جوهر تهديد تكنولوجيا الإنترنت فى مجال الإعلام الإلكتروني لـ”الإعلام التقليدي”، “المقروء، المسموع، المرئي”، فى كونها التكنولوجيا الأكثر تطوراً، حتى الآن، فبعكس كل التكنولوجيات السابقة، بما فيها تكنولوجيا الستالايت “الأقمار الاصطناعية”، أصبحت تكنولوجيا “الإعلام الإلكترونى” تعطي للمستخدم مروحة واسعة من الخيارات والمزايا الفريدة، فبالإضافة لكونها تسمح للمستخدم بالمشاركة دون الحاجة لوسيلة تكنولوجية أخرى، مثل تلك التي يحتاجها المشارك في البرامج الفضائية من خارج الاستوديو، مثلاً، أيضاً أعطته إمكانية امتلاك أرشيف لا نهائي للغالبية العظمى من المواد الإعلامية التي سبق بثها على شبكة الإنترنت، هذا بالإضافة لإلغائها الحدود الجغرافية للبث والتلقي، إذ إن مجالها هو مجال الكون كله “global”، على العكس من فضائيات الأقمار الاصطناعية التي تغطي جزءًا فقط من الكرة الأرضية، وفى مجال الحريات العامة والخاصة، حرية الرأى والتعبير، كان الفتح العظيم لتكنولوجيا الإنترنت أنها ألغت “تقريباً” الرقابة على النشر، الصخرة التى تحطمت عليها الكثير من الابداعات الجريئة الرائعة الملهمة، لقد فتحت الآفاق الواسعة لحرية الرأى والتعبير.

تكنولوجيا الإنترنت، تحطيم سلطة النشر:

الإعلام التقليدي الديكتاتوري، الإنترنت الديمقراطى!

دائماً ما كانت المعضلة الرئيسية التي تواجه حرية الصحافة والإعلام، حرية الرأى والتعبير، فى الإعلام المكتوب، المسموع، المرئي، هي حرية النشر “البث”، وليست حرية التحرير، فممثل سلطة النشر فى أي مؤسسة إعلامية هو من يمتلك الحق “المطلق” فى نشر أو عدم نشر أي مُحرَر أياً كانت قيمته؛ ليس المهم ماذا تكتب، وإنما المهم أن يجد ما تكتبه طريقه للنشر “البث”، وإلا فقد أي قيمة آنية له، وتحول إلى قيمة تحريرية مؤجلة، قد تجد يوماً طريقها للنشر، أو في الأغلب، لا ترى النور أبداً؛ بدون نشر، المحرِر غير موجود أصلاً.

بعد أن كان كل الإعلام التقليدي، ذا اتجاه واحد مسيطر، جاء “الإعلام الإلكترونى” ذو اتجاهين، وبعد أن كان الإعلام التقليدي، المسيطر والمسيطر عليه “الرقابة”، هو فقط من يرسل وعلى الجميع الاستقبال فقط، أصبح للجميع، مع الإنترنت، الحق فى الإرسال والاستقبال و”بدون رقابة” تقريباً، لذا كان الإنترنت منذ البداية “اختراع” بغيض لدى كل الأنظمة التي اعتادت  أنها وحدها هى التى “ترسل” ولا يحق للآخرين سوى الاستقبال فقط، لقد حطم الإنترنت سلطة النشر، ومعها حطم السلطة “المعنوية” الشمولية والديكتاتورية، سواء للأفراد أو للأنظمة.

الإنترنت كمصدر غير رسمى للمعلومات، ولكن لا يقاوم!

