يدخل التنافس الأمريكي الصيني منعطفًا خطيرًا في أعقاب سلسلة من الأزمات الجيوسياسية، آخرها أزمة الغواصات الأسترالية. والتي استدعت أجواء الحرب الباردة، مذكرة بأزمات جرت أحداثها خلال القرن الماضي، وكادت أن تودي بالعالم لحرب نووية مدمرة.
وفي الوقت الحالي يعيش العالم ما سماه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش “مواجهات فقط”. في ظل المنافسة المحمومة بين الصين والولايات المتحدة، خاصة مع تدشين بكين مشروع طريق الحرير. والذي يتوقع أن تسيطر من خلالها على ثلثي سكان العالم، وأهم طرق العالم.
صفقة الصواريخ
غير أن طموح بكين واجه نفوذًا أمريكيًا آخذًا في التركيز مع الصين، خاصة عندما تدخلت واشنطن لإلغاء صفقة تقدر بالمليارات. كان من المقرر خلالها بيع فرنسا غواصات تقليدية لأستراليا، ومنحها غواصات نووية بالتعاون مع بريطانيا. وذلك انطلاقا من موقع أستراليا المؤثر في بحر الصين الجنوبي. وذلك ضمن معاهدة أمنية تسمى “أوكوس”، تسعى إلى تعزيز الاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث توسع الصين قوتها العسكرية ونفوذها.
وعليه حذرت وسائل إعلام رسمية في الصين من أن أستراليا ستصبح “هدفاً محتملاً لضربة نووية”، بعد حصولها على غواصات تعمل بالطاقة النووية، وفقاً لصحيفة “ديلي ميل” البريطانية.
الانزعاج الصيني من الخطوة الأمريكية، ليس بغرض انهيار صفقة عسكرية، وفقما تصعد فرنسا ضد واشنطن حاليا. لكنها بالنسبة للصيت هي تحالف أمني موسع يهدد طموحاتها في المنطقة. وهو ما يرشح لمزيد من التوتر بين القوتين الكبيرتين، مع وجود أطراف أوروبية وغربية في خضم الأزمة.
المواجهة بين بكين وواشنطن، وسياسة الرئيس الصيني شي التي تميل إلى فرض السيطرة بالقوة، وتوالي الأزمات بين القطبين المتنفذين. ذكّر العالم بأجواء الحرب الباردة خلال منتصف القرن الماضي، بين المنافسين الأمريكي والروسي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية. إذ سعى القطبان لفرض نفوذهما على العالم، وكان من نتيجة ذلك تعدد المواجهات بينهما في أكثر من ساحة دولية، والتي تعد كوبا أبرزها.
أزمة أكتوبر.. الصواريخ الكوبية
بعد المحاولة الأمريكية الفاشلة للإطاحة بنظام كاسترو في كوبا بغزو خليج الخنازير، وبينما خططت إدارة كينيدي لعملية النمس. توصل رئيس الوزراء السوفيتي نيكيتا خروتشوف في يوليو 1962 إلى اتفاق سري مع رئيس الوزراء الكوبي آنذاك فيدل كاسترو. يجرى بموجبه وضع صواريخ نووية سوفيتية في كوبا؛ لردع أي محاولة غزو مستقبلية.
قبل ذلك، وحتى العام 1959 كانت كوبا الحليف الوثيق للولايات المتحدة تحت قيادة الديكتاتور اليميني الجنرال باتيستا. ومع استثمار أمريكي كبير في كوبا، كانت الولايات المتحدة المستهلك الرئيسي لما تنتجه كوبا من سكر وتبغ.
وفي عام 1959 أطيح بباتيستا في ثورة قادها فيدل كاسترو. وكانت إحدى أولى خطوات الأخير هي الذهاب إلى الولايات المتحدة لتأمين دعم واشنطن، لكن الرئيس أيزنهاور رفض التحدث معه. وداحل مكتب الأمم المتحدة بنيويورك تحدث كاسترو مع ممثلي الاتحاد السوفيتي الذين عرضوا دعمهم لحكومته الجديدة. وانضمت كوبا القريبة جغرافيا من واشنطن إلى القطب الشيوعي. وعلى إثر ذلك، قام كاسترو بتأميم جميع الشركات المملوكة لأمريكا في كوبا، وأصبحت بمثابة شوكة في حديقة الولايات المتحدة الخلفية.
قابلت الولايات المتحدة الخطوات الكوبية على مستويين، أحدهما اقتصادي حظرت فيه التعامل التجاري على السلع الكوبية. والآخر عسكري إذ لجأت لما عرف بحادثة خليج الخنازير عام 1961. وبعد تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، وافق جون كينيدي على خطة لغزو كوبا والإطاحة بالحكم.
