أحدث مجلس النواب الليبي صدعًا مفاجئًا في مسار العملية السياسية، قبل حوالي 90 يوميًا على موعد إجراء الانتخابات المرتقبة. من خلال سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وهي خطوها قابلها المجلس الاعلى للدولة (طرابلس) بالرفض، واعتبرها غير قانونية.

وكان 45 نائبًا بمجلس النواب تقدموا الأسبوع الماضي بطلب لرئاسة البرلمان المستشار عقيلة صالح من أجل سحب الثقة من الحكومة، بعد الاستماع إلى إجاباتها وردودها في جلسة الاستجواب التي عقدت قبل أسبوعين.

المتحدث باسم مجلس النواب، عبدالله بليحق، قال اليوم الثلاثاء إن 89 نائبًا اختاروا سحب الثقة من الحكومة من بين 113 عضوًا حضروا جلسة عقدت بمدينة طبرق اليوم الثلاثاء، وانتهت إلى تشكيل لجنة للتحقيق مع الحكومة في الاتفاقيات والتكليفات والقرارات التي اتخذتها الحكومة في عدد من الملفات.

وبعدما أعلن بليحق في بداية اليوم، بأن اللجنة أمامها أسبوعين فقط لإنجاز مهامها، وتسليم نتائج التحقيق، فاجأ الجميع بعد ظهر اليوم بإعلان سحب الثقة من الحكومة، وما الارتباك الذي أحدثه الإعلان، عاد المتحدث باسم البرلمان للقول إن الحكومة الحالية باقية لتصريف الأعمال اليومية.

لدى تلك المرحلة بات مصير بالانتخابات والاتفاقيات الموقعة مع مصر وغيرها من الخطوات التي أعلنتها الحكومة مؤخرًا في “خانة المجهول”، وهنا بلغ الارتباك حدًا لم يسمح لليبيين أنفسهم فهم ماذا يجب أن يحدث، أو ما الخطوة التالية؟.

مجلس الدولة يدفع بالبطلان

يبدو أن التداعيات أكبر من الحدث هذه المرة، في ظل إعلان المجلس الأعلى للدولة (الغرفة الاستشارية في طرابلس) رفضها لسحب الثقة من الحكومة، حيث اعتبر المتحدث باسم المجلس الأعلى محمد بن عبدالناصر أن “إجراءات سحب الثقة باطلة” لمخالفتها الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي، وقال إن “كل ما يترتب عنها باطلاً”.

اقرأ أيضًا| ارتباك المشهد الليبي.. عودة الانقسام ونُذر مواجهة عسكرية

هذا الموقف يرشح، في حال أعلنت حكومة الوحدة الوطنية موقفًا مشابهًا، عودة الانقسام السياسي، باعتبار أن مجلس النواب سيكون أمام مهمة تسمية حكومة جديدة، لن تختلف كثيرًا عن حكومة الثني السابقة، التي كانت مقابلة لحكومة السراج.

الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة عبدالرحمن السويحلي يقول عبر صفحتها على موقع “تويتر” إن ما قام به مجلس النواب اليوم “قفزة في الهواء”، معتبرا إياها “خرق واضح للاتفاق السياسي”. بل يزيد بأن هذا الموقف جاء كمحاولة “لتصفية الحسابات السياسية من قائمة (عقيلة-باشاغا) التي خسرت أمام (المنفي-دبيبة) في جنيف”. لكنه يقول إن النتيجة هذه المرة هي “إدخال البلاد في الفوضى وعدم الاستقرار والقضاء على أي أمل في انتخابات 24 ديسمبر”.

أداء حكومة الدبيبة

عضو مجلس النواب، محمد الرعيض، رأى أن سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية “يعكس حدة الصراع الداخلي  على السلطة، وتغليب البعض للمصلحة الشخصية مقابل أي شيء حتى إذا كان الأمر على حساب مصلحة المواطن”, كان الرعيض يتحدث قبل انطلاق جلسة البرلمان، وهو يحذر من مأزق قد تدخله ليبيا إجبارًا، وخروجًا على المسار السياسي.

الرعيض وهو رئيس الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة بليبيا، تحدث عن “إنجازات” حققتها حكومة الدبيبة خلال فترة زمنية قصيرة، مقارنة بالحكومات السابقة، فضلاً عن حصدها “تأييدا شعبيا ملحوظا بسبب تحسينها الخدمات العامة وإعادة بعض الرحلات الجوية وتوقيع اتفاقيات بناء وتطوير وعودة السفارات والشركات الأجنبية تدريجيًا”.

