بعد يومٍ شاق من الترقب والتوتر الذي ساد المشهد الليبي، عقب سحب الثقة من حكومة الدبيبة، خرج المستشار عقيلة صالح رئيس البرلمان في مكالمة هاتفية قبل أن يخلد الليبيون إلى النوم ليكشف كواليس ما حدث، وما مقدمات الخطوة الفجائية التي قذفت بكافة الترتيبات السياسية والاقتصادية إلى المجهول؟
ذهب صالح في حديثه يمينًا ويسارًا حول النصاب القانوني وعدد الحاضرين، لكن أبرز ما قاله أن مجلس النواب قرر الإثنين تشكيل لجان تحقيق مع الحكومة مهامها محصورة في أسبوعين، بدلاً من سحب الثقة منها، وفي جلسة صباح اليوم التالي (الثلاثاء) “تبين”- وفق تعبيره- أن النواب المطالبين بسحب الثقة أعادوا طلبهم مرة أخرى؛ بسبب تصرفات الحكومة الخارجية وتوقيعها اتفاقيات مليارية، فصوّتت الأغلبية على خلع الثقة عن الحكومة وبقائها “حكومة تسيير أعمال لتوفير كل متطلبات المواطنين، وتنفيذ ما اتخذته من قرارات بالداخل، لكنها لا تفوض بالتزامات خارجية وعقود بالمليارات طويلة الأجل”.
لم يدع عقيلة صالح بهذا التصريح أيَّ مجال لفهم طبيعة ما حدث أمس الثلاثاء في ليبيا، أو الهدف الذي أثار حفيظة البرلمان فانتفض يشهر الكارت الأحمر في وجه حكومة الدبيبة، إنه ملف الإعمار، وعلى وجه التحديد الاتفاقيات الموقعة مع مصر بقيمة إجمالية وصلت 33 مليار دولار لتأهيل الطرق وبناء الجسور والمستشفيات والجامعات والمدارس، وإعادة ليبيا إلى الحياة.
اقرأ أيضًا| سحب الثقة من حكومة الدبيبة يدفع ليبيا إلى المجهول
ومنذ أن تسلَّمت حكومة الدبيبة السلطة في مارس الماضي، اتخذت خطوات تنموية وخدمية عديدة، وفّرت منحًا للمواطنين سواء المقبلين على الزواج أو منحة أرباب الأسر والإعالة والمعيشة، وهو ما جمّع حولها شعبية جماهيرية مفرطة، لم تتحقق لقيادة ليبية منذ 2011، لكن الخطوة المزعجة لأطراف محلية- وربما خارجية- هو فتح الدبيبة لأول مرة ملف إعادة الإعمار وإسناد أولى بواكره لمصر، فيما تقف دول أخرى غربية وإقليمية تنتظر نصيبًا من قماشة ليبيا المقطعة لترميمها.
هنا السؤال المثير للجدل: ما مصير الاتفاقيات الموقعة مع مصر؟
البرلمان وممثلو هيئته العليا قالوا إن الحكومة لن تخوّل بأي التزامات أو تعهدات دولية ومهمتها فقط تسيير الأعمال الداخلية، وتنفيذ القرارات المتعلقة بخدمات المواطنين، الصحية والغذائية وغيرها، أمَّا الاتفاقيات طويلة الأجل فلم تعد من اختصاصاتها، باعتبارها حكومة مؤقتة.
عقيلة صالح قال إن الحكومة وقعت اتفاقيات في غير اختصاصها، لأنها حكومة موقتة ولا يكون لها توقيع اتفاقيات طويلة الأمد مع جهات خارجية، وفي حديثه إشارة إلى تعطيل الاتفاقيات مع مصر، لكنه لم يشر صراحة إلى أيّ اتفاقيات يقصدها، بيدْ أن حكومة الدبيبة لم تترجم تحركاتها الدولية إلى تعهدات مالية غير مع الجانب المصري في ملف إعادة الإعمار.
يمكن أن يكون حديث عقيلة صالح غلقًا للباب أمام الحكومة عن الاتفاقيات المستقبلية، لكنّه يبقى أيضًا معطلاً لتنفيذ الاتفاقيات المصرية، خاصة أنها دخلت بالفعل حيز التنفيذ، وكان مقررًا انتقال المعدات وشركات الإنشاءات إلى ليبيا مطلع أكتوبر المقبل؛ وهو ما يعني بالضرورة فتح اعتمادات مستندية من البنك المركزي، وتسييل سيولة نقدية للشركات لبدء أعمالها، ومن شأن تجريد الحكومة من صلاحياتها وقف تلك الخطوات، على الأقل حتى الآن، إن لم يستجد أيّ طارئ في قادم الأيام.
