في 27 أغسطس 2017، وبينما كانت العلاقات المصرية الأمريكية في أوجها بعد أشهر من وصول الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وانتهاء حقبة الديمقراطي باراك أوباما، قرر وزير الخارجية في ذلك الوقت، ريكس تيلرسون، اقتطاع نحو مائة مليون دولار من المعونة الأمريكية لمصر من ميزانية ذلك العام، وحجب 195 مليون دولار آخرين من المساعدات العسكرية، أي نحو 300 مليون دولار دفعة واحدة، وليس 130 مليون دولار فقط كما فعلت مؤخرا إدارة الرئيس الديمقراطي جورج بايدن.

لم تبد الحكومة المصرية أي قلق تقريبا في ذلك الوقت، وبعد شهر واحد من قرار إدارة ترامب، توجه الرئيس السيسي للولايات المتحدة لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعقد لقاءا وديا للغاية مع الرئيس الأمريكي الذي أثنى على الرئيس المصري وأبدى إعجابه بتوجهاته ورؤيته، ووعد في نفس الاجتماع بسرعة إعادة النظر في تجميد الـ195 مليون دولار من المساعدات العسكرية. وبالفعل، بعد عام واحد فقط، تم التراجع عن القرار وصرف المبلغ لشراء الأسلحة الأمريكية.

قالت الصحف الأمريكية حينذاك أن إدارة ترامب كانت منزعجة من العلاقة المتنامية من مصر وكوريا الشمالية، وأن سفارة بيونغ يانغ في القاهرة كانت مركزا لإدارة بيع الأسلحة الكورية الشمالية إلى دول الشرق الأوسط وأفريقيا. كما أن الخارجية الأمريكية، التي تعد تاريخيا معقلا للديمقراطيين والليبراليين من اصحاب التوجه الداعي لأن يكون للولايات المتحدة دورا خارجيا يدعم حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية، كانت منزعجة من القانون المنظم لنشاط الجمعيات الأهلية وطالبت بتعديله، ودعت كذلك لإعادة محاكمة ثمانية مواطنين أمريكيين في قضية التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية الشهيرة، رقم 173، وتبرئة ساحتهم. عمليا، تحققت المطالب الأمريكية الثلاث: قالت النيويورك تايمز في مقال نشرته في سبتمبر 2018 بعد قرار ترامب الإفراج عن المساعدات المجمدة إن كوريا الشمالية خفضت بالفعل عدد العاملين في سفارتها في القاهرة، وتم تعديل قانون الجمعيات الأهلية، واعادة محاكمة الأمريكيين المتهمين في قضية التمويل الأجنبي ونالوا البراءة.

ترامب
ترامب

استرجاع هذه الواقعة هدفه اثبات أن العلاقات المصرية الأمريكية أصبحت من الرسوخ والعمق لدرجة أنه لم يعد من الممكن تفكيكها، وأن الطرفين حريصان على الاحتفاظ بـ”علاقة استراتيجية”، كما يؤكد دائما كبار المسؤولين في البلدين. المعادلة ببساطة أن مصر تحتاج الولايات المتحدة، وكذلك الولايات المتحدة تحتاج مصر. المعونة العسكرية الأمريكية لمصر ممتدة منذ العام 1979، وكانت جزء من إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة بعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وانحياز مصر بالكامل للمعسكر الأمريكي الغربي مقابل الابتعاد عن الاتحاد السوفيتي السابق في إطار الحرب الباردة التي كانت قائمة في ذلك الوقت.

يقول مركز الأبحاث التابع للكونجرس الأمريكي إن مصر تلقت نحو 74 مليار دولار من الولايات المتحدة منذ العام 1947، منهم 50 مليار دولار منذ العام 1979.