صواريخ جوبيتر.. الاستدراج الأمريكي للحرب
في الحقيقة، فإن خطة الصواريخ الكوبية التي زرعها السوفيت في الحديقة الأمريكية الخلفية. جاءت كرد فعل على سياسة واشنطن الخارجية التي تميل لفرض سيطرة بلاده بالقوة. حيث توسع بشكل هائل في فرض القوة العسكرية الأمريكية، وعلى وجه التحديد النمو الهائل لقواتها النووية الاستراتيجية.
شمل ذلك ابتداءًا من عام 1961، نشر صواريخ نووية متوسطة المدى من طراز “جوبيتر” في إيطاليا وتركيا، المتاخمين للاتحاد السوفيتي. ومن هناك، يمكن أن تصل الصواريخ إلى جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي الغربي، بما في ذلك موسكو ولينينجراد. فضلا عن نشر صواريخ “ثور” في بريطانيا ضمن مشروع إميلي سنة 1958.
وبالنظر إلى التفوق النووي للولايات المتحدة حينها، اشتبهت موسكو في أن واشنطن تعتبر الضربة النووية الأولى خيارًا جذابًا. وبحسب صحيفة “ذا اتلاتنتك” الأمريكية، فقد كانوا محقين في ذلك الشك، حيث تكشف المحفوظات أن إدارة كينيدي نظرت بقوة في هذا الخيار خلال أزمة برلين عام 1961.
وكان لخبراء في الدفاع ونواب بالكونجرس نفس الرأي، إذ رأوا في نشر صواريخ جوبيتر تأثير مزعزع للاستقرار. فعلى سبيل المثال- وبحسب الصحيفة- أخبر السناتور ألبرت جور الأب، حليف الإدارة الديمقراطية حينها، وزير الخارجية دين راسك أن الخطوة تعد “استفزازًا” في جلسة مغلقة للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في فبراير 1961. وأضاف: “أتساءل ماذا سيكون موقفنا” إذا نشر السوفييت صواريخ مسلحة نوويًا في كوبا. كما أثار السناتور كلايبورن بيل حجة مماثلة في مذكرة سلمت إلى كينيدي في مايو من العام نفسه.
أكثر خطاب رئاسي رعبًا
وبعد عام من تلك الوقائع وجه الرئيس جون ف. كينيدي ما يجب اعتباره أكثر خطاب رئاسي رعبا في الحرب الباردة. حين قال: “حافظت هذه الحكومة، كما وعدت، على مراقبة أوثق التعزيزات العسكرية السوفيتية في جزيرة كوبا”.
وتابع: “خلال الأسبوع الماضي، أثبتت أدلة لا لبس فيها حقيقة أن سلسلة من مواقع الصواريخ الهجومية قيد الإعداد الآن في تلك الجزيرة المسجونة. والغرض من هذه القواعد لا يمكن أن يكون سوى توفير قدرة هجوم نووي ضد نصف الكرة الغربي”.
ذهب كينيدي ليشرح أن المسؤولين السوفييت كذبوا مرارًا وتكرارًا بشأن الحشد. وقال إن الولايات المتحدة كانت تطالب بإزالة جميع الصواريخ الهجومية من كوبا على الفور. وأعلن “الحجر” على كوبا، أي حصارها، معتبرًا أن أي صاروخ يتم إطلاقه من كوبا سيعتبر صادرا من قبل الاتحاد السوفيتي. وسيتطلب “ردا انتقاما كاملا” على الاتحاد السوفيتي.
حينها علم العالم أن الحرب النووية كانت محتملة ووشيكة، وذلك يوم الاثنين 22 أكتوبر عام 1962. وبالرغم من وجهة نظر وزير الدفاع روبرت ماكنمارا بأن الصواريخ السوفيتية “لم تغير على الإطلاق” “التوازن الاستراتيجي” فقد تم رفض خيار قبول نشرها كأمر واقع. وحتى لو لم تشكل خطراً عسكرياً جدياً.
وهم إدارة الأزمات
لكن أخطر لحظة في أزمة الثلاثة عشر يومًا، حدثت في وقت متأخر من بعد ظهر السبت، ولم تعرف الولايات المتحدة عنها شيئا إلا بعد 40 عامًا تقريبًا. حين جرى تعقب أربع غواصات سوفيتية في منطقة خط الحصار. ولم يكن أي أمريكي يعلم أن لكل منها طوربيدًا نوويًا على متنها، وكانت القيادات مصرح لها باستخدامه.
هذه الحوادث والأخطاء، بالإضافة لسوء الفهم الموثق في سجلات لجنة الأزمة التي عقدت وقتها، يوضح أن إدارة الأزمات خرافة. بحسب موقع الوثائق التأسيسية للولايات المتحدة، الذي يرى أن العيب الأساسي في هذا المفهوم هو أن المعلومات الدقيقة، وهي العنصر الأكثر أهمية في التعامل مع أي أزمة خطيرة، غير متوفرة.
