أزاح الرئيس الأمريكي جو بايدن الستار عن جزء من الوجه الآخر للسياسة الأمريكية الانسحابية من الشرق الأوسط، بتركيز المواجهة مع الصين، لكنها هذه المرة تجرّ معها الأوروبيين إلى ملعب المباراة التي يصعب على أشد المتابعين التنبؤ بنتيجتها، رغم أنّ واشنطن تتحسس- لا تزال- وقع “أزمة الغواصات” على رأسها.
ملامح الأزمة الحالية بين فرنسا ومعها الأوروبيين من جانب والولايات المتحدة ومعها استراليا وبريطانيا من جانب آخر تبدو مغلّفة بـ”أزمة الغواصات”، وإن كانت الصفقة تستحق أن تكون سببًا لنزاع دولي، لكن الوجه الآخر هو أنّ ثمة محورين يتشكلان حاليًا لصدام وشيك، طرفاه واشنطن وبكين، وفي المقابل ترفض أوروبا أن يُستهان بقوتها، ومن ثمّ ترى أنّها قوة جديرة بتشكيل قوة عسكرية خاصة بها للدفاع عن نفسها ومزاحمة النفوذ الدولي للقوى الكبرى.
تحالف “أوكوس” الأمني.. عينٌ على الصين
البداية في 15 سبتمبر عندما أطلقت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، شراكة أمنية جديدة في منطقة المحيطين الهادئ والهندي. تأتي ضمن معاهدة أمنية جديدة سموها “أوكوس” تتيح لأستراليا الاستحواذ على غواصات تعمل بالدفع النووي. وهي خطوة دفعت كانبيرا لإلغاء طلبية ضخمة أبرمتها مع باريس لشراء غواصات فرنسية الصنع، لكن الهدف الأكثر بعدًا في الشراكة الأمنية هذه، كما قال بايدن في مؤتمر من البيت الأبيض، أنها تسعى إلى تعزيز الاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث توسع الصين قوتها العسكرية ونفوذها.
هنا يبقى مستقبل العلاقات بين الأوروبيين والأمريكيين مرهون بمدى القدرة على تهدئة الطرفين الواقفين خلف الستارة (واشنطن وبكين)، لاسيما بعدما ظلت الولايات المتحدة تنصب نفسها دوما “شرطي العالم”، وحامي مصالح الدول الأوروبية في مواجهة الخصوم الدوليين والإقليميين.
خطاب فرنسي قاسٍ
الخطاب الفرنسي جاء قاسيًا للحد الذي كاد يفقد مفرداته الدبلوماسية، حتى كأن الصحفيين في مؤتمر وزير خارجية فرنسا كانوا ينتظرون أن “يلعن” الرجل أمريكا. الصحافة نقلت عن جان-إيف لودريان تصريحًا لا يزيد على 150 كلمة، ورد فيها كم هائل من الألفاظ القاسية تجاه واشنطن، ما يعكس حجم الأزمة الحالية.
كان لودريان يتحدث فور وصوله نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما قال إنّ “الموضوع يتعلّق في المقام الأول بانهيار الثقة بين حلفاء” وهذا الأمر “يستدعي من الأوروبيين التفكير مليًّا”. الوزير الفرنسي تحدث عن طبيعة الخطوة المفاجئة التي أقدمت عليها واشنطن باعتبار أن ما حدث “فضلا عن فسخ عقد صناعي، هو الفسخ القاسي وغير المتوقّع وغير المبرّر”، وفق قوله.
وجه لودريان حديثه لواشنطن: “التحالف يعني الشفافية والقدرة على الاستشراف والتوضيح والتحدّث مع بعضنا البعض”، و”عدم الاختباء”. الرجل كان مشحونًا للغاية وهو يعبر عن أسفه لـ”التوجّه التصادمي للغاية” الذي يبدو أن الولايات المتحدة تسلكه تجاه الصين، معتبرًا أن على الأوروبيين الدفاع عن “نموذج بديل” بدلاً من الخوض في منافسة لا تخلو أحيانا من استخدام “العضلات”، وفق تعبيره.
وعندما همّ لمغادرة المؤتمر سأله صحفي هل ستلتقي وزير الخارجية الأمريكي هنا، أجاب وهو يلتفت موِّليًا: “لم أخطط للقائه… ربما ألتقيه مصادفته في الأروقة”، (يقصد أروقة الأمم المتحدة)، يا له من خطاب شديد الغضب والأسف أبدته فرنسا.
