منذ إعلان الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، ولا يتوقف الجدل في الأوساط الحقوقية، ذات الصلة، حول مدى جدية السلطة في تحقيق بنود النهوض بأوضاع حقوق الإنسان، خلال مدة زمنية قُدرت بـ5 سنوات، وسط مطالبات بعقد حوارات مجتمعية، واتخاذ إجراءات عاجلة على صعيد الحقوق المدنية؛ حتى تنتقل الاستراتيجية من النوايا إلى الواقع الملموس.

بحسب وثيقة الاستراتيجية، فإنها تهدف إلى “النهوض بكافة حقوق الإنسان في مصر من خلال تعزيز احترام وحماية كافة الحقوق المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، المتضمنة في الدستور والتشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية والإقليمية المنضمة إليها مصر؛ تحقيقًا للمساواة، وتكافؤ الفرص دون تمييز”.

وأول ملامح تحويل الاستراتيجية إلى واقع تتمثل في “إعادة بناء الثقة بين فئات المجتمع ونظام الحكم، بما فيه أجهزة القضاء والشرطة، وتطبيق النص الدستوري”، حسبما تؤكد مديرة مركز قضايا المرأة، عزة سليمان، التي ترى أن استرداد الجمعيات الأهلية لحريتها بشكل قوي بعيدا عن الموافقات الأمنية التي تعطل عملها، أولوية للبناء على هذه الاستراتيجية، خصوصا أن رئيس الجمهورية خصص عام 2022 للمجتمع المدني، للاستفادة من جهود الجمعيات الأهلية في دعم الخطط الحكومية للتنمية.

عزة سليمان
عزة سليمان

وتطالب مديرة مركز قضايا المرأة بإعادة النظر في قانون الأحوال الشخصية وصياغة قانون جديد في ضوء الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة التي صدقت عليها مصر، مطالبةً الحكومة بسحب مشروع القانون الذي تقدمت به للبرلمان خلال الأشهر الماضية، لعدم اتفاقه مع طرح الرئيس.

“هذا القانون لا بد أن يخرج على أسس من التكافؤ والمساواة لكل أفراد الأسرة مع مراعاة المصلحة الفضلى للأطفال، وأن يكون صياغة المقترح من الحكومة بالشراكة مع منظمات المجتمع المدني المختصة وأن يتم طرحه للحوار المجتمعي بمشاركة كافة أطياف المجتمع”، وفقا لسليمان.

تبديل النوايا لواقع وإصلاحات هيكلية

 

تحويل الاستراتيجية لواقع لن يحدث إلا باتخاذ الحكومة إجراءات تنفيذية ومواجهة التحديات التي أعلنتها في الاستراتيجية، وليس اعتبارها مجرد “نوايا” معلنة، حسبما يوضح نجاد البرعي، مدير المجموعة المتحدة للاستشارات والمحاماة.

يشير البرعي، الذي شارك في جلسات إعداد الاستراتيجية على مدار عام ونصف، إلى أن الحكومة مطالبة بتنفيذ تعديلات في قوانين كقانون الإجراءات الجنائية وتقديمها للبرلمان، بجانب إعطائها حرية عمل مناقشات حول المشاركة في تحقيق أهداف الوثيقة.

“اعتبر صدور الاستراتيجية وبدء تنفيذها هو نهاية حقبة وبداية أخرى جديدة فنحن نحتاج إلى عمل جديد”، يقول البرعي.

ناصر أمين، مدير المركز العربي لاستقلال القضاة والمحاماة، تحدث عن أمرين لتفعيل الاستراتيجية: الأول وجود إرادة سياسية حقيقية لتفعيلها، والثاني التحرك على مستوى المؤسسي والتشريعي لإصلاح اختلالات المرحلة الماضية التي أدت لتدهور حقوق الإنسان.