كانت المعادلة أنه مقابل الالتزام بالسلام وعدم خوض حرب جديدة ضد إسرائيل أن تتلقى مصر نحو 2.1 مليار دولار سنويا، مقابل ثلاثة مليارات دولار لإسرائيل. وبجانب الالتزام بمعاهدة السلام، تتلقى الولايات المتحدة معاملة تفضيلية في مرور سفنها العملاقة وقطعها الحربية عبر قناة السويس وخدمات التزود بالوقود والصيانة والسماح باستخدام الأجواء المصرية، هذا عدا التعاون رفيع المستوى في مجال مكافحة الإرهاب والمعلومات الاستخباراتية المتعلقة بمصلحة البلدين. كما أن لمصر، بتاريخها وتعداد سكانها وقوة جيشها، ثقل إقليمي مؤثر في العديد من القضايا وتحديدا القضية الفلسطينية وليبيا والسودان ومنطقة الخليج العربي، وسوريا ولبنان والعراق بدرجة أقل.

جو بايدن
جو بايدن

وبالنسبة لمصر، فإن الاحتفاظ بعلاقة ايجابية بالولايات المتحدة أكبر وأهم من مجرد الحصول على المعونة العسكرية والاقتصادية السنوية. فمن الناحية العملية، بدأت الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة تخفيض المعونة الاقتصادية السنوية لمصر والتي كانت تقدر بمليار دولار حتى وصلت إلى الصفر تقريبا، حيث أنه تم الاتفاق على استبدال المعونة الاقتصادية باستثمارات أمريكية مباشرة في الاقتصاد المصري. ولكن الاحتفاظ بعلاقة متميزة مع أمريكا، يعني أيضا علاقة ايجابية مع حلفاءها الغربيين في أوروبا وحلف الناتو، وقبلها حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط وعلى رأسهم دول الخليج النفطية الثرية، وكذلك ترحيب وتعاون من قبل منظمات التمويل الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي في تقديم القروض والمعونات. فكل هذه المؤسسات الدولية تهيمن عليها الولايات المتحدة، وتراجع العلاقة مع أمريكا تعني غلق أبواب التعاون معها. والعديد من دول العالم تسعى لتطوير العلاقة مع واشنطن، فقط لكي تنال هذا الضوء الأخضر في التعامل مع مؤسسات التمويل الدولية.

ومقابل الأصوات الليبرالية في الخارجية الأمريكية، هناك أصوات محافظة، ربما تكون أكثر تأثيرا، في البنتاجون وأجهزة الاستخبارات الأمريكية وشركات السلاح الكبرى، والتي تتمسك بضرورة الحفاظ على علاقة استراتيجية ايجابية في مصر بغض النظر عن تعامل الحكومات المصرية المتعاقبة مع ملف حقوق الإنسان، واعتبار هذا الأمر شأنا داخليا. وبعد مرور أكثر من اربعين عاما من التعاون الوثيق بين البلدين، أصبح للنظام المصري اصدقاء مؤثرين في العديد من أجهزة صنع القرار، وعلى رأسها البنتاجون وأجهزة الاستخبارات وبعض أعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ.

عندما كنت أعمل مراسلا للأهرام في واشنطن في فترة الرئيس السابق جورج دبليو بوش عام 2003، كانت هناك مطالب مماثلة باقتطاع 100 مليون دولار من المساعدة الأمريكية لمصر للاحتجاج على استمرار احتجاز الأستاذ الجامعي المصري الأمريكي سعد الدين ابراهيم، والمعارض والمرشح الرئاسي السابق أيمن نور.

كما كانت هناك ضغوط لمراجعة ملف المساعدات العسكرية لمصر بالكامل في ضوء الحملة التي قادها الرئيس الساذج السابق، بوش، لنشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط والتي انتهت بكوارث في العراق وأفغانستان. وكان اللوبي الصهيوني المؤثر في الكونجرس يلوح بدعم نفس المطلب بسبب مزاعم اسرائيل في ذلك الوقت ان مصر لا تتعامل بجدية مع مطلبها بإغلاق الأنفاق القائمة مع قطاع غزة.

