لم يحمل مضمونًا سريًا أو تفاصيل من شأنها أن تضع السلطات المصرية في موقف محرج، سوى أنه انتهاك لخصوصية العلاقة، ويفقد السلطات المصرية الثقة في الطرف الليبي، إنْ لم يقدم تبريرًا واصخًا عما حدث.

إعلاميون ليبيون انزعجوا من من الموقف خلال الساعات الماضية، تحدثوا أيضًا عن انزعاج السلطات المصرية والتي طلبت من الطرف الليبي تقديم توضيح ما حدث، لكن الجانب الليبي لا يزال يلتزم الصمت.

بعض الدوائر الليبية تتحجث عن حال  غضب وصدمة تسيطر على “الدبيبة مما حدث، وأنه قد يتخذ قرارًا بالخصوص قريبًا لمحاولة استرضاء الحكومة المصرية التي لم يصدر عنها أي تعليق أيضًا”، وفق ما نقل موقع “عربي21” القريب من الإخوان عن عن مصادر لم يسمها.

لكن الصمت الذي أبدته السلطات المصرية حتى الآن تجاه التسريب، يعطي رئيس الحكومة الليبية فرصة لتدارك الأمر، وتوضيح الموقف، سواء بالتضحية ببعض المقربين إن كان هو شخصيًا متورطًا في الأمر، أو تصرح أحدهم بشكل فردي، وفي النهاية تقديم اعتذار و توضيحات رسمية للجانب المصري؛ لذلك، يعتقد كثير من المتابعين أن مستوى العلاقات التي دشنتها اللجنة العليا المصرية الليبية المشتركة يرشّح احتواء الموقف.

اقرأ أيضًا| ليبيا والمبادرة المصرية.. السيناريوهات المتوقعة لمستقبل الصراع

وسائل إعلام ليبية، من بينها صحيفة “العنوان”، نقلت عن مصادر قولها إن السلطات المصرية فتحت تحقيقًا في قضية التسجيل، ونقلوا للدبيبة انزعاجهم من هذه الأفعال والتي تعد اختراقا لسرية المداولات بين الحكومتين.

وبغض النظر عن مسار العلاقات بين مصر وليبيا، فإن التأثير المباشر لهذا التسريب على المدى البعيد، يتمثل في القضية نفسها المتعلقة بالخلاف بين شركة الخرافي الكويتية والسلطات الليبية، باعتبار أن أي تغير في الموقف القضائي لصالح ليبيا يمكن أن يسبب إحراجًا لمصر، ولذلك يستبعد الكثيرون أن يكون للقاهرة أية وساطة في هذا الملف مستقبلاً بعد التسجيل المسرب.