أدت التغيرات التكنولوجية الهائلة في العقود الماضية، خاصة فى وسائل الاتصال والإعلام، إلى إيجاد فرص جديدة لحرية الرأى والتعبير، وحرية تداول المعلومات، ولاكتساح وسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، وتجاوز ثالوث التابو، الجنس، الدين، السياسة، وظهور ما يمكن أن يطلق عليه “المواطن الناشر”، وهو دور نوعي جديد للمواطن، أخطر وأكثر تأثيراً بما لا يقارن بدور التسمية غير الدقيقة بـ”المواطن الصحفى”، باعتبار أن حرية النشر وليس حرية التحرير، هى مربط الفرس فى إشكالية حرية الرأى والتعبير، لتأخذ سلطة “المواطن النشر” منحى تاريخياً جديداً، يتجاوز نوعياً كل أشكال التمثيل النيابي “الرقابي/التشريعي” أو الإعلامى السابقة، حيث أصبح المواطن أكثر قدرة على التعبير وتمثيل نفسه بنفسه، بشكل أكثر مباشرة.

الإنترنت كمصدر للمعلومات
الإنترنت كمصدر للمعلومات

وفي مصر بدأت قصة فرض الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعى، عندما قررت وزارة الداخلية فرض “قبضة أمنية إلكترونية” على شبكات التواصل الاجتماعي، وطلبت من شركات عالمية نظاما إلكترونيًا لرصد “المخاطر الأمنية لشبكات التواصل الاجتماعي” وقال مسؤول في وزارة الداخلية لرويترز إن “المراقبة العادية لمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع، لم تعد كافية مع الزيادة الكبيرة في استخدامها خلال السنوات الماضية.!”(1(

الشباب أكثر الفئات حساسية للرقابة

إن المنافسة الشديدة، بين “الإعلام الإلكتروني” و”الإعلام التقليدي”، أوضحتها كل استطلاعات الرأي، التي أشارت إلى أن الوقت الذي يمضيه الناس ولا سيما الشباب- الأكثر حساسية للرقابة، والأكثر ميلاً للحرية – على الإنترنت، أطول من الوقت الذي يمضونه على وسائل الإعلام التقليدية بما فيه الفضائيات.

من المؤشرات الدالة، مثلاً، شركة “فيسبوك”، تحظى بمتابعة 2,8 مليار مستخدم حول العالم (2021)، يشكلون نسبة تصل إلى 36% من إجمالي عدد سكان العالم المقدر تعداده حوالي 7.8 مليار نسمة؛ وكانت قد حققت صافى ربح 2,94 مليار دولار عام 2014.

وتعتبر مصر هي الأولى في الشرق الأوسط استخداماً لـ”فيسبوك”، حيث وصل عدد مستخدمي الموقع  38 مليون مستخدم، حتى أكتوبر 2017، فيما كان يبلغ 35 مليون مستخدم في ديسمبر 2018 حسب “Internet World Stats”.

وبلغ عدد مستخدمي الإنترنت في مصر نحو 49,231,493 مستخدم، في يونيو 2019، في حين قدرّتهم وزارة الاتصالات بأكثر من 40 مليون مستخدم بنهاية العام المالي 2018 -2019.

كما أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فى أغسطس 2019 بياناً صحفياً جاء فيه:

طبقاً لتقديرات السكان عام 2019، بلوغ  عـدد الشباب في الفئة العمرية (18 ـ 29 سنة) 20,2 مليون نسمة بنسبة 21% من إجمالي السكان  (50,6% ذكور ،49,4% إناث).

وبلغت نسبة مستخدمي شبكة الإنترنت من الشباب 62%، ويعد (الفيس بوك، تويتر) من أهم وسائل التواصل الاجتماعي بين الشباب عبر الإنترنت وبلغت نسبة مستخدميه 97,7% من إجمالي الشباب مستخدمي الإنترنت.

ويشير الجهاز إلى أن 99,9% من الشباب في الفئة العمرية (18-29 سنة)  يستخدمون الهاتف النقال  99,9% لكل من الذكور والإناث.

الإنترنت كفرصة “مستقبلية”، لاستعادة القوة الناعمة المصرية!