ولكن المعارض الأول لأي مساس بالمساعدات الأمريكية كانت وزارة الدفاع، وشركات السلاح، والتي قالت إن إلغاء مليار و300 مليون دولار سيعني إلغاء العديد من العقود لشراء أسلحة أمريكية، وهو ما سيترتب عليه فقدان المئات من الوظائف في ولايات محددة تتركز فيها مصانع الأسلحة. فمصر لا تتلقى هذا المبلغ من واشنطن لكي تشتري السلاح من أي مكان في العالم، فالسلاح يجب أن يكون أمريكي وقطع الغيار أمريكية والخبراء أمريكيون، وبالتالي فالمنفعة مشتركة: مصر تحصل على سلاح أمريكي حديث، وتعمل المصانع الأمريكية لإنتاج السلاح بتمويل من الحكومة الفيدرالية الأمريكية.

أمريكا تعيش عمليا حالة انقسام عميق وشبه متساوي منذ تولي الرئيس السابق أوباما الحكم في العام 2008. المعسكر الليبرالي التقدمي المؤيد للحزب الديمقراطي يدعو لأن تضع أمريكا قضايا حقوق الإنسان من ضمن أولوياتها في علاقاتها الخارجية، وكذلك زيادة الانفاق على الخدمات الاجتماعية المقدمة للملايين من الفقراء ومحدودي الدخل والمنتمين للأقليات من السود والقادمين من أمريكا اللاتينية، والانفتاح على المهاجرين، وتبني موقفا منفتحا تجاه قضايا المثليين والاجهاض والحد من انتشار السلاح المميت. أما أنصار التيار المحافظ من مؤيدي الحزب الجمهوري والجماعات الشعبوية الأكثر تطرفا وعنصرية والمقربة للغاية من الرئيس السابق ترامب، فتتبنى مواقف متناقضة تماما كرفع شعارات “أمريكا أولا”، ورفض اعتبار سجل حقوق الإنسان معيارا لتنمية العلاقة مع الولايات المتحدة لأن المهم هو مصلحة واشنطن، وبناء أسوار للحد من الهجرة، ومعارضة أي نظام حكومي للتأمين الصحي يوفر العلاج والدواء لنحو 50 مليون أمريكي، ومنع المثليين من دخول الجيش الأمريكي أو أي تمويل حكومي لعمليات الإجهاض أو تحديد النسل، والوقوف أي محاولات للحد مما يسمونه بحق الأمريكيين في حمل السلاح الشخصي، حتى لو كان بندقية آلية.

حالة الانقسام والعداء بين المعسكرين برزت في أسوأ صورها بعد نتيجة الانتخابات الأمريكية الأخيرة، والتي أتت ببايدن إلى البيت الأبيض بعد أربع سنوات عاصفة من حكم ترامب، وتجلت في محاولة اقتحام الكونجرس لمنع اعتماد فوز الرئيس الديمقراطي.