الحويج: الاتفاقيات سارية
في مقابل هذا الموقف، كان وزير الاقتصاد الليبي محمد الحويج يتحسب للحظة كهذه، عندما قال في مقابلة مع قناة “الحرة” الأمريكية بعد ساعات من توقيع الاتفاقيات مع مصر إن عقود الإعمار موقعة بين دولتي ليبيا ومصر بغض النظر عن الحكومتين، وبالتالي في حال رحلت حكومة الوحدة الوطنية الحالية ستبقى العقود سارية، ويستكمل التنفيذ مع الحكومة الجديدة.
ربما كان الحويج يتحدث عن عمر الحكومة القصير وفق خارطة الطريق الموقعة في جنيف فبراير الماضي، التي تجعل الحكومة الحالية تدير فترة انتقالية تنتهي بإجراء انتخابات في 24 ديسمبر المقبل، لكن الغموض لا يزال يحيط بمستقبل العملية السياسية والانتخابات، فضلاً عن الجانب الاقتصادي والمالي حاليًا.
يفهم من حديث الحويج أن الاتفاقيات سارية ولا يمكن إلغائها، كما أن العقود الموقعة مع شركات البناء والتشييد تنص في الغالب على شروط جزائية في حال إلغاء الاتفاقيات، وهو ما يشير إلى أن الاتفاقيات ستظل قائمة، لكن لحظة التنفيذ هي الشيء الغامض حتى الآن، إلى أن يتفق الليبيون على ألا يختلفوا.
ما سبق هو الموقف السياسي.. فماذا عن الموقف القانوني؟
بسبب غياب الدستور الدائم، لدى ليبيا حاليًا أطر دستورية وقانونية محدودة، تتمثل في الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الانتقالي عقب الثورة مباشرة، والاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات عام 2015، وبين تلك الفترة أدخلت تعديلات على الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي.
للاطلاع على الإعلان الدستوري وتعديلاته اضغط هنا
الإعلان الدستوري يقول إن الحكومة المؤقتة تختص بتنفيذ السياسة العامة للدولة، والتي يدخل في إطارها إصدار القوانين واللوائح، دون تحديد موقف الاتفاقيات الخارجية. لكن الفقرة (ح) بالبند الثاني من المادة الثامنة في الاتفاق السياسي تنص على أن “مجلس الوزراء مخول بعقد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية على أن تتم المصادقة عليها من مجلس النواب”.
للاطلاع على الاتفاق السياسي اضغط هنا
صراع على عقود “إعمار ليبيا”
شهدت الأشهر الأولى من تولي حكومة الدبيبة مقاليد الحكم في ليبيا، صراعا شرسًا على ملف إعادة إعمار البلد، في محاولة للفوز بنصيب الأسد من حزمة التعمير التي قدرها وزير الاقتصاد بحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة محمد الحويج بـ200 مليار دولار، اقتنصت منها مصر وحدها 33 مليارًا.
لكن المثير، على ما يبدو لسخط الآخرين، أن الجانب الليبي لن يقدم على خطوة مماثلة لتلك التي اتخذها في القاهرة، على الأقل في القريب العاجل، كما أن دخول التجربة المصرية السوق الليبية، يمكن أن تخلق “عدوى استثمارية”، باعتبارها قد تتوسع بعقود أخرى مستقبلاً.
اقرأ أيضًا| هدف اقتصادي في شباك سياسية.. حصاد مصري متعدد من برنامج “إعمار ليبيا”
خلال الأشهر الماضية استقبلت حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة طلبات العديد من الشركات والدول للدخول في شراكة لتنفيذ مشروعات بنيوية، خاصة من تركيا ومصر وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا والصين. كما أعلنت فرنسا أمس الثلاثاء رغبتها في إقامة ملتقى اقتصادي مع الشركاء الليبيين لمناقشة ملفات التعاون الاقتصادي والإعمار.
وعقدت خلال الأشهر الماضية منتديات اقتصادية، جميعها أثارت ملف إعادة الإعمار، لكنها لم تنته بعقود موقعة رسميًا، وبالتالي كانت البداية من مصر، وهنا يثير مراقبون حديثا جانبيًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهم يتساءلون لماذا غيَّر مجلس النواب خطة مساءلة الحكومة إلى خلع الثقة عنها وتجريدها من اختصاصاتها الخارجية، هل لذلك علاقة بملف الإعمار.
ووقعت مصر وليبيا حزمة مشروعات إعادة إعمار، من خلال 13 مذكرة تفاهم و6 عقود تنفيذية، بقيمة إجمالية 33 مليار دولار (حوالي 147 مليار دينار ليبي)، كما تقرر بدء توافد العمالة المصرية على الجارة بداء من أكتوبر المقبل، بعدما جرى الاتفاق على نظام ربط إلكتروني لاستقبال العمالة وتتبع علمها داخل الأراضي الليبية.
لذلك، فإن التطورات المتلاحقة خلال الساعات الأخيرة تجعل كل تلك الترتيبات في “خانة الانتظار” عما سيصل إليه الليبيون، هل يكون اختيار الجارة المصرية مقدمًا على الحليف الغربي، لاسيما الفرنسي الذي كان العمود الفقري في التحالف الدولي الذي نفّذ مهمة في 2011 للتخلص من القذافي.
مجلس النواب أطلق رصاصة على قدمه
على الصعيد الداخلي، يبدو أن مجلس النواب الليبي قد أطلق رصاصة على قدمه، عندما وضع عبدالحميد الدبيبة فوق منصة جماهيرية باعتباره بطلاً شعبيًا يسعى للتعمير والتنمية مقابل فئة من بني جلدته يسعون بالقدر نفسه للعرقلة، هكذا كانت تعليقات الليبيين منذ الأمس، وقد وجدوا أن عقيلة صالح دشّن عن جدار حملة انتخابية للدبيبة من حيث كان يريد إقصاءه.
الدبيبة التقط الكرة من عقيلة صالح وسجل هدفًا، كان هذا تعليق المتحدث باسم المجلس الانتقالي سابقا محمود شمام، وهو يشاهد المباراة السياسة الدائرة الآن، ولحسن الحظ كان الدبيبة وقت إعلان سحب الثقة من حكومته، يحضر نهائي مباراة كرة قدم لدوري الجامعات في ليبيا، ونشر حسابه الرسمي على “فيسبوك” صورة وهو يمسك كرة المباراة، ربما كانت صورة طبيعية لحدث رياضي يحضره، لكن وراء ضغطة الكاميرا الكثير من الدلالات.
الدبيبة التقط الكرة وسجل الهدف
وعندما الذي انتقل من ملعب المباراة إلى ملعب آخر سياسيًا في وسط العاصمة طرابلس، صعد الدبيبة على منصة نصبها مؤيدوه للتظاهر تعبيرًا عن رفض قرار مجلس النواب، هناك وقّع على هدفه، بالدعوة لتظاهرة حاشدة في ميدان الشهداء وسط العاصمة الجمعة المقبل، وخلال حديثه لم يغفل الدبيبة كيف انتصر في المباراة، فوجّه رسالة لمدينة طبرق التي عبّر مجلس بلديتها عن رفضه قرار البرلمان المنعقد في المدينة نفسها، كان ذلك مفاجأة لا يتوقعها أكثر المؤيدين للدبيبة نفسه، كيف لمدينة هي معقل للخصم تؤيد المنافس، وهنا قال لهم الأخير: “تعالوا إلى طرابلس شاركوا معنا التعبير عن رفض القرار”.
https://www.youtube.com/watch?v=gPmUc0QpJ0w
لذلك يرى “شمام” أن “الجمعة القادمة حاسمة ومكان المواجهة ساحات المدن”، بهذا المعنى يعتقد أن عقيلة أخطأ في اختيار الخصم، والآن دخل معركة اختفى فيها مؤيدوه، وبناء عليه “إذا جرت الانتخابات اليوم فليس هناك مرشح واحد من الأسماء المطروحة يمكنه هزيمة الدبيبة”.
ولأنه رجل أعمال واقتصادي بارع، عرف- منذ تولي الحكم- من أين تؤكل الكتف، فعمد إلى تدشين مشروعات خدمية وأقر منحة للمقبلين على الزواج وسيّر منحة أرباب الأسر، وأعاد تسييل الأموال للبلدين، واستكمل مشروعات الطرق والجسور والكهرباء المتوقفة، للحد الذي جعل معارضوه أول المؤمنين بسياسته، باعتباره القائد الليبي الوحيد منذ 2011 الذي حوّل أموال النفط إلى التنمية وليس لمشروعات الحرب.