كان الرعيض يشير هنا إلى عودة الرحلات الجوية مع مصر وتونس ومالطا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية، بالإضافة إلى فتح الحدود البرية مع تونس، وعودة حوالي خمس سفارات غربية للعمل من العاصمة طرابلس خلال الأشهر القليلة الماضية.

اقرأ أيضًا| هل تستطيع ليبيا انتخاب الرئيس؟

في المقابل، يتهم نواب بالمنطقة الشرقية حكومة الدبيبة بإنفاق مبالغ طائلة على بنود طوارئ غير ضرورية، واعتماد ميزانيات اعتبرها البعض “دعاية انتخابية” من الدبيبة، على غرار منحة المقبلين على الزواج بقيمة 40 ألف دينار ليبي، وعودة المنح الدراسية بالخارج.

هذا الإنفاق اعتبرها نواب بالبرلمان يقفز على بنود تنموية أخرى، وهو ما دفعهم لتعطيل إقرار الميزانية العامة للدولة المقدمة من حكومة الدبيبة بقية 111 مليار دينار، للحد الذي وصفها عضو لجنة تعديل سعر الصرف بالمصرف المركزي، مصباح العكاري بأنها “صندوق نوتيلا لعلاج مريض سكر”.

كما أن أحد مظاهر الخلاف بين الحكومة الجديدة وممثلي المنطقة الشرقية، يتمثل في المطالبة بميزانية لقوات الجيش في الشرق، حيث قال عقيلة صالح منتصف الشهر الماضي حين كان يشرح سبب عدم إقرار البرلمان للميزانية حتى الآن: “لابد أن تكون للقوات المسلحة ميزانية لتقوم بمهامها ولا زلنا نصر على هذا الأساس”.

جدلية النصاب القانوني ومخالفة اتفاق الصخيرات

وبغض النظر عن أداء حكومة الدبيبة، فإن الإجراء الذي اتبعه مجلس النواب يبقى أيضًا نقطة جدلية هو الآخر، وهو ما طرحها عدد من النواب من بينهم النائب محمد الرعيض الذي قال إن “عملية سحب الثقة تحتاج إلى الأغلبية الموصوفة  من أعضاء مجلس النواب أي 120 عضواً حسب المادة 1 الفقرة 5 من الاتفاق السياسي الليبي”.

عندما وقعت الأطراف السياسية اتفاقا سياسيا في جنيف فبراير 2020، جرى تضمينها في الاتفاق السياسي الموقف في الصخيرات 2015، وبالتالي أصبح اتفاق الصخيرات هو المرجعية الرئيسية للفترة الانتقالية التي بدأت رسميا بتولي حكومة الدبيبة في مارس 2021.

لمطالعة الاتفاق السياسي اضغط هنا

اتفاق الصخيرات ينص في فقرته الخامسة من المادة الأولى على “لا ينظر مجلس النواب في طلب الاقتراح بسحب الثقة من حكومة الوفاق الوطني إلا بطلب مكتوب موقّع من 50 عضوًا من أعضائه، وفي هذه الحالة، يقوم مجلس النواب بالتشاور مع مجلس الدولة بهدف الوصول لتوافق قبل المضي في إجراءات سحب الثقة يتعين على مجلس الدولة لإبداء رأيه خلال مدة أقصاها أربعة عشر 14 يومًا من تاريخ مخاطبته وفي هذه الحالة، يتطلب سحب الثقة من حكومة الوفاق الوطني موافقة مائة وعشرون (120) عضوا من أعضاء مجلس النواب”.

بين شرعية القانون وأحقية البرلمان

الأكاديمي الليبي الصديق أبو شهيوة قال في تصريح لـ”مصر 360″، إن قرار سحب الثقة من الحكومة “باطل” باعتباره محكومًا بنص المادة الأولى من الاتفاق السياسي، التي تستوجب التحاور والنقاش مع مجلس الدولة قبل الإقدام على تلك الخطوة، لذلك يعتبر أن الحكومة الحالية لا تزال تستمد شرعيتها القانونية.

