في أحد أيام النصف الأول من أغسطس الماضي. وفي منزل بسيط بوادي سانجين. التابع لولاية هلمند في أفغانستان، طُرقت أبواب المنزل بقوة. فزعت “شاكيرا” وأخبرت ابنها الأكبر أن يرى من الطارق، فهي غير مسموح أن يراها غرباء. فتح الباب فوجد رجلين ملتحيين يخبرانه بأنه يتعين على من في المنزل الرحيل فورا. المعارك مع القوات الحكومية ستندلع قريبا، وإن بقوا فسيموتوا. كان الرجلان من طالبان.

أعاد ذلك الموقف الكثير من الذكريات المؤلمة لذهن “شاكيرا”. مما عايشته في بلد مزقته النزاعات والحروب طوال العقود الماضية. حملت ابنتها ذات العامين. ومع أطفالها السبعة الأخرين وزوجها، ساروا لمسافة طويلة وسط الصحراء القاحلة. وفي الخلفية كان صوت المدافع يدوي.

أصاب “شاكيرا” الإرهاق. جلست على الأرض وقررت ألا تتحرك أيا كان ما سيحدث، وهنا انهالت على المرأة الأربعينية التفاصيل.

كانت طفلة صغيرة حينما وصل الشيوعيون إلى الحكم آواخر السبعينيات. تتذكر كيف أجبروا النساء على خلع الحجاب والذهاب إلى المدارس ودراسة بعض الفنون. وتتذكر كيف قاوم رجال قريتها ذلك الإجبار فانتهى بهم المطاف إما مقتولين أو مسجونين. ثم تستعيد صعود المجاهدين، المناهضين للحكومة الشيوعية. الذي كان سببا في إجبارها على ارتداء الحجاب والبقاء في المنزل.

شروط الشيوعية 

يأتي الاحتلال السوفييتي فيعيد فرض الشروط الشيوعية عليها. يقاومه المجاهدون ثم يفرضون رؤيتهم أيضا عليها. يرحل السوفييت وتدخل البلاد في حرب أهلية تطحن رحاها شاكيرا وغيرها من النساء. تصعد طالبان وتسيطر على الحكم. فتشعر شاكيرا ببعض الهدوء ولا تجد ضيرا في الشروط التي فرضوها. فطوال حياتها وهي مجبرة على الخضوع سواء كان نظاما حاكما أو أبويا منعها من الخروج من المنزل منذ سن الحادية عشر.

لكن الهدوء لا يطول كثيرا. تسقط طالبان ويأتي الأمريكان فاتحين أذرعهم. يخبرونهم أن حياتهم ستصبح أفضل. تصدقهم شاكيرا. يمر قليل من الوقت حتى تتبين كذب كلماتهم ووعودهم. فالأمريكان، ناهيك عن الانتهاكات التي مارسوها بحق الرجال. تركوها وغيرها من النساء لأمراء الحرب ومسؤولي الحكومة الفاسدين والمجرمين المغتصبين.

وحينما خرجت من منزلها في أغسطس الماضي وتوقفت في الصحراء. قالت لنفسها: لن أتحرك خطوة أخرى. وكأنها أعلنت استسلامها لكل ما أصابها وسيصيبها. متذكرة تلك الأيام الطوال التي تعين فيها أن تغلق نوافذ منزلها وتحتضن أطفالها المذعورين وسط أصوات الرصاص والمدافع واهتزاز الجدران.

اعتادت حينها على أن تعطي أطفالها دُمى من القماش لكي تلهيهم بها، مثلما اعتادت أن تفعل وهي صغيرة مع كل نازلة تنزل بها.

اقرأ أيضا – (ما يعنيه حكم طالبان: قراءة في الأسباب والأبعاد والتأثير)

عودة طالبان والمشهد المركّب

الآن وبعدما عادت طالبان إلى الحكم من جديد دون الكثير من الدماء. لا تنظر شاكيرا تجاههم بسلبية وتقول إنهم في فترتهم الأولى كانوا يعاملونهن باحترام مقارنة بغيرهم. ولكنها تعتقد أن وضعها لن يكون أفضل حالا، هي التي ظلت دائما مفعول به منصوب بالكسرة. والكسرة هنا لجمع المؤنث السالم.

يمكن لتلك القصة، التي نقلناها لكم، بتصرف واختصار، عن مجلة “نيويوركر” أن توضح الكثير عن وضعية المرأة في أفغانستان.

التقرير الذي كان عنوانه “النساء الأفغانيات الأخريات“. سلط الضوء على معاناة النساء بعيدا عن العاصمة، حيث التركيز الإعلامي الغربي والقليل من التحرر والأوضاع الاجتماعية الأفضل.

ويقول كاتبه ومؤلف كتاب “أمريكا وطالبان والحرب من خلال عيون أفغانية”، أناند جوبال. إنه في بلد يعيش 70% منه في الريف فإن تسليط الضوء فقط على العاصمة لا يصبح موضوعيا.

 

صور أفغانيات خلال حقبة السبعينيات
صور أفغانيات خلال حقبة السبعينيات

منذ عودة طالبان للحكم استعاد كثيرون صور النساء في كابول خلال السبعينيات. حيث لا براقع ولا ملابس موحدة في مقارنة بصور العاصمة خلال التسعينيات. فترة حكم طالبان الأولى. ولكنه في واقع الأمر تبسيط مُخل يُمركز نظرته للمجتمع في العاصمة فقط، ويتجاهل كون الإجبار والفرض من أعلى كانا دوما عامل مشترك.

فالحكومة الاشتراكية التي استظلت بمظلة القوات السوفييتية بعد انقلاب 1978. حظرت ارتداء الحجاب في الأماكن العامة والمؤسسات التعليمية وأماكن العمل والدوائر الحكومية، ومن تجرأت على تحدي قراراتهم كان مصيرها الاعتقال أو التصفية. أما المفارقة فتكمن في أن الحملة الغربية ضد الانقلاب الاشتراكي حينها كانت نصرة لخيار المرأة في الحجاب، والحملة اليوم ضد طالبان رفضاً لاختيارها النقيض.

مع الوقت ذاته. لا يمكن نفي أن العقدين الماضيين حملا قليلا من المكتسبات للنساء، على الأصعدة التعليمية والمهنية والاجتماعية، وليس المظاهرية المتعلقة باللباس فقط. ولكنها في الوقت نفسه كانت مفروضة بشروط المنح الغربية، وفي بلد لا تتجاوز نسبة تعليم المرأة فيه 20% ألزمت الدول المانحة الحكومة الأفغانية بحصة وظائف للنساء لا تقل عن 30%، فظهر “الحشو النسوي” في الدوائر الحكومية، وارتد بآثار عكسية.

وفي مجتمع قبلي تضرب جذور الموروثات فيه بعمق يصبح كل ما هو غربي مُنفّرا خاصة إذا تجاهل الغربي تلك السياقات الاجتماعية وكان ذا وجهين في ادعائه: وجه يطالب بحقوقها وتحسين أوضاعها، ووجه آخر يخلق أساسا تلك الأسباب التي تنتهكها وتجعلها أكثر هشاشة.

المخاوف تتجدد

رغم الوعود والتطمينات بشأن المرأة لا تبدو طالبان عازمة حق على إحداث تغيير جذري في رؤيتها للمرأة، المستنبطة من فهمها الضيق لما تعنيه الشريعة الإسلامية. وبعد تولي حكومة مؤقتة من الذكور فقط وإلغاء وزارة شؤون المرأة عاد التوجس مجددا للواجهة.

اقرأ أيضا – (ملامح وإشارات: بماذا تخبرنا حكومة طالبان الجديدة؟)

وردا على غياب النساء قال ذبيح الله مجاهد، المتحدث الرسمي باسم طالبان، إن هذه ليست القائمة النهائية بعد، لكن بعدها بأيام كانت اللافتة التي تحمل اسم وزارة المرأة تُزال من مبنى الوزارة، ووضعت مكانها لافتة مكتوب عليها وزارة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.

وسبق لجماعات حقوق الإنسان، أن انتقدت وزارة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في عهدها الأول؛ لإسكاتها المعارضة، وفرضها قيودا صارمة على المواطنين، خاصة النساء والفتيات، فضلا عن نشر الخوف وانعدام الثقة في جميع أرجاء المجتمع.

واشتهرت وزارة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”  آنذاك بعد ضرب عناصرها للنساء بحجة أنهن يرتدين ملابس “غير محتشمة”، أو أنهن كن في الخارج دون ولي أمر. ولم يُسمح للفتيات بالتعليم بعد المرحلة الابتدائية، وهو إجراء أعادت الجماعة فرضه الآن بحسب ما تقول “بي بي سي”.

وقال عضوان من حركة طالبان في العاصمة الأفغانية لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية إنهما لا يتوقعان أن تستخدم طالبان القوة بالطريقة نفسها التي استخدمتها في الماضي، كما أن منفذي تلك القواعد لن يكونوا من عناصر الشرطة أو الجنود.

وكانت تلك الوزارة قد حلّت بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان عام 2001، وعلى الرغم من أن الرئيس آنذاك حامد كرزاي أعاد، بعد ضغوط من المحافظين، تأسيس وزارة مماثلة في عام 2006 ولكنها كانت أقل قوة.

لا نريد أن نحصر أنفسنا في المنزل”

بحسب “بي بي سي” فإن موظفات يعملن في مجمع وزارة شؤون المرأة، كن يحاولن العودة إلى العمل لأسابيع، لكن تم منعهن من الدخول إلى المبنى. وتقول إحداهن: “بالنسبة للنساء، لن يكون هناك شيء بعد الآن، لدينا مسؤوليات تجاه عائلاتنا، نحن متعلمات ولا نريد أن نحصر أنفسنا في المنزل”.

واعترضت امرأة أخرى “عندما لا تكون هناك وزارة، ما الذي يجب أن تفعله المرأة الأفغانية؟ هل يقبل ضميرهم (طالبان) قيام النساء الأفغانيات بالتسول على الطرق؟”.

