تدخل وزارة التربية والتعليم، العام الدراسي الجديد، منقوصة من أحد أهم أسلحتها، بعجز واضح في عدد المدرسين بجميع التخصصات. بلغت نسبته 320 ألف مدرس، في وقت تبدو حلول الوزير، وإن كانت من خارج الصندوق، مجرد تسكينات لأزمة تتفاقم أمام أعين الجميع.
أزمة نقص المعلمين ليست وليدة اللحظة، بل متصاعدة، فبداية العام الدراسي الجديد هو فقط تذكير للوزارة بأزمتها الحرجة. فالعجز بدأت الوزارة تشعر به منذ 2017، حينما كان عدد المدرسين 992 ألفا و 797 مدرسًا. بينما يتجاوز عدد الطلاب الـ20 مليون تلميذ. أما الآن يقدر أعداد المعلمين بنحو 1.187 مليون مدرس، في حين يبلغ عدد الطلاب 22 مليونا. أي نحو مدرس لكل عشرين طالبًا، حسب تصريحات لوزير التعليم طارق شوقي.
يعزو شوقي أسباب العجز إلى اتجاه المعلمين للعمل بوظائف إدارية، وترك مهنة التدريس، وتفرغ آخرين للعمل بالمدارس الخاصة. وأمام هذه المشكلة، تحاول الوزارة سد الفراغ بحلول بعضها متكرر مثل التعاقدات المؤقتة كمسابقة 120 ألف معلم. والتي تنتهي بنهاية العام الدراسي. وأخرى يراها البعض ابتكارية، رغم ما فيها من نظرة التواضع إلى مهنة التدريس، بإعلان فتح باب التطوع للعمل بالمدارس الحكومية. وذلك من خريجي كليات التربية وحملة المؤهلات التربوية، والتخصصات الموازية، بالحصة الواحدة، مقابل 20 جنيها.
قوبل هذا القرار بالتأييد كحل مؤقت للأزمة في ظل عدم قدرة الدولة على تدبير رواتب جديدة على الموازنة العامة. بالتالي زيادة أعباء مالية إضافية، وتعرض أيضًا لانتقادات من البعض الآخر. حين اعتبره بعض المهتمين بالشأن التعليمي نوعًا من التسرع والتخبط. خاصة أنه جاء قبيل بداية العام الدراسي بأيام قليلة ولا يعطي وقتا كافيا لتدريب وتأهيل المتطوعين بالعمل في التدريس قبل إقحامهم في العملية التعليمية.
حل من خارج الصندوق
الدكتور سعيد شكري، باحث بالمركز القومي للامتحانات وخبير تربوي، اعتبر قرار التطوع فكرة خارج الصندوق وطريقة غير تقليدية لمواجهة العجز. باعتبار أن الموازنة العامة للدولة لا تحتمل أي أعباء إضافية لتدبير بند أجور جديد.
أما افتقاد المتطوع للخبرة الكافية بمجال التدريس، فيراها شكري “ليست عيبًا”، باعتبار المتطوع يحل أزمة مؤقتة، وليس معلمًا مستديما. كما أنه سيعمل في إطار مجموعات لديها خبرة، وغالبًا سيكون جميع المتطوعين أو العاملين بهذا النظام من خريجي كليات التربية. وهؤلاء سبق لهم أن تدربوا عمليًا خلال الدراسة على العمل بالمدارس.
ويدافع شكري عن فجائية القرار الذي يسبق الدراسة بأسابيع، بأن الوزير ربما اضطر له عندما عجز عن تدبير ميزانية جديدة. كما يستشهد بالتعاقدات التي طبقها الوزير في السابق لمدة 6 شهور، والتي يبدو أنّ تدابيرها المالية لم تعد متاحة.
معلمون مؤهلون
ياسر الروبي، خبير لغة عربية، يرى القرار محاولة جيدة لسد العجز، لكنه يقترح الاستعانة بمن تقدموا لمسابقة 120 ألف معلم. ولفت إلى أن ملفات هؤلاء المعلمين موجودة بالفعل في وزارة التربية والتعليم. كما حصلوا بالفعل على دورات تدريبية في التعامل مع الأنشطة التعليمية والحاسب الآلي وشهادة صلاحية من نقابة المهن التعليمية. لكن لم يتم استكمال تعيينهم.