أسباب الخلاف
تخللت العلاقة بين الولايات المتحدة وفرنسا على مدار العقود الماضية درجات كبيرة من التقارب، إلى جانب بعض الخلافات التي لم ترق إلى حد الأزمة، لذلك فإن الأزمة الحالية تعتبر تاريخية لكونها الأولى من نوعها، ولكن يمكن إسناد تراجع العلاقات بين الطرفين خلال الفترة الأخيرة لعدد من الاعتبارات:
صفقة الغواصات
تقع اتفاقية الغواصات على قائمة الخلافات بين فرنسا والولايات المتحدة. إثر فسخ أستراليا عقود صفقة عسكرية وقعتها مع الفرنسيين عام 2016، بقيمة 66 مليار دولار أمريكي. وذلك بهدف بناء 12 غواصة تقليدية تعمل بالديزل والكهرباء، مما ألحق أضرارا بالغة بالمصالح الفرنسية على كافة المستويات. والذي بدوره دفع باريس إلى وصفها بأنها بمثابة “طعنة في الظهر”.
وتحمل هذه الصفقة أبعادًا استراتيجية واقتصادية بالنسبة لفرنسا أكثر من مجرد عقد دفاعي. إذ إنه بجانب كونها صفقة اقتصادية ضخمة للميزانية الفرنسية. إلا أنَّها تمثل ضربة قاصمة للنفوذ الفرنسي في العالم بشكل عام والمحيطين الهادي والأطلنطي بوجه خاص. وكانت فرنسا تنظر إلى هذه الصفقة على أنها بمثابة إطار للعلاقات الفرنسية الأسترالية بالنسبة الأعوام القادمة في إطار محور باريس – دلهي – كانبيرا، فضلاً عن كونها حجر الزاوية في استراتيجية ماكرون لتوسيع دور أوروبا. وذلك بهدف توسيع النفوذ الفرنسي والمشاركة في رسم الخريطة الأمنية وميزان القوة في المحيطين كممثل عن الوجود العسكري الأوروبي في مواجهة التحدي المتمثل في صعود الصين.
عزل فرنسا
صاحب إلغاء صفقة الغواصات بين أستراليا وفرنسا، استبدالها بصفقة ثلاثية (AUKUS) بين أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا، لتوريد غواصات نووية إلى أستراليا؛ بغية نقل الخبرات الأمريكية في مجال تكنولوجيا الغواصات النووية، وتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني.
ويمثل هذا التحالف بين الشركاء الثلاثة– الذي تم بعيدًا عن مظلة الناتو- وبدون أن يشمل الحليف الفرنسي رسالة بعدم فعالية الدور الفرنسي في المنطقة، بجانب كونه محاولة لتقليص الحضور الفرنسي، إذ إن إهمال السياسة الأمريكية للمصالح الأوروبية خلال فترة رئاسة ترامب دفع فرنسا نحو تولي مهام الدفاع عن الاتحاد الأوروبي. ومن ثم توسيع نفوذها في مناطق مختلفة لاسيما على الساحة الأفريقية والشرق الأوسط، ولكن هذه الضربة تمثل تنافسا بين الولايات المتحدة وفرنسا.
وفي السياق نفسه، يشير هذا التحالف إلى تفضيل الولايات المتحدة للعالم الأنجلو ساكسون على حساب المصالح الأمريكية-الفرنسية، مما يخلق تشكيكًا في طبيعة العلاقات بين فرنسا وبريطانيا، إذ وصفها لودريان: “بريطانيا، في هذا الأمر برمّته، تُشبه إلى حدّ ما العجلة الثالثة”. كما أعربت فرنسا عن عدم قدرتها على الوثوق بأستراليا في أي محادثات بشأن إمكانية عقد اتفاقيات تجارية مع الاتّحاد الأوروبي.
استمرار السياسة الترامبية
كان الأوربيون يأملون أن يسعى بايدن إلى إصلاح ما تمخضت عنه إدارة ترامب من توترات في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة. إذ تسببت فترة ترامب في توسيع الفجوة بين الدول الأوروبية والأمريكان، حيث وصفهم غير مرة “بالخصوم”. كما اتسمت بغياب التشاور مع الشركاء الأوروبيين، وتفكيك التحالفات، إذ كان له دور فعال في إضعاف الاتحاد الأوروبي ودعم خروج بريطانيا. كما حاول السيطرة على الساحة الأوروبية، وأيضًا هدد بشن حرب تجارية من خلال فرض عقوبات تجارية على الشركات الأوروبية. بجانب تصرفاته الأحادية التي تهدد الاستقرار الأوروبي على رأسها الانسحاب من اتفاقية باريس للتغير المناخي، والانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.