وعن تسمية المادة “حكومة الوفاق الوطني” في معرض تعريفها بالحكومة، قال أبو شهيوة إن الاتفاق السياسي سارٍ على حكومات المرحلة الانتقالية بغض النظر عن تسميتها أو تشكيلها، وسيبقى ساريًا على حكومة أي حكومة جديدة جرى تشكيلها لاحقا، إن لم تكون حكومة دائمة وليست مؤقتة.

لكن عضو مجلس النواب إبراهيم الزغيد يدافع عن الرأى الآخر بقانونية سحب الثقة من الحكومة بأنّ “مجلس النواب المخوّل له منح الثقة للحكومة الحالية يحق له سحبها إذا رأى أنها قصّرت في تأدية مهامها”. ويضيف الزغيد في تصريح لـ”مصر 360″ أن حكومة الدبيبة أظهرت خلال الفترة الماضية عدم حياديتها تمامًا، بخلاف تخصيصها ميزانيات وإنفاق الملايين على بنود دعائية فقط.

اللجوء للقضاء والعودة لنقطة الصفر

هنا يقول عضو المجلس الأعلى للدولة سعد بن شرادة إن مجلس النواب يمتلك “الحق الكامل” في سحب الثقة من الحكومة، باعتباره الجهة التشريعية الوحيدة المخولة بذلك، ولكن القرار ينقصه التشاور مع مجلس الدولة، وفق الاتفاق السياسي، لذلك يدفع بن شرادة باللجوء للقضاء، رغم اعتباره أن ذلك قد يعيد المسار السياسي للمربع الأول (صفر).

في هذه الحالة، فإن الحكم القضائي لا يعتبره مراقبون القول الفصل في الحالة الليبية، لاعتبارات تتعلق بانقسام مؤسسات الدولة، وعدم القدرة على فرض قرارات سواء سياسية أو قضائية، هو ما يستلزم استنتاج المواقف الدولية والإقليمية حيال الأزمة.

رئيس حكومة الوحدة المؤقتة في ليبيا عبد الحميد دبيبة (إلى يسار الصورة) في طرابلس، إلى جانب رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، قبيل تسلم السلطة من فايز السراج.
رئيس حكومة الوحدة المؤقتة في ليبيا عبد الحميد دبيبة (إلى يسار الصورة) في طرابلس، إلى جانب رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، قبيل تسلم السلطة من فايز السراج.

اجتماع الدبيبة والمنفي

في الأثناء، علم “مصر 360” من مصادر في العاصمة طرابلس أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية يعقد في هذه الأثناء اجتماعًا طارئًا مغلقًا، عبر الفيديو كونفرانس، مع المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، الذي يشارك حاليا في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، وفي حضور عضوي المجلس عبد الله اللافي وموسى الكوني. ومن المقرر أن يصدر عن الاجتماع بيان بموقف الطرفين تجاه قرار مجلس النواب.

عودة للخلف

التطورات الحالية تجعل المشهد الليبي يعود إلى ما قبل أكتوبر 2020، عندما وضعت الحرب أوزارها، بتوقيع الطرفان المتحاربان (قوات شرق ليبيا – قوات حكومة الوفاق بالغرب (آنذاك) اتفاقاً لوقف إطلاق النار، حين كانت التوقعات تشير إلى حرب إقليمية أوسع نطاقًا في الدولة المطلة على أوروبا.

اقرأ أيضًا| كيف تتخطى ليبيا عقبتي الدستور وتوحيد الجيش؟

وبعد محادثات سياسية بين كافة الأطراف، جرى التوقيع على خارطة طريق برعاية الأمم المتحدة في نوفمبر 2020، تنص في آخر بنودها على إجراء انتخابات عامة بنهاية 2021. على هذا الأساس جرى اختيار سلطة مؤقتة في فبراير الماضي، عبر اقتراع مباشر للمشاركين في منتدى الحوار السياسي ممثلين عن كافة المناطق. جاء محمد المنفي – المحسوب مناطقيًا على الشرق لكنه يميل سياسيًا إلى الغرب (الإسلاميين) كرئيس للمجلس الرئاسي خلفًا لـ فائز السراج، وعبد الحميد الدبيبة المحسوب كليًا على الغرب رئيسًا للوزراء.

العودة للخلف هذه المرة، ستكون محكومة بموقف الدول والأطراف المؤثرة في المشهد الليبي، هل ثمة توجه للتمسك بالخيار السياسي أيًا، أم أن تمسك تركيا منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار كان تحسبًا للحظة كهذه، وهو ما يعني نذر حرب ربما تتجدد بين الطرفين.