القوة الناعمة المصرية، السينما/ الأغنية/ الإعلام/ الرياضة/ الآدب/ العلم والبحث العلمى/ التعليم/ الطب/ الدبلوماسية .. إلخ، استطاعت بعض الأنظمة الإقليمية، أن تلعب دوراً جوهرياً فى تقليص القوة الناعمة المصرية إلى حدودها الدنيا، وبخلاف كونها كانت تنفذ ذلك لأهداف تنافسية إقليمية، لكنها بالأساس كانت تتناغم “تنفذ” فلسفة وسياسات حكام عالم اليوم، “العولمة”، التي تسعى لمحو الحدود والهوية والثقافة الوطنية، لتتحول الدول إلى مجرد سوق مفتوح للشركات والمؤسسات المالية العابرة للحدود؛ وليس صدفة، أن هذه المحاولات الإقليمية لضرب قوة مصر الناعمة، كانت فى نفس تاريخ انطلاق النسخة الأعلى من العولمة “النيوليبرالية الاقتصادية”، فى بداية سبعينات القرن الماضى، وقد جاءت تكنولوجيا الإنترنت كفرصة، إذا قدر لها استغلالها، لأن تستعيد مصر- فى المستقبل- قوتها الناعمة، أو على الأقل جزءًا منها، فعناصر الميزة النسبية “البترودولار”، للقوى الإقليمية – المعادية للثقافة والهوية المصرية، قوتها الناعمة- والتي سمحت لها بتقليص قوة مصر الناعمة إلى حدها الأدنى، جاءت تكنولوجيا الإنترنت لتقليص قوة هذه الميزة النسبية إلى حدها الأدنى، على الأقل فى مجال القوى الناعمة.

هل يمكن أن يشكل “الإعلام الإلكتروني” نموذجًا اقتصاديًا قادرًا على الحياة؟

لكى يحدث الإنترنت تحولاً جذريا فى مجال الإعلام، ويتحوَّل إلى ثورة حقيقية فى مسيرة الإعلام، لابد لـ”الإعلام الإلكترونى” من “الاستقلال الاقتصادي”، فهل يستطيع؟، كل المؤشرات تجيب بنعم. هناك نموذج اقتصادي يرتكز بالكامل على منصات الفيديو، على رأسها “يوتيوب” التابعة لـ”غوغل”، وهى من دون شك أوسع انتشارا من السينما أو التلفزيون، ففي الولايات المتحدة، يستحوذ التلفزيون المباشر “الإنترنت” على 47% من الوقت الذي يمضيه المشاهدون في مشاهدة البرامج التلفزيونية التي يزداد عدد متابعيها عبر الإنترنت في وقت لاحق لعرضها الأول؛ وبحسب موقع “إنترنت لايف ستاتس”، يتم كل ثانية مشاهدة حوالى 120 ألف فيديو على “يوتيوب”، أي أن الأعمال المعروضة على المنصة تشاهد آلاف المليارات من المرات في السنة.

وخلال السنوات الأخيرة أصبح سوق الإعلانات يتجه بقوة نحو الإنترنت، وكذلك البيع والتسويق عبر الإنترنت، وهو ما يمثل أساسًا ماديًا “اقتصاديًا” ليس فقط لتغذية قابلية “الإعلام الإلكترونى” للحياة، بل إيضاً فى السيطرة على سوق الإعلام، إلا أنه فى المقابل هناك دعم يتلقاه الإعلام التقليدى، بما فيه الفضائيات، من الجهات الحريصة على استمرار سيطرتها على وعى الناس من خلال سيطرتها على هذا الإعلام التقليدي، ويأتي هذا الدعم من جهتين، أما من الشركات والمؤسسات المالية العابرة للجنسيات، حكام عالم اليوم، أو من الأنظمة الشمولية التى يعتبر الإعلام التقليدي هو أحد أسلحتها الثقيلة في الحفاظ على الوضع القائم في مواجهة حركات التغيير.