كما احتدم الخلاف بين ترامب وفرنسا خلال أحداث السترات الصفراء، والذي وصفته فرنسا بمثابة تدخل في الشؤون الداخلية الفرنسية. فضلا عن المنافسة النشطة التي تقودها الولايات المتحدة في المناطق التي تمتلك فيها فرنسا مصالح اقتصادية وصناعية رئيسية. وفي بيان مشترك قالت وزارتا الخارجية والقوات المسلحة إن “الخيار الأمريكي لاستبعاد حليف وشريك أوروبي مثل فرنسا من شراكة منظمة مع أستراليا، في وقت نواجه فيه تحديات غير مسبوقة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، سواء من حيث قيمنا أو احترامنا للتعددية القائمة على سيادة القانون، يمثل نقصًا في الاتساق لا يمكن لفرنسا إلا أن تندم عليه”.
لذلك عندما تحدث لودريان قبل يومين قال إن ما قام به بايدن يؤكد استمرار حصول “ردود فعل تنتمي لزمن كنّا نأمل أن يكون قد انتهى”، في إشارة إلى عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. وقال لورديان: “هذا القرار الأحادي والوحشي وغير المتوقع يشبه إلى حد كبير الطريقة التي كان ترامب يتصرف بها”.
التخلي عن الحلفاء الأوروبيين
وقالت صحيفة لوموند الفرنسية، في مقال افتتاحي، متحدثة عن هذه الأزمة: “بالنسبة لأي شخص لا يزال يشك في ذلك، فإن إدارة بايدن لا تختلف عن إدارة ترامب في هذه النقطة: الولايات المتحدة تأتي أولاً، سواء كان ذلك في الاستراتيجية أو الاقتصادية أو المجالات المالية أو الصحية. “أمريكا أولا” هي الخط الموجه للسياسة الخارجية للبيت الأبيض”.
وشكلت فترة إدارة ترامب إعادة توجيه بوصلة المصالح الأمريكية، حيث وضع المصالح الاقتصادية والحد من النفوذ الصيني والروسي في المحيطين الهادي والهندي على رأس أولوياته، إلى درجة التنافس مع الدول الأوروبية لتحقيق أكبر المصالح على حساب الحلفاء متعمد تجاهل استقرار الوضع في الدول الأوروبية وحماية الأمن والسلام الأوروبي؛ وهو ما شكَّل أزمة ثقة بين الأوروبيين والأمريكيين في ظل عدم توافر الضمانات الكافية لاستعداد الولايات المتحدة للدفاع عن الأوروبيين، حيث كان “ترامب” قد أعلن منذ دخوله البيت الأبيض، أن الاتحاد الأوروبي تم تنظيمه ككتلة للاستفادة من الولايات المتحدة.
ومنذ منتصف العقد الماضي، ظهرت بوادر حول مشروع أوروبي بدعم فرنسي ألماني، يتمثل في تولي مهمة الردع والدفاع الذاتي عن النطاق الأوروبي بتشكيل جيش أوروبي. وذلك في مواجهة ممارسات واشنطن الرامية إلى تقويض الدول الأوروبية، وتهديد مشروع التكامل الأوروبي والتعاون العسكري الأوروبي الأمريكي. وصرحت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين”: “الوقت قد حان لكي يسرّع الاتحاد الأوروبي” الوتيرة من أجل “الدفاع عن نفسه في مواجهة الهجمات الإلكترونية، والتحرّك حيث لا وجود لحلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة ومعالجة الأزمات في الوقت المناسب”.
الانسحاب من أفغانستان
يعتبر قرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ترجمة أكثر وضوحًا للتصرفات الأحادية، من جانب الإدارة الأمريكية التي تتصرف وفقًا لما يحقق لها أكبر المكاسب دون النظر إلى المصالح الأوروبية. بالإضافة إلى كونه رسالة للأوروبيين بضرورة التكتل من أجل حماية أمنهم، من دون التعويل على القيادة الأمريكية؛ إذ جاء من دون التشاور مع الحلفاء، أو حتى الاتفاق على آلية إجلاء مواطنيهم ورعاياهم من أفغانستان، مما وضع القادة الأوروبيين في تخبط شديد خاصة بعد أن تردت الأوضاع في ظل سقوط كابول في يد طالبان، حيث خلق فوضى أمنية بالإضافة إلى تحديات الهجرة والإرهاب المنتظرة.