ويشير أمين إلى مسارات عاجلة متعلقة بوقف الأثر على القوانين سيئة السمعة المتعلقة بضمانات وحقوق المتهمين، لتشمل تعديلات على قانون الإجراءات الجنائية فيما يتعلق بالحبس الاحتياطي، والأثر المترتب على قانون الإرهاب، القانون الأسوأ على الإطلاق، بحسب وصفه، وضرورة استبداله بقانون آخر يتمحور فقط حول الأعمال الإرهابية الأشد عنفا. وكذا الأثر المترتب على قانون الهيئات القضائية، الذي سمح بتغول السلطة التنفيذية على القضائية في اختيارها لرؤسائها.

هناك مسار عاجل آخر أيضا، عند أمين، يتعلق بالنظر في التشريعات التي أدخلت على حرية الرأي والتعبير والإعلام، مثل الهيئة المنشأة للإعلام والجريمة الإلكترونية وما يضمنه من حقوق الأفراد في التعبير عن ذاتهم.

سبع خطوات الحد الأدنى

 

لا تبتعد الاستراتيجية عن “الخطوات السبع“، التي أعلنتها 5 منظمات حقوقية، معتبرة إياها الحد الأدنى الذي يمكن تنفيذه فورا حال توفر إرادة سياسية لذلك بعدما وصلت حقوق الإنسان إلى مستوى متردِ. وتمثلت تلك الخطوات في الإفراج عن السجناء السياسيين المحبوسين احتياطيًا أو المحكوم عليهم من جميع التيارات السياسية بسبب نشاطهم السلمي، وإنهاء الحبس الاحتياطي المطول ووقف “تدوير” السجناء السياسيين لإبقائهم في السجون.

كما طالبت برفع حالة الطوارئ المفروضة منذ 2017 بالمخالفة للدستور والمستخدمة في تعطيل الحريات الأساسية وحقوق المحاكمة العادلة، إضافة إلى إنهاء الملاحقة الجنائية للمدافعين عن حقوق الإنسان وإغلاق القضية 173 لسنة 2011 ضد منظمات المجتمع المدني.

الإعدام بين الاستراتيجية والتطبيق

وتضمنت المطالب تأجيل تنفيذ جميع أحكام الإعدام الصادرة في قضايا جنائية أو سياسية وعرضها على لجنة مختصة للعفو الرئاسي قبل تنفيذها. وكشفت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي حول عقوبة الإعدام أن عدد عمليات الإعدام المسجلة في مصر ازداد ثلاثة أضعاف عام 2020 ما جعلها في المرتبة الثالثة عالميا كأكثر الدول تنفيذاً للعقوبة بعد الصين وإيران. وتلقت الحكومة الكثير من المطالبات الأممية والأوروبية للوقف الاختياري لعقوبة الإعدام، وتعليق تنفيذها بل وبحث إمكانية تخفيفها.

ويرى محمد صبحي، المدير التنفيذي للمؤسسة العربية للحقوق المدنية والسياسية “نضال”، أن بعض القضايا الحقوقية تفتقر لأدوات التطبيق على الواقع رغم وجود نصوص تشريعية كما هو الحال في ملف التعذيب، إلا أن الوضع يختلف في عقوبة الإعدام لأن أزمتها الحقيقية تكمن في غياب الجانب التشريعي للحيلولة دون تنفيذها أو استبدالها بأحكام أخرى رادعة أو الحد من التوسع في الجرائم المعاقب عليها به.

وأضاف صبحي “نسير في طريق معاكس لتوجه العالم أجمع، فلا يخلو عام من إضافة جرائم جديدة يعاقب عليها بالإعدام لتصل لنحو 104 جريمة حتى الآن، ومصر تُرجع تحفظها لاعتمادها على الشريعة الإسلامية. فتح الباب للنقاش الآن يحتاج للتفاعل معه سواء كان دعائيا أم حقيقياً ففي الحالتين هناك بوادر لإمكانية تنفيذ ولو جزء صغير منه”.