ولفت إلى أن عجز المعلمين في زيادة مطردة مع زيادة عدد السكان، خاصة بعد وقف الوزارة عملية التعيين. بالإضافة إلى خروج الآلاف سنويًا إلى المعاش، وعدم ضخ دماء جديدة، ما يزيد الوضع سوء والأزمة تفاقمت في كل التخصصات.
وطالب ياسر وزارة التربية والتعليم بوضع خطة لمحاربة الدروس الخصوصية، منوها بأن العملية التعليمية تفاعلية بين الطالب والمعلم فهناك رسالة لا تستطيع “السناتر” توصيلها. وقال إن عودة الطالب إلى الفصل مرة أخرى ليست عملية صعبة إنما تحتاج تفعيل القوانين واللوائح الداخلية للمؤسسات التعليمية. بالإضافة إلى تطبيق نسبة 5% من درجات الطالب على نسبة الحضور لجذب التلاميذ للتفاعل مع المعلم.
شروط التطوع
ونص الكتاب الدوري رقم 26 لسنة 2021 الذي أصدره وزير التعليم الدكتور طارق شوقي بفتح باب التطوع بالمدارس من حملة المؤهلات العليا التربوية للعمل بالمدارس. لسد العجز الصارخ بالمعلمين مع بداية العام الدراسي الجديد 2021، 2022.
وحدد القرار عمل المتطوعين الجدد، كـ”مساعد معلم” من خلال تنفيذ المهام التي يتم تكليفهم بها من مشرف المادة. ويكون التطوع بمدارس لا يوجد بها طلاب مقيدين لهم صلة قرابة بالمتطوع حتى الدرجة الثانية.
وشدد القرار على أنه في جميع الأحوال لا يجوز أن تزيد فترة الاستعانة على 11 شهرا خلال العام المالي الواحد. وذلك مع مراعاة عدم تحميل الموازنة العامة للدولة أية أعباء مالية نتيجة الاستعانة بهؤلاء. وتوافر مؤهلات علمية تتناسب وطبيعة الوظيفة المستعان بهم من أجلها. وعدم اشتراكهم في أعمال الامتحانات أو لجان النظام والمراقبة، مع التأكيد على عدم المطالبة مستقبلا بالتعيين. ولا يجوز أن يزيد نصاب المعلم المستعان به عن 24 حصة أسبوعيا.
لكن حسن أحمد رئيس النقابة المستقلة للمعلمين، يعتبر القرار “عملية تجريب”، لأن المعلم المتطوع ينقصه الخبرة. وهو بذلك يرجح أن يستغل المتطوعون هذه الفترة لتكوين اسم داخل المدارس لإعطاء الدروس الخصوصية بعد انتهاء مدة عملهم. وهو ما رآه يساعد على زيادة نسبة الدروس الخصوصية.
لذلك يقول إن هناك أطباء ومهندسين ومعلمين قدامى تركوا أعمالهم من أجل إعطاء الدروس الخصوصية. ووصف البيئة الحالية بأنها طاردة للعملية التعليمية باعتبارها “سلعنة التعليم”، حيث تسمح الوزارة بترخيص “سناتر” الدروس الخصوصية. والتي قال إنها لا تغني عن المدرسة التي تضم أنشطة مكملة للعملية التعليمية.
وقال حسن إن “سياسة تخفيض أعداد المعلمين لم تبدأ فقط بقرار وقف تعيين خريجي كليات التربية منذ عام 1998. إنما استمر هذا النهج في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك عندما اخترع كادر المعلم. وبدأ فيما اعتبره خطة تصفية للمعلمين بعمل امتحانات خارج التخصص وتدريبات وهمية للتصفية وتقليل الأعداد”.
الاستعانة بذوي المعاش
ويشير “حسن” إلى تجارب بعض الدول التي تعاني أزمة مشابهة، والتي استعانت بأرباب المعاشات للعودة للعمل لسد العجز. وهو بذلك يقترح الاستفادة من هؤلاء حاليا، لافتا الانتباه إلى أن الدكتور محمود أبو النصر وزير التعليم الأسبق طبق هذه التجربة، من خلال الاستعانة بهم بدون مقابل.