وقبل سيطرة طالبان على البلاد كان يتم حجز 27% من عدد مقاعد البرلمان الأفغاني (250 مقعدا) للنساء، وكان ثمة 69 نائبة في البرلمان. أما الآن فلا يوجد نساء في هياكل وتركيبة طالبان.

وعن ذلك تقول فرزانه كوتشاي، وهي نائبة سابقة في البرلمان “لا نعرف شيئا عن أجنداتهم، ما يقلقنا هو أنهم لا يتطرقون إلى الحديث عن النساء إطلاقا. لا ينبغي إبعادنا عن المجتمع، يجب أن نواصل عملنا ونظل في الحكومة وفي أي مكان نريد”.

وتشرح كوتشاي تفاصيل الصورة الحالية “ليست كل النساء خائفات ويحبسن أنفسهن في منازلهن، لكن الكثيرات تغيرن نفسيا واجتماعيا وسياسيا، وبات معظمنا يختبئ. لا يمكننا حتى أن نكون على مواقع التواصل الاجتماعي أو القيام بوظائفنا أو الخروج من منازلنا. باتت النساء تقبلن على شراء البراقع بأعداد كبيرة في كابل، وبتنا نفتقد وجود النساء على شاشات التلفزيون وأماكن أخرى”.

وحتى الآن تطلب الحركة من النساء العاملات البقاء في المنزل لحين استتباب الأوضاع الأمنية، مع وعود بصرف مرتباتهن. ووفقا لرئيس بلدية كابول، فإن حوالى ثلث موظفي البلدية البالغ عددهم 3 آلاف موظف هم من النساء.

وقال الحركة إن هؤلاء سيبقين في العمل “على سبيل المثال. تعمل النساء في مراحيض النساء في المدينة حيث لا يستطيع الرجال الذهاب. لكن بالنسبة للمناصب التي يمكن أن يشغلها الآخرون (الرجال)، فقد طلبنا منهن (النساء) البقاء في المنزل حتى عودة الوضع إلى طبيعته. وسيتم دفع رواتبهن”.

سياسات تعليمية جديدة

 حتى الآن لم تسمح طالبان للفتيات بالعودة إلى المدارس، وإن قال متحدثها مجاهد إنه سيُسمح قريبا لهم بالعودة. وقد أعيد فتح المدارس الثانوية في نهاية هذا الأسبوع، لكن لم يُسمح إلا للأولاد والمدرسين بالعودة إلى الفصول الدراسية.

لم يسمح للطالبات بالعودة للمدارس
لم يسمح للطالبات بالعودة للمدارس

ومن المقرر أن يحظر الاختلاط بين الأولاد والفتيات في المدارس الابتدائية والثانوية، وهو الأمر الذي كان شائعا في عهد الحركة الأول. وفيما يتعلق بالتعليم العالي فقد أعلنت طالبان فصل الرجال عن النساء ووضع قواعد لزي إسلامي داخل الجامعات.

وتنطوي تلك السياسة الجديدة على تغييرات كبيرة مقارنة بالممارسات التي كانت سائدة في الجامعات في فترة ما وصول طالبان على الحكم. إذ كان مسموحا بالاختلاط، كما لم يكن هناك زي بعينه يفرض على النساء والفتيات في الجامعات.

مراجعة المناهج الدراسية 

وتعليقا على ذلك. قال عبد الباقي حقاني، وزير التعليم العالي في الحكومة المؤقتة: “ليست لدينا مشكلة في إنهاء التعليم المختلط. فالناس مسلمون وسيقبلون ذلك”. مشيرا في الوقت ذاته إلى فرض ارتداء الحجاب.

وأوضح الوزير الجديد أن المواد والمناهج الدراسية في الجامعات. سوف تخضع للمراجعة. قائلا لوسائل إعلام إن طالبان تريد أن تضع “مناهج منطقية وإسلامية تتوافق مع القيم الإسلامية والوطنية والتاريخية من ناحية، وتكون قادرة على منافسة نظم التعليم في دول أخرى من الناحية الأخرى”.

ويرجح البعض أن تلك القرارات سوف تؤدي إلى حرمان المرأة من التعليم الجامعي لأن الجامعات ليس لديها الموارد المالية اللازمة لإقامة قاعات محاضرات منفصلة للنساء. رغم ذلك، أصر حقاني على أن هناك عددا كافيا من المدرسات الجامعيات، مشددا على أنه إذا لم يتوافر العدد المطلوب منهن، سوف توفر الحكومة بدائل لذلك “سوف يعتمد كل ذلك على القدرة الاستيعابية لكل جامعة. كما يمكن الاستعانة بمدرسين رجال من خلف ستار”.

وما بين النظرة القبلية المحلية والنظرة الغربية ستبقى المرأة الأفغانية في جبال الهندوكوش وحدها من تدفع أكبر ثمن مع كل تغيرات سياسية تضع حقوقها مَطيَّة لتحقيق أهدافها.