تشهد كثير من البلدان العربية مراوحة حول الموقف من قضية بناء دولة القانون والديمقراطية، عكست أزمة أكثر عمقًا وتعقيدًا من الثنائيات المبسطة التي اختزلت الصورة في الديمقراطيين الطيبين والمستبدين الأشرار. في حين أن الواقع العملي يقول إن هناك حالات من الفوضى والانقسام وعدم القدرة على الإنجاز تؤدي إلى تزايد قوة التيار الشعبي. الذي يبحث دائمًا عن “المُخلِّص النزيه” أو “المستبد العادل” نتيجة فشل النخب الحزبية والسياسية في حل مشاكل الناس وتكالبها على تحقيق مصالحها الخاصة، ولو على حساب مصالح الوطن.
هذا الحديث استمعنا إليه كثيرًا في العراق والسودان وتونس ومصر، فالعراقيون الذين تظاهروا في الحراك الشعبي ودافعوا عن الدولة المدنية رفعوا شعار “كلا كلا للأحزاب”، معلنين رفضهم أحد العناصر الأساسية للنظام الديمقراطي وهو الأحزاب السياسية. وأن التوافق على رئيس حكومة قادم من مؤسسات الدولة الأمنية وليس من الأحزاب يعكس أيضًا أزمة القوى والأحزاب السياسية التي دافعت عن مصالحها الضيقة عن طريق تكريس نظام المحاصصة الطائفية. كما أن التيار الواسع الذي أيد قرارات الرئيس قيس سعيد (القادم من خارج الأحزاب) في تجميد عمل البرلمان عكس أيضًا أزمة أداء الأحزاب، وعلى رأسها حركة النهضة.
كما أن تزايد السخط الشعبي على أداء المكون المدني في السودان نتيجة صراعات أحزاب وفصائل قوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة، واتجاه قطاع واسع من الناس إلى دعم المؤسسة العسكرية؛ متصورة أنها يمكن أن تواجه الفوضى وغياب الأمن والانهيار الاقتصادي بالصرامة والانضباط. ولعل السجال الذي يشهده السودان عقب محاولة الانقلاب الفاشلة بين المدنيين والعسكريين تبدو متكررة في أكثر من بلد عربي، فإذا غيرنا الشكل والأسماء وركزنا في المضمون سنجد أن ما قاله رئيس المجلس الرئاسي السوداني (الفريق البرهان) عن ضعف الأحزاب المدنية وتكالبها على السلطة على حساب مصالح الوطن، هو تقريبًا نفس مضمون ما قاله قيس سعيد في تونس عن البرلمان والنخب الحزبية، وما يتكرر في العراق ضد الأحزاب وما يقوله أنصار خليفة حفتر بحق أحزاب طرابلس وميليشياتها، كما أن “المشهد المصري” تشكل عقب فشل المجتمع بنخبته وأحزابه وسلطته الحاكمة في وضع البلاد على مسار تحول ديمقراطي في أعقاب ثورة يناير؛ وهو ما أعطى مادة حية ومبررًا عمليًا لملايين المصريين أن ينتفضوا في وجه الإخوان، ويطالبون الجيش بالتدخل للتخلص من حكمهم لأنهم اقتنعوا أن الديمقراطية هي التي أوصلت الإخوان للسلطة، ولكنها لم تسعفهم من أجل التخلص منهم.
والحقيقة أنّ الحضور السياسي لقوى النظام العام والانضباط، سواء كان ممثلها مدنيًا أو عسكريًا، أو انتظار الرئيس المُخلِّص ترجع لفشل أو تعثر المسار السياسي الديمقراطي وانقسام قواه الأساسية، فالعالم العربي تعيش كثير من تجاربه ثنائية: مسار ديمقراطي مأزوم فيه كثير من الثرثرة وقليل من الإنجاز في مقابل مشاريع “المخلصين” المأزومة أيضًا؛ لأن بريقها على حس تعثرات المسار الأول.
إن سؤال استحقاق الديمقراطية ودولة القانون هو سؤال يتعلق بالواقع المعاش، ومدى وعي الأطراف السياسية بطبيعة أزماتها، والتحديات التي تقف أمامها إذا أرادت أن تأخذ مساحة جديدة في صناعة مستقبل أي بلد عربي.
فلنا أن نتصور كيف سيكون عليه حال بلد مثل مصر إذا قررت السلطة أن ترفع قيودها وأدوات الإجبار عن المسار السياسي والحزبي، فالنتيجة ستكون صراعًا مفتوحًا بين النخب السياسية المدنية سيدفع الشعب مرة أخرى إلى الاستنجاد بقوى النظام العام والانضباط للتخلص من هذا العبث والسجالات العقيمة.
يكفي متابعة ما يجري على مواقع التواصل الاجتماعي “الحرة” من معارك واتهامات وحملات تخوين وتكفير، تبدأ من حروب الأهلي والزمالك، وتنتهي بحمل مفاتيح الجنة والنار لكل شخص كان له دور سياسي عقب ثورة يناير، من حسني مبارك حتى حسين طنطاوي (رحمهما الله) ويغيب أيّ حديث عن المستقبل أو طرح أفكار بديلة للسياسات الموجودة وغيرها من القضايا.
يقينا إن تغيير سيطرة معادلة سلطة الوصاية أو القوة الجبرية والانضباط ستكون حين تقدم القوى المدنية في السودان وتونس ومصر وغيرها نماذج نجاح، وتصنع مؤسسات وتطرح سياسات بديلة وتقدم نموذج لديمقراطية الإنجاز وليس ديمقراطية الثرثرة.
على المجتمع أن يتحرك في ظل ظروف صعبة في مصر من أجل أن ينظِّم نفسه في نقابة أو اتحاد ملاك أو حزب سياسي أو جمعيات أهلية، ويواجه ضعف الأحزاب المدنية، ويدفعها إلى التوقف عن إدارة خلافاتها على أساس شخصي وثأري، وجعل الشعب والمجتمع والنخب المدنية رقمًا في معادلة الحكم واستعادة الشراكة بين “الشعب المدني”، وأجهزة الدولة وفي القلب منها المؤسسة العسكرية.
إذا أراد الشعب والمجتمع بأحزابه وقياداته المدنية أن يشارك في صنع مستقبله؛ فعليه أن يقدم “أمارة” تدل على أنه بنى شيئًا يحمل في طياته بذور النجاح، والقدرة على مشاركة أجهزة الدولة في الحكم وإدارة شؤون البلاد، ولو بتقاليد مهنية أو مؤسسية أو أفكار بديلة.
ستبقى كثير من تجارب العالم العربي محكومة بهذين المسارين، وما لم يعي كل المؤمنين بالديمقراطية ودولة القانون أن الطريق لتحقيقها طويلاً ووعرًا، وأنه لن يكون بالضرورة عبر الأحزاب والنظام البرلماني، إنما قد يكون أيضًا عبر مصلحين حقيقيين قد نراهم في داخل مؤسسات الدولة أو من خارجها.
من المؤكد أن الوصول للديمقراطية لن يكون بالضرورة عن طريق الأحزاب التي تقول عن نفسها مدنية وديمقراطية، كما أن الاستبداد لن يكون حتميا على يد قوى الانضباط والنظام العام، فالمؤكد أن المشهد الحالي يعطي فرصًا شبه متساوية للجانبين، صحيح أن مخاطر الاستبداد واردة بصورة أكبر مع تيار النظام العام والانضباط ومخاطر الفشل واردة بصورة أكبر مع التيارات المدنية والديمقراطية، وقد يكون الحل هو شراكة انتقالية بين الجانبين توصل البلاد إلى بر الأمان التي ستحققها دولة القانون والديمقراطية.