ويذهب إلى أن تدريب وتأهيل المعلم وتطوير المهنة هي مسؤولية نقابة المهن التعليمية التي تخصم رسومها من أول تعيين للمعلم. وأوضح أن اشتراكات الأعضاء التي تقتطع شهريا من راتبه تهدر دون أن يستفيد منها في تطوير أدواته وقدراته.
عبد الحفيظ طايل، باحث وخبير تربوي، قال إن التعليم حق دستوري وحق في كل الأعراف والمواثيق الدولية. لذلك يقول: “لا يمكن الاستهانة بمهنة المعلم وتركها مجال التطوع؛ لأن التطوع وضع مؤقت لا يحل الأزمة”. كما يشير إلى أن هناك عجزا صارخا في كافة التخصصات يبلغ من 330 إلى 340 ألف معلم.
ويقول طايل إن “خريطة التدريبات للمعلمين تتم على الورق فقط”. ويوضح بأن الوزارة تختار “معلمين اثنين من كل مدرسة للتدريب، ثم يتم تكليفهم بنقل هذه الخبرات إلى زملائهم”. ورغم ذلك “لا يتحقق على أرض الواقع، ويجعل منها مضيعة للوقت وإهدار للموارد، ولا يتم التدريب على المناهج الجديدة”.
ويعتقد طايل أن الوزير طارق شوقي لا يمتلك خطة تطوير واضحة على المدى البعيد. ولفت إلى أن آخر خطة جرى تقديمها عن التعليم كانت في عهد الوزير السابق محمود أبو النصر. ونوه بأن مصر مليئة بالقيادات والمهتمين بالعملية التعليمية يمكن الاستفادة منهم لكن الوزير يعمل بشكل منفرد. وذكر طايل أن نسبة عجز المدارس وصل 20 ألف مدرسة، بواقع 166 ألف فصل مدرسي لو تم استثناء توابع القرى.
تعديل التشريعات التعليمية
الدكتور عاشور إبراهيم، باحث تربوي بالمركز القومي للبحوث، يتحدث عن عدم تعديل التشريعات التعليمية التي تظل عشرات السنوات. لذلك طالب بإعادة النظر في قانون التعليم وتعديله على الأقل مرة كل 20 سنة. وتابع: “جرى تعديل قانون التعليم سنة 2014، لكن تم رفضه من مجلس النواب وحتى الآن مازال حبيس الأدراج”. وطالب بتوحيد وزارتي التعليم، قائلا: “في كل دول العالم هناك وزارة واحدة للتعليم، لا فصل التعليم العالي عن الأساسي توحيد”.
وأشار إلى أن “ما يحدث الآن هو نتاج تراكم سياسات خاطئة منذ سنوات. وأن أي نظام يتم استقدامه من الخارج يحتاج لتمهيد وتوفير الظروف الملائمة ليتماشى مع المجتمع”.
فكرة إيجابية
اعتبر الدكتور محمد عوض أستاذ المناهج بكلية التربية جامعة الزقازيق ومتخصص في العمل التطوعي، قرار وزير التربية والتعليم بسد العجز عن طريق التطوع بأنها خطوة إيجابية لحل الأزمة. وأن هناك دولاً عديدة قامت بإجراءات مماثلة لعبور وتجاوز المشكلة بشرط أن يتم عملهم تحت إشراف متخصصين.
وأشار إلى أن فكرة التطوع تظهر قيمة العطاء وتبرز قيم المشاركة والتضامن في المجتمع. لكن دور المسؤولين هو وضع برامج يعمل عليها هؤلاء المتطوعون بإشراف كبراء المعلمين والخبراء.
وعن كيفية محاسبة وتقييم هؤلاء المتطوعين، قال عوض: “مهمة التربية والتعليم الآن هي وضع خطة للعمل وتقديم استمارات تقييم أداء تكون عبارة عن برتوكول، يتم وضعه داخل مؤسسات العمل لتقييم العمل الفردي وجمعي والأداء المؤسسي. من حيث الوقت والمظهر والسلوