في لحظة تجد منشورًا أو خبر ينتشر كالنار في الهشيم، في العادة يكون المحتوى يخص استغلال جسدي/ تحرش/ إنكار نسب. لكن الأمر ما يلبس أن يختفي من دائرة الضوء التي صارت تنتقل بسرعة من موضوع إلى موضوع فيما عُرف بالترند. غير أن تلك المنشورات يظل أثرها على النساء، بينما يختفي الأثر فيما يخص الرجل، وهذا الأمر يجعلنا نرجع لأصول عملية التجريس أو التشهير.

عرفت مصر فعل التجريس منذ الفاطميين، حيث قام الفاطميون بالتشهير بخصومهم  السياسيين، بحيث يتم إركاب الشخص المراد النيل منه حمارًا ويسير معه أحد العاملين ومعه جرس لينبه الناس، فتقوم الناس بسب أو ضرب الشخص الذي يتم التشهير/ التجريس به، وقد استخدم فعل التجريس في بعض الأوقات ضد التجار الذين يغشون، فاستخدم التجريس كعقوبة اجتماعية لمن يقوم بفساد ما، لكن يظل أن منشأ الفعل كان سياسي بالأساس.

التجريس عند الفاطميين

ظل التجريس عقوبة للرجال، ومع دخول النساء الساحة السياسية بنضال أو حركات تحرر انتقل التجريس والتشهير من عقوبة تُوقّعّ على الذكور لتُصبح من نصيب المرأة، كما أصبح محتوى التجريس أخلاقي ليكون عقوبة اجتماعية تستهدف الاستبعاد واضعاف قيمة وأهمية المرأة التي يتم بحقها التجريس والتشهير.

وأعتقد أن الخوف من التجريس الدافع وراء ظهور عادة الدخلة البلدي التي كانت السائدة لفترة طويلة، ومازالت موجودة في بعض المناطق، حيث يحمل أهل الفتاة المنديل الذي سقطت عليه دماء بكارتها، ويجوبون به المنطقة التي يعيشون فيها مع الطبل والغناء ولعل أشهر الأغاني التي أنتجها الوعى الشعبي “يا حلوة يا بلحة يا مقمعة شرفتي أخواتك الأربعة” حيث إثبات الأخلاق والشرف أصبح فعل استباقي للنجاة من التشهير والتجريس، في حين أن الرجل الذي يعاني ضعف جنسي على سبيل المثال لا يلقي مثل هذا التشهير أو التجريس.

لماذا تدفع النساء الفواتير؟

عقب بعض الأخبار التي تخص وقوع إحدى النساء ضحية استغلال/ انتهاك جسدي بصورة أو أخرى، تجد التعليقات تسعى لتفنيد منطقية حكي الضحية، في حين أن هناك انحياز استباقي لدى الغالبية مع الرجل، وليس هناك مثل أكبر من ظهور عبارات “ايه اللي وداها هناك- راحت بمزاجها – شوف لابسة ايه.. ) إلى غير ذلك من الجمل التي تقولها بعض النساء بنفس القوة التي يقولها رجال، ومن ثم فإن على الضحية الصمت حتى لا يتم عقابها مجددًا بعملية تجريس لا يختفي أثرها وإن حدث تناسي مؤقت.

في حين أن غالبية الوصمات الأخلاقية الخاصة بالرجال، تختفي بعد فترة، بل غنه أحيانا يعود أحدهم عودة الفاتح، وبالتالي فإن التجريس والتشهير الذي نشأ كعقوبة ذكورية انتقلت واستقرت في حيز النساء.

لسنا ناجيات

المرأة التي تتعرض لاعتداء جنسي بأى صورة هي ليست ناجية، بل تظل تعاني تبعات ما تعرضت له، صحيح أن القدرة على حكي ما حدث جزء من التعافي، لكن تظل لديها ندبة في روحها، وكل حسب قدرتها ومهارتها للإفلات من الألم.

المنشورات النصية أو مقاطع الفيديو التي تحكى عن وقائع انتهاك أو حتى تلك الأخبار المنشورة تصب غالبها نحو تشويه سمعة المرأة، وليس العكس، ففي مناقشة مع صديقات، كنت أدعم أن تحكي الفتيات والسيدات عن وقائع الانتهاك والاستغلال الجسدي، وكانت صديقة ضد الحكي المعلن للجميع، ذلك لأن السمعة الأخلاقية للمرأة تتأثر سلبًا برغم كونها ضحية.

وذكرت صديقتي أمثلة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها لرجال كانوا موضع الاتهام في حوادث من تلك النوعية، وكان لديهم مدافعين عنهم، وبعد فترة نسى الناس ما حدث وفقط تذكروا المرأة، وهو أيضا ما يحدث في قضايا إنكار النسب، إذ تظل  المرأة تدفع الثمن ومن بعدها طفلها أو طفلتها، فعن أي نجاة نتحدث؟

وبرغم واقعية وجهة نظر صديقتي، لكن ماذا تملك المرأة غير الحكي في واقع منحاز ضدها فعلا وقولا وقانونا، ولا يُحدثني أحد عن قوانين المرأة فقط ليذهب أحدكم لتتبع قضية من تلك القضايا ليعرف بنفسه حجم المعاناة التي تجنيها المرأة في كل المراحل بدء من تعرضها للأذي مرورًا بطريق اثبات حقها والذي قد يفشل في بعض الأحيان، وانتهاءً بوقوعها أثر سمعة، وأنها غير موثوق بها لأنها تحدثت عن أذى، نحن النساء لسنا ناجيات، وعلينا أن نجد طرقًا ونُصر عليها، حتى وإن استخدمت بعض النساء تلك الطرق بشكل انتقامي أحيانا، لكنه مع الوقت والتراكم ربما ينصلح الحال.