في 24 أكتوبر، رد خروتشوف على رسالة كينيدي التي يطالبه فيها بتفكيك الصواريخ، ببيان أن “الحصار” الأمريكي كان “عملاً عدوانيًا”. وأن السفن السوفيتية المتجهة إلى كوبا سيُطلب منها المضي قدمًا.
ومع ذلك، خلال 24 و25 أكتوبر، عادت بعض السفن من خط الحجر، فيما أوقفت القوات البحرية الأمريكية آخرين. كما أشارت رحلات الاستطلاع الأمريكية فوق كوبا إلى أن مواقع الصواريخ السوفيتية على وشك الاستعداد التشغيلي. مع عدم وجود نهاية واضحة للأزمة في الأفق.
محاولات لإنهاء الأزمة
في 26 أكتوبر، أخبر كينيدي مستشاريه أنه سيشرع في هجوم أمريكي على كوبا من شأنه أن يزيل الصواريخ. لكنه أصر في الوقت نفسه على منح القناة الدبلوماسية مزيداً من الوقت، وبدا أن الأزمة وصلت إلى طريق مسدود فعلي.
لكن بعد ظهر ذلك اليوم، اتخذت الأزمة منعطفاً دراماتيكياً. حين أبلغ مراسل ABC News جون سكالي البيت الأبيض أن عميلاً سوفيتيًا اتصل به. وهو ما يعني إمكانية التوصل إلى اتفاق يزيل السوفييت بموجبها صواريخهم من كوبا إذا وعدت الولايات المتحدة بعدم غزو الجزيرة.
بينما سارع موظفو البيت الأبيض لتقييم صحة عرض “القناة الخلفية”، أرسل خروتشوف رسالة إلى كينيدي مساء 26 أكتوبر. مما يعني أنه تم إرسالها في منتصف الليل بتوقيت موسكو. وكانت رسالة عاطفية طويلة أثارت شبح المحرقة النووية بحسب تعبير موقع “اوفيس اوف ذا هيستوريان”، وقدمت قرارًا مقترحًا يشبه بشكل ملحوظ ما ذكره سكالي في وقت سابق من ذلك اليوم. ودعا إلى التهدئة والوصول إلى حل بعيدا عن الحرب.
الثقة في الدبلوماسية
رغم أن الخبراء الأمريكيين كانوا مقتنعين بأن رسالة خروتشوف حقيقية، إلا أن الأمل في التوصل إلى حل لم يدم طويلاً. ففي اليوم التالي 27 أكتوبر، أرسل خروتشوف رسالة أخرى تشير إلى أن أي صفقة مقترحة يجب أن تشمل إزالة صواريخ جوبيتر الأمريكية من تركيا. وفي نفس اليوم أسقطت طائرة استطلاع أمريكية فوق كوبا، كما استعد كينيدي ومستشاروه لشن هجوم على كوبا في غضون أيام.
وفي محاولة البحث عن أي حل دبلوماسي متبقي، تقرر أن كينيدي سيتجاهل رسالة خروتشوف الثانية ويستجيب للرسالة الأولى. حلال تلك الليلة، اقترح كينيدي في رسالته إلى الزعيم السوفيتي خطوات لإزالة الصواريخ السوفيتية من كوبا تحت إشراف الأمم المتحدة. وضمان عدم مهاجمة الولايات المتحدة لكوبا.
كانت خطوة محفوفة بالمخاطر لتجاهل رسالة خروتشوف الثانية. ولكن لقاء رتب له بين شقيق الرئيس الأمريكي المدعي العام روبرت كينيدي سرًا مع السفير السوفيتي لدى الولايات المتحدة، أناتولي دوبرينين، ساهم في نجاح محاولات التهدئة.
وأشار إلى أن الولايات المتحدة كانت تخطط لإزالة صواريخ جوبيتر من تركيا على أي حال. وأنها ستفعل ذلك قريبًا، لكن هذا لا يمكن أن يكون جزءًا من أي حل عام لأزمة الصواريخ. وفي صباح اليوم التالي 28 أكتوبر، أصدر خروتشوف بيانًا عامًا مفاده أن الصواريخ السوفيتية سيتم تفكيكها وإزالتها من كوبا.
انتهت الأزمة لكن الحجر البحري استمر حتى وافق السوفييت على إزالة قاذفاتهم من كوبا. وفي 20 نوفمبر 1962، أنهت الولايات المتحدة الحجر، وتمت إزالة صواريخ جوبيتر الأمريكية من تركيا في أبريل 1963.