وعلى الرغم من أن القوات الأوروبية، التي شاركت تحت مظلة الناتو، جاءت بدفع من القيادة الأمريكية فور أحداث 11 سبتمبر عملاً بالمادة 5 من معاهدة شمال الأطلسي التي تنص على أن الهجوم المسلح على أحد حلفاء الناتو يعتبر هجوما على جميع الحلفاء، إلا أن الولايات المتحدة اتخذت خطوات مفاجئة بإخراج قواتها؛ مما وضع الأوروبيين في حرج شديد بشأن فاعلية وجودهم خلال فترة العشرين عام، كما أن هذا الانسحاب مثل اختبارا لآلية العمل الأمني المشترك بين الأمريكان والأوروبيين.
التداعيات
يترتب على هذه الخطوات غير المسبوقة، في سياق الصدام الأمريكي الفرنسي، عدد من التداعيات المحتملة يدعمها بعض العوامل القائمة بالفعل:
صياغة مفهوم جديد للأمن الجماعي
تحاول فرنسا في الفترة الأخيرة بالتعاون مع ألمانيا باعتبارهما القوتان العسكرية والاقتصادية الرئيسيتان داخل الاتحاد الأوروبي العمل على صياغة استراتيجية أمنية متكاملة، من خلال الدفع باتّجاه تعزيز القدرات الدفاعية والاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا، بجانب تفعيل استقلالية القرار الأوروبي لتغطية الغياب البريطاني؛ إثر اتفاق البريكست، وكذلك للتحرر من التبعية الأمريكية، وملء الفراغ الاستراتيجي الذي نشأ عن تضاؤل اهتمام الولايات المتحدة بأوروبا ومحيطها. وكما عبرت لوموند عن ذلك: “بعيدًا عن الحساسيات الفرنسية، فإن مكان أوروبا ودورها في العالم هو الذي تم التشكيك فيه”.
المنافسة في منطقة الإندو باسيفيك
جاءت سياسة بايدن امتدادًا لسياسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حيث ركزت الولايات المتحدة على منطقة “الإندو باسيفيك”، في المنطقة الممتدة من المحيط الهادئ شرقًا إلى المحيط الهندي غربًا- باعتبارها مسرح التنافس الدولي القادم، مع وصول ترامب إلى الإدارة بهدف احتواء النفوذ الصيني، وفي مارس أكدت قمة “كواد” التي ضمت (الولايات المتحدة، واليابان، والهند، وأستراليا) تفعيل التعاون العسكري في المنطقة ودعم الشراكات الاقتصادية في مواجهة النفوذ الصيني المستشري، لاسيما بعد مد الصين اتفاقية الحزام والطريق، وحصولها على امتيازات استغلال الموانئ البحرية على المحيطين الهادي والهندي.
وفي هذا الصدد، أعلن الاتحاد الأوروبي استراتيجيته لمنطقة المحيطين، والتي تتركز على إبرام اتفاقيات اقتصادية مع دول جنوب شرق آسيا وتعزيز الوجود العسكري الأوروبي؛ بناءً على توصيات ألمانيا تحت عنوان “ألمانيا وأوروبا وآسيا وتشكيل نظام القرن الحادي والعشرين معاً”.
ومن ثم، فإن التحركات الأمريكية الأخيرة تنصب بشكل رئيسي على التصدي للنفوذ الصيني، وتعكس ذلك اتفاقية الغواصات مع أستراليا، مما يدفع دول أوروبا من جهة أخرى إلى التحرك منفردة في إطار المنافسة على النفوذ والمصالح الاقتصادية، وهو ما وصفته الصين بأنه “إحياء للحرب الباردة”.
استمرار تراجع شعبية ماكرون
“الصفعة الأمريكية” لماكرون أكبر من “الصفقة العسكرية”، باعتبار أن الرئيس الفرنسي يواصل نزيف النقاط الجماهيرية. يضاف هذا التوتر بين فرنسا والولايات المتحدة إلى قائمة التحديات التي تواجه الرئيس ماكرون، مما يهدد استمراره في الحكم، خلال انتخابات بغضون أشهر، إذ لم يستطع كسب ثقة المواطنين. وظهر ذلك في النتائج الأولية للانتخابات الإقليمية، حيث لم يفز حزب ماكرون “الجمهورية إلى الأمام” برئاسة أي من الجهات الـ13. ويرجع ذلك إلى تصاعد شعبية اليمين المتطرف ضد ماكرون إلى جانب عدم رضا المواطنين على الإدارة الفرنسية، إثر التراجع الاقتصادي؛ مما أجبر المواطنين على الخروج إلى الشارع “احتجاجات السترات الصفراء”، وكذلك سوء معالجة الدولة لتداعيات جائحة كورونا.