يحافظ الشارع السياسي السوداني تاريخيا علي توقع الانقلابات العسكرية وقت تزايد وتيرة الأزمات. هذه التوقعات أحيانا ما تصيب وتتحول إلي حقيقة واقعة  بالفعل، أحيانا تكون منقوصة ولديها أهداف سياسية مؤقتة كالذي يحدث حاليا في شوارع الخرطوم من إعلان عن انقلاب عسكري فاشل يتم التعامل معه بهدف تخفيض مستوى التوتر في شرق السودان، ومحاولة السيطرة عليه من المركز.

ولعل أشهر هذه التوقعات التي تحولت إلى واقع  كامل هو انقلاب الجبهة القومية الإسلامية عام ١٩٨٩ بقيادة كل من عمر البشير وحسن الترابي. وغالبا ما تكون أسباب هذه التوقعات مرتبطة بفشل الحكومات الانتقالية في فترة ما بعد الثورات أو فترة الحكم المدني الديمقراطي الذي لم يتجاوز بضع سنوات طوال التاريخ السوداني.

عبدالفتاح البرهان
عبدالفتاح البرهان

في التوقيت الراهن ترتبط التوقعات السودانية بوقوع انقلاب عسكري هو ضرورة أن يحدث تغيير في موقع رئاسة المجلس الانتقالي الحاكم  مع مطلع نوفمبر القادم، طبقا للوثيقة الدستورية التي تم توقيعها في أغسطس ٢٠١٩ بين قيادات الثورة السودانية أي تحالف الحرية والتغيير ونواته التي كانت صلبة تجمع المهنيين، وبين المجلس العسكري السوداني، الذي تولى مهام خلع البشير إجرائيا، حيث نصت الوثيقة أن تتحول سلطة رئاسة المجلس الانتقالي من المكون العسكري أي الفريق عبد الفتاح البرهان إلى أحد رموز المكون المدني الذي يمكن أن يكون رئيس الوزراء.

هذا التطور المفصلي يعني أن تكون اليد العليا في صناعة القرار السياسي هي للمدنيين، وأن يتراجع نفوذ العسكريين، وهو ما يبدو أنه محل مقاومة كبيرة من جانب الأخيرين حاليا.

في هذا السياق نستطيع أن نفهم تطورات المشهد في شرق السودان، وطبيعة أهدافه النهائية، وهو المشهد الذي تصاعد فيه التوتر إلى حد قيام مكونات سياسية وقبلية في شرق السودان بغلق الميناء الرئيسي للسودان “بور تسودان“ إلى جانب ميناءي سواكن المرتبط بالحركة البشرية والتجارية من وإلي المملكة السعودية وباقي دول الخليج، وكذلك ميناء بشاير الذي يصدر بترول جنوب السودان إلى أنحاء العالم خصوصا الصين.

وقد جاءت التحركات الاحتجاجية تنفيذا لدعوة “المجلس الأعلى لنظارات قبيلة البجا” بإغلاق أكثر من خمس نقاط، وهي الشوارع المؤدية من إقليم شرق السودان إلى باقي أنحاء البلاد وخصوصا العاصمة الخرطوم حيث شمل الإغلاق 3 نقاط في ولاية البحر الأحمر، منها محطة “العقبة” المؤدية لموانئ البلاد في بورتسودان وسواكن على البحر الأحمر، ومحطة أوسيف على الطريق مع مصر، كما شمل الإغلاق منطقتين في ولاية كسلا وثلاث مناطق في ولاية القضارف، واستثنى الإغلاق حافلات السفر، ومركبات الشرطة والإسعاف والمنظمات.

احتجاجات المجلس الأعلى لنظارات قبيلة البجا
احتجاجات المجلس الأعلى لنظارات قبيلة البجا

هذه التطورات الخطيرة التي مضي عليها ما يقارب الأسبوع لم يتحرك لمحاصرتها أي من الأجهزة الأمنية أو العسكرية السودانية رغم تأثيرها على أمن الدولة الشامل، حيث أن إقليم شرق السودان هو الإقليم المتحكم في حركة الدولة مع العالم علي الصعيد الاقتصادي والتجاري حيث تستورد ٧٠٪ من احتياجاتها، وهو أيضا المؤثر بفاعلية كبيرة علي استقرار دولة جنوب السودان من، حيث أن العوائد البترولية هي جل مكون الموازنة الجنوب سودانية والتي تحافظ علي استمرار عمل دولاب الدولة.

الأسباب الرئيسية للاحتجاج كما يعلنها المحتجون هي أن إقليمهم بقرة حلوب لباقي السودان بما يملكه من موارد لوجستية  ممثلة في الموانئ، بينما هم يعانون التهميش التنموي الكبير، وهي حقيقة نستطيع أن نؤكد عليها من بعض المؤشرات الإحصائية، مثل ارتفاع عدد وفاة النساء الحوامل في شرق السودان، نظرا لغياب الخدمات الصحية، وكذلك ارتفاع نسبة وفيات الأطفال، وغيرها من المؤشرات الدالة علي التهميش التنموي.

على أية حال تبلورت المطالب السياسية لإقليم شرق السودان في حق تقرير المصير والذي نادي به   محمد الأمين ترك رئيس المجلس الأعلى لعموديات شرق السودان فضلا عن  شروط إضافية لحل الأزمة الحالية شملت إقالة الحكومة الانتقالية؛ ليتم تكوين مجلسا عسكريا ممثلا لست أقاليم سودانية ، وذلك مع مكون مدني شريك يكون بديلا لحكومة حمدوك الموصومة بفشل ذريع من جانب الحركة الاحتجاجية في شرق السودان، وربما غيرها من القطاعات السودانية .

وبطبيعة الحال يحافظ مطلب إلغاء اتفاق مسار الشرق في اتفاق السلام السوداني الذي تم توقيعه في جوبا بخريف٢٠٢٠ علي موقع الرفض الكامل نظرا لطبيعة التفاعلات القبلية وتنافساتها في هذه المنطقة، من هنا تسبب هذا المطلب في غلق ميناء بور سودان أكثر من مرة خلال العام الماضي في مسعي لإلغائه، ولم يتعامل معه المجلس الانتقالي بجدية طوال الفترة الماضية، حيث تم الاكتفاء مؤخرا بتكوين لجنة سياسية لمحاولة تطويق الأزمة ليبق بؤرة ساخنة مؤثرة علي المعادلة السياسية الهشة.

اتفاق الشرق
اتفاق الشرق

مطالب المحتجين المرتبطة بتكوين مجلس عسكري سداسي وإزالة لجنة التمكين الموكول إليها تفكيك نظام البشير ومحاصرة منتسبيه، يجعل الحركة الاحتجاجية موصومة في الشارع السياسي السوداني بأنها أحد تجليات النظام السابق وأدواته للتخلص من المكون المدني في الحكومة الانتقالية وربما إنهاءها بانقلاب عسكري، فهي من ناحية تدعم المكون العسكري ومن ناحية أخرى تعادي لجنة إزالة التمكين، وهي اللجنة التي أضرت لحد كبير برموز النظام القائم ومصالحه الاقتصادية.

ورغم أن محمد الأمين ترك القائد الفعلي للحركة الاحتجاجية الراهنة في شرق السودان هو تعبير عن حساسيات قبلية في هذه المنطقة أكثر منها حساسيات سياسية، فإن انتماءه لحزب المؤتمر الوطني الذي قاده البشير يلق بكثير من الظلال على الرجل من جانب المكون المدني في المجلس الانتقالي، وكذلك قوى الحرية والتغيير.

الشاهد أنه إذا حدث انقلاب عسكري في السودان فإن هناك شعبية متوقعة له، قد تصل لحد الترحيب، وذلك في الأوساط الشعبية السودانية البعيدة عن المكونات السياسية الساعية لتحقيق تطور ديمقراطي في السودان.

وتكمن أسباب الترحيب المتوقع بالانقلاب العسكري في السودان أن الحالة المعيشية للناس قد تردت إلى حد كبير، وأن الحكومة لم تستطع علي المستوي الإجرائي أن تستفيد من رفع الدعم عن المحروقات مثلا، فحافظ الدولار علي مستوياته المرتفعة إزاء سعر الجنيه السوداني، وبالتالي حافظ التضخم علي مستوياته المذلة للناس في واقعهم اليومي، والتي وصلت بهم إلي حد الجوع خصوصا في الفئات ما دون الطبقة الوسطي.

أما على المستوي السياسي فإن الانقسامات والتشرذم الذي جرى في أوساط قوى الحرية والتغيير وخصوصا تجمع المهنيين قد أصابت الشارع السياسي السوداني بإحباط كبير مرتبط بمدى جدارة القوي السياسية السودانية على الحفاظ على الثورة، ومقاومة تغول المكون العسكري علي صناعة القرار السياسي.

وقد يعزز التوقعات بشأن ضعف ردود الفعل الرافضة لانقلاب  عسكري سوداني هو انشغال الإدارة الأمريكية بمحاصرة خيباتها على المستويين العالمي والداخلي فضلا عن تقديرات الموقف التي تملكها بعثتها الدبلوماسية في السودان عن طبيعة قدرة المكون السياسي المدني في السودان على التماسك، وقيادة البلاد في توقيت حرج، وذلك مع ما يملكه السودان الدولة من حساسية جيوسياسية للمصالح الأمريكية خصوصا والغربية عموما، بسبب موقعها الرابط بين شرق وغرب القارة الأفريقية، وكذلك  إطلالته الطويلة على سواحل البحر الأحمر بأكثر من ٦٠٠٠ كيلو ، وهو البحر المؤثر على أمن حركة التجارة العالمية.

أما علي المستوى القاري الأفريقي فإن وقوع انقلابات عسكرية في كل من مالي وغينيا خلال الفترة الأخيرة، وعدم قدرة الاتحاد الإفريقي علي ردع هذه الانقلابات، أو محاصرتها بحيث تعود إلي المسارات السياسية والدستورية في التوقيتات التي أعلنتها بذاتها، يؤشر بشكل واضح أن كلا من النطاقين العالمي والإقليمي غير جاهز لرفض أي نخب انقلابية قد تفاجئنا بالظهور علي المسرح السياسي السوداني بين لحظة وأخرى.