بينها طبرق.. 66 بلدية داعمة للدبيبة
هنا كان الدبيبة يعرف قدر ما فعل، فعندما وقف أمام جمع من أنصاره أمس في وسط طرابلس، قال لهم “أنا رجل بناء وسلام ولست رجل حرب وهدم”، كانت الإشارة واضحة والتحرك أيضًا على قدر من الذكاء، ولذلك لم يكن مستبعدًا صدور بيان مشترك من 66 بلدية تعلن رفضها قرار البرلمان، وتؤكد دعمها للدبيبة، في نفس التوقيت كان الشباب- ربما بعضهم من المقبلين على الزواج وينتظرون المنحة- ينظمون صفوفهم في الميادين المختلفة شرقا وغربا وجنوبا للاحتجاج ضد قرار البرلمان.
خطاب عمداء البلدين الستة والستين في البيان المشترك كان متماشيًا مع نهج الدبيبة، ويكشف بوضوح أن المسلك الذي سار عليه هو ما أثار قلق خصومه، فقد قالوا إن هذه الخطوة (سحب الثقة) جاءت “تحت ضغط المصالح الشخصية لعدد من النواب وتعارض مصالحهم مع ما قامت به الحكومة من خطوات وإنجازات خلال فترة زمنية قصيرة، ودون حتى إقرار الميزانية”.
أنصار القذافي “ردوا الجميل”
المفارقة أن البيان صدر أولاً وجرى ترويجه عبر بلدية بني وليد ومناطق نفوذ أنصار النظام السابق، تلك على ما يبدو ردة الفعل الطبيعية لعملية المصالحة الوطنية التي قادتها الحكومة والمجلس الرئاسي مؤخرًا، أو كما يقول معارضو الدبيبة الصفقة الانتخابية مع أنصار القذافي.
كما أن المفاجأة الأخرى، توقيع بلدية طبرق على البيان، ثم صدور تصريحات عن مسؤولين في المناطق الشرقية دعما للحكومة ورفضًا لقرار البرلمان، وكأن الخطوة رصاصة إلى صدر مجلس النواب الذي يبدو لم يكن متوقعًا كل هذا الزخم الاجتماعي والسياسي.
لذلك، سرعان ما خرج المستشار عقيلة صالح ليلاً في مكالمة هاتفية عبر قناة “ليبيا الحدث” الموالية للبرلمان، للحديث عن كواليس عملية سحب الثقة، لكن الارتباك الذي بدا عليه دفعه للخطأ، عندما قال إن 110 نواب حضروا جلسة سحب الثقة، صوت منهم 89 نائبا بالموافقة. لكن هذه الإحصائية تتعارض مع بيان ألقاه 39 نائبًا عقب انتهاء الجلسة يرفضون فيها الإجراء، فإما الذين حضروا 128 نائبًا أو أن المصوتين على سحب الثقة 71 نائبًا. لذلك قال النواب المعترضون، في البيان، إن ثمة “تضليل” حدث في عملية التصويت، بحسبان أصوات الممتنعين كمؤيدين، على حد قولهم.
البعثة الأممية تمنح حكومة الدبيبة “الشرعية الدولية”
ولم تنقض ليلة الأربعاء حتى أصدرت بعثة الأمم المتحدة بيانا قالت فيه إن “حكومة الوحدة الوطنية الحالية تظل الحكومة الشرعية حتى يتم استبدالها بحكومة أخرى من خلال عملية منتظمة تعقب الانتخابات”، وهو ما يعني أن الحكومة الحالية تستمد شرعية دولية، حتى وإن فكر البرلمان في تشكيل حكومة جديدة موازية في الشرق.
وعندما كان المتحدث باسم مجلس النواب عبدالله بليحق يشرح للصحفيين سبب سحب الثقة من حكومة الدبيبة، ذلّ لسانه بمفردات ربما تؤخذ عليه لاحقًا، عندما قال إن “الحكومة مؤقتة وليس من مهامها توقيع اتفاقيات طويلة الأمد أو أعمال تنمية وغيرها من المصروفات التي قاربت الـ50 مليارًا”.
اعتبار “بليحق” أن الحكومة غير مخوّلة بالتنمية اعتقاد استجمع انتقادات عديدة ضد البرلمان، فكيف لمجلس النواب يحاسب حكومة على أنها تجري أعمال تنمية، لذلك يعتقد المهتمون بالشأن الليبي أن الدبيبة تسلّم الكرة من البرلمان على حافة خط المرمى وسجل الهدف بدون أي مجهود.