ويؤكد المدير التنفيذي لـ”نضال” أن 70% من دول العالم اتجهت لإلغاء عقوبة الإعدام ومنها الأردن التي أعلنت وقف تنفيذ حكم الإعدام بشكل نهائي، معتبراً أن مجرد التفات الدولة للأزمة الناتجة عن التوسع في أحكام الإعدام والاعتراف بضرورة مراجعته ولو نظرياً يجدر الاحتفاء به. ويضيف “التشكك الكامل في الاستراتيجية قد يكون أوقع إذا تحدثت عن إلغاء كامل للعقوبة لأن التنفيذ هنا يكاد يستحيل. ولكن مناقشة بنود للحد من العقوبة أمر ممكن وانتصار حقيقي يمكن ملامسة نتائجه لأنه واقعي”.

ونوه صبحي إلى أن مؤسسته ستقدم كل ما لديها من مشروعات خاصة بالإعدام للأمانة العامة لمجلس النواب، علماً بأنها سبق وقدمت في الماضي، لكنه يعتبر أن تقديم المقترحات الآن من كل المهتمين والإعلان عنها قد يؤدي إلى تحقيق “ولو 10% منها”.

وصدرت دراسة تحليلية عن “نضال”  تناولت عقوبة الإعدام من ثلاث نواح، تشريعية وقضائية وميدانية، بشكل معمق مصحوبا بتحليل موضوعي لكل نص وطرح مقترح للتعديل (يمكنك الإطلاع عليها من هنا).

الحبس الاحتياطي وغياب الإرادة السياسية

يرى محمد زارع، مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، أن مشكلة الحبس الاحتياطي المطول لم تعد أزمة تشريع فقط، بل تعمقت لتصل إلى التدوير على ذمة قضايا جديدة، قبل أو بعد انقضاء المدة القصوى للحبس الاحتياطي، اعتمادًا على اتهامات معروفة مقدما، مثل تمويل الإرهاب، ونشر أخبار كاذبة أثناء فترة سجنهم.

محمد زارع
محمد زارع

وتابع زارع: “مؤخرًا أصبح إحالة المحبوسين احتياطيًا للمحاكم الجنائية، تمهيدًا لإصدار أحكام بالسجن بحقهم، نمطًا جديدًا فرضته الأجهزة الأمنية تعسفيًا بإرادتها المنفردة، مثل قضية الأمل ومثلما حدث مؤخرًا مع عبد المنعم أبو الفتوح رئيس حزب مصر القوية ونائبه محمد القصاص، أو مع الزميلات والزملاء بالتنسيقية المصرية لحقوق الإنسان”.

وكان مركز القاهرة، بالتعاون مع مجموعة من المنظمات الحقوقية، أصدروا بيانا في معرض التعليق على الاستراتيجية، مؤكدا أن تلك الانتهاكات وغيرها من جرائم حقوق الإنسان المرتكبة يوميًا ليست بسبب غياب استراتيجية وطنية وإنما ترجع في المقام الأول إلى غياب الإرادة السياسية لاحترام هذه الحقوق ودولة القانون، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية في العصف بهما دون رقيب أو حسيب.

اللغة المطاطة عقبة

أما المحامي بالمفوضية المصرية لحقوق الإنسان، محمد عبيد فقال: “تعتمد الاستراتيجية في تناولها لمسألة الحبس الاحتياطي على مواد دستورية، وقوانين قائمة بالفعل، فلم تأت بجديد، كما أنها تعتمد على اللغة المطاطة التي تميز أغلب المواد المنظمة للمسألة”، مشككا في جدوى الاستراتيجية حال استمرت على هذا النحو، دون آلية محددة.

ويشرح “مطاطية الألفاظ وتوسعها في مواد القانون، مثل تهمة نشر الأخبار الكاذبة، التي لم يبين القانون معيارها كما يُفترض بالنص الجنائي كأحد شروط إجازته، أو مثل تكدير السلم العام، التي لا يمكن تضمينها في صياغة نص عقابي يفترض فيه الوضوح، وجلاء أركانه المادية والمعنوية”.

وأشار إلى أن النص نفسه مستوحى من قانون استثنائي تم إجازته سنة 1956، بهدف مواجهة فكرة نشر أخبار كاذبة أو إشاعات تخص القوات المسلحة، وقت الحرب. “إجمالا يخالف القانون المواثيق الدولية جميعا التي سبق وأن وقعت عليها مصر، والتي تنص على الحق في حرية الرأي والتعبير. إلا أن مطاطية مواد الدستور، ونصوص القانون، ومن بعدهم الاستراتيجية يفتح المجال لتلك التهمة، وشبيهاتها من تقييد حرية المواطنين”، بحسب عبيد.

وقبل إعلان الاستراتيجية وضع القانون شروطا ومبررات للحبس الاحتياطي تمثلت في الخوف من هروب المتهم، أو عدم امتلاكه عنوانا محددا للوصول إليه، وهو بحسب عبيد، ما لا يتوافر في مسجوني قضايا الرأي، و تعضده مواد الدستور الخاصة بالحريات الشخصية.

وفي محاولة للحل اقترح، المحامي بالمفوضية المصرية لحقوق الإنسان، تنقيح القوانين لتصبح أكثر وضوحا وتحديدا، فعلى سبيل المثال، يمكن الحد من صلاحية القاضي في مسألة مبررات الحبس، فلا يكون أمامه الاختيار بالأساس، كذلك مسألة التلبس التي تمنح السلطة التنفيذية، صلاحيات واسعة، والتي بدورها يمكن إساءة استغلالها.

دور البرلمان

و لفت عبيد إلى خطورة الاعتماد على التكنولوجيا في تجديد الحبس للمتهمين، إذ يرى أن التجديد عبر الدوائر التلفزيونية يجب أن يكون محل نظر، حيث يعتمد قرار تجديد الحبس من عدمه على وجود المتهم أمام القاضي، وبعيدا عن أي ضغوط من الممكن أن يلقاها داخل محبسه، حتى يستطيع التعبير بمنتهى الحرية عن أسبابه، أو حتى معاناته. كذلك لفت إلى ان مصر من الدول التي لا تملك بنية تحتية مناسبة لتلك التكنولوجيا، فالأمر يحتاج إلى أكثر من مجرد قرار نظري.

وأشار عبيد إلى أن أي تعديل لا يمكن الأخذ به في ظل قانون الطوارئ. الذي يمنح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة، يتعطل معها الكثير من القوانين، والمواد الدستورية. وضرب مثلا بوباء كورونا الذي جعل من تجديدات الحبس دون عرض المتهمين على المحكمة جائزا. وذلك عبر قانون الطوارئ. إذ أنه وفي الحالات العادية لا يجوز استمرار هذا الوضع، ما تسبب في تمديد الحبس للآلاف، وتقييد حريتهم، بما يخالف القواعد الإنسانية.

محمد عبدالعزيز
محمد عبدالعزيز

تنفيذ بنود هذه الاستراتيجية لن يكون بعيدا عن يد البرلمان، وخصوصا في متابعة الإجراءات التشريعية، والرقابة على التنفيذ، حتى تتحول لفعل حقيقي على أرض الواقع، يتماشي مع حجم الاستراتيجية، وفقا لوكيل لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب، محمد عبد العزيز.

ويرفض عبد العزيز التعامل مع الاستراتيجية بالنوايا، ويراها “خطوة للأمام، خصوصا أن هناك خطوات اتخذت في ملف حقوق الإنسان بالفعل قبل الاستراتيجية، فمصر شريكة في المجتمع الدولي ومؤسسة لمجال حقوق الإنسان، وكان لديها عضو في اللجنة التي صاغت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948”.

 

شارك في كتابة التقرير

سوزان عبدالغني، هبة أنيس، أسماء زيدان، أسماء فتحي