اقتحام الكونجرس
اقتحام الكونجرس

بوصول نائب الرئيس السابق بايدن إلى سدة البيت الأبيض، عاد معه طاقم كامل من المعاونين والدبلوماسيين من فترة إدارة الرئيس أوباما، والذين كان موقفهم سلبيا للغاية من التغيير الذي شهدته مصر في 30 يونيو والإطاحة بالرئيس الإخواني السابق محمد مرسي، وما زالت لديهم قنوات اتصال مفتوحة مع قيادات الإخوان ويستمعون لهم بتعاطف في ظل مجهود مكثف يقوم بها محمد سلطان نجل القيادي الإخواني البارز صلاح سلطان، والذي وافقت السلطات المصرية على إطلاق سراحه بسبب جنسيته الأمريكية. هذه العناصر في إدارة بايدن الحالية مثل سامنثا باور مندوبة أمريكا السابقة في الأمم المتحدة والمسؤولة حاليا عن وكالة المعونة الأمريكية، وسوزان رايس مستشارة الأمن القومي السابقة، وآخرين كثيرين، كانوا وراء قرار ادارة أوباما بوقف المعونة العسكرية لمصر بشكل كامل تقريبا لمدة عام، والامتناع عن عقد آي لقاءات بين الرئيسين أو استضافة الرئيس المصري في البيت الأبيض بشكل سنوي كما جرت العادة مع الرئيس الراحل مبارك، ومع حلفاء مقربين آخرين لواشنطن في المنطقة مثل العاهل الأردني الملك عبد الله أو ملوك السعودية والإمارات. ولكن حتى أوباما الذي كان التقى شخصيا بمستشار الرئيس مرسي السابق للشؤون الخارجية، عصام الحداد، لم يتمكن من الاستمرار في تجميد المساعدة العسكرية لمصر واضطر لاتخاذ قرار باستئنافها، مع استمرار الفتور في التعامل مع الحكومة المصرية حتى خروجه من منصبه في يناير 2017.

الحكومة المصرية تعاملت مع القرار بمنطق “لقد رأينا ذلك من قبل” “We have seen it before”، ولذلك لا داعي للقلق

وبجانب العائدين من إدارة أوباما في إدارة بايدن الحالية، والذين دفعوا نحو اتخاذ قرار باقتطاع 300 مليون دولار من المساعدة العسكرية السنوية، تبنى نفس الموقف أعضاء في مجلس النواب من المحسوبين على التيار التقدمي والذين تمكنوا من تحقيق مكاسب كبيرة في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2020 ضمنت استمرار سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب، وكذلك عدد من المراكز البحثية المؤثرة المقربة من الديمقراطيين مثل بروكينجز وكارنيجي وما يعرف بـ”مجموعة العمل الخاصة بمصر”. هؤلاء اعتبروا الاكتفاء بتجميد 130 مليون دولار فقط من المعونة العسكرية لمصر بمثابة “خيانة” للبرنامج الذي أعلنه بايدن للفوز برئاسة الولايات المتحدة وأنه لن يقدم “شيكات على بياض” لحكومات يرى أنها “ديكتاتورية”.

الحكومة المصرية تعاملت مع القرار بمنطق “لقد رأينا ذلك من قبل” “We have seen it before”، ولذلك لا داعي للقلق، وستقوم إدارة بايدن إن عاجلا أو آجلا بالتراجع عن قرار تجميد الـ130 مليون دولار، والذي لن يعد غالبا أكثر من “زوبعة في فنجان” تعكس حالة الصراع الداخلي الذي تعيشه أمريكا إثر وصول بايدن والديمقراطيين لسدة الحكم. فالعناصر التي تضغط على بايدن للحد من علاقته مع الحكومة المصرية لم تمنع قيام الرئيس الأمريكي بمخاطبة الرئيس السيسي هاتفيا من أجل توجيه الشكر له على جهود القاهرة للتوصل لوقف لإطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل في يونيو الماضي، وذلك على الرغم من أنهم تمكنوا من تأخير هذه المكالمة لنحو أربعة أشهر كاملة، على عكس ما جرت عليه العادة في العلاقات الاستراتيجية والمتميزة بين القاهرة وواشنطن.

كما أن عدم توجه الرئيس السيسي لحضور الاجتماع السنوي للأمم المتحدة في نيويورك الذي بدأ أمس الثلاثاء، وتنظيم لقاء مع بايدن على هامش هذه الاجتماعات يعني أن الدفء لم يعود كاملا بعد في العلاقة بين البلدين، على عكس ما كان عليه الحال في ظل إدارة الرئيس السابق ترامب. المؤكد أن العلاقة الاستراتيجية بين البلدين ستستمر ولم يعد من الممكن تفكيكها في ظل تشابك هذه العلاقات وامتدادها لأكثر من أربعين عاما بين العديد من المؤسسات والمصالح الأمريكية ونظراءها في مصر.