 المستقبل للفضائيات الهجين، “”Hybrid “ستالايت/ إنترنت”

إن الإقبال الصاروخى على البث عبر الإنترنت- خاصة بين الشباب، الذى يمثل مركز ارتكاز القوة الشرائية للأسر- يجبر البث الفضائي على التطور،  أن المنافسة شديدة، خصوصاً أن استطلاعات الرأي تظهر أن الوقت الذي يمضيه الناس ولا سيما الشباب على الإنترنت أطول من الوقت الذي يقضونه أمام التلفزيون .. إلا أنه، على الأقل، فى المدى المنظور، خلال العقود القليلة القادمة، ستظل القنوات الفضائية فى البلدان والمناطق الفقيرة، ومنها مصر، الأكبر فى المنطقة العربية، وبها الغالبية العظمى من السكان، تحت أو حول خط الفقر، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الأمية (أكثر من ربع سكان مصر، وفقا للإحصائيات الرسمية)، ولأن استخدام الإنترنت، حتى الفيديو منه مثل اليوتيوب أو البث المباشر على المنصات الأخرى مثل فيس بوك، يحتاج إلى حد أدنى من التعليم “القراءة والكتابة”، فستظل الفضائيات تمثل النسبة الأكبر من مشاهدة عموم السكان، سواء فى مصر أو فى المناطق والبلدان الفقيرة؛ بالإضافة إلى مساهمة التكلفة المالية لاستخدام الإنترنت، فى تأكيد هذا الاتجاه، فبالرغم من أن إنتاج الإعلام التقليدى مكلف جداً، إلا أن استخدامه “تلقى البث” يتم مجاناً فى دول العالم الثالث، لأسباب سياسية وأمنية، فى حين أن “الإعلام الإلكترونى”، برغم أن تكلفة إنتاجه أقل بما لا يقاس، وفى أغلب الأحيان بدون تكلفة تذكر، لكن استخدام الإنترنت يحتاج إلى دفع اشتراكات.

على رأى المثل المصرى “اللى اتلسع من الشوربة، ينفخ فى الزبادى”، بعد رؤية الثور الأبيض وهو يذبح، لابد وأن يكون الثور الأحمر قد تعلم الدرس، هذا هو حال الفضائيات بعد أن رأت ما جرى للصحافة الورقية.

لقد لجأت الفضائيات تدريجياً الى “اقتناص” أجزاء من “الإعلام الإلكترونى”، فبعد أن أنشأت لها مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت، أخذت تبث من خلالها نسخة من بثها الفضائي، وكذلك قامت بأرشفة بثها على موقعها الإلكترونى، بحيث يمكن للمستخدم الرجوع للمواد التي سبق بثها، فى الوقت المناسب له، فمثلاً، موقع الـ”بي بي سي”، أصبح ما نشاهده على المحطة من برامج هو جزء بسيط مما يمكننا الوصول إليه عبر موقعها الإلكترونى، فلديها موقع شامل، مؤسسة إعلامية متكاملة صار التلفزيون والإذاعة جزءاً منها فقط، والحال مشابه في معظم، إن لم يكن فى كل، المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية الأخرى.

لقد أصبحت القنوات الفضائية تعدو لتلحق بسرعة “الإعلام الإلكترونى”، فتتسابق لتلحق به فى سرعة الوصول إلى الخبر والتفاعل معه، ومع ما توفره الأجهزة الإلكترونية المرتبطة بالإنترنت من فرص، مثل الهواتف الخلوية المزودة كاميرات؛ إن الفضائيات بشكلها السابق تتحول تدريجياً نحو الإنترنت، حتى تأتى اللحظة الى يصل فيها العلم إلى التطور التكنولوجى الذى يجمع تكنولوجيا الستالايت بتكنولوجيا الإنترنت فى تكنولوجيا جديدة واحدة، هجين”Hybrid”، يتغير البث الفضائي كما عهدناه، ويصير الإرسال التلفزيوني يصل إلى المنازل عبر شبكة الإنترنت، بالتكنولوجيا المعدلة “الهجين”.

المصادر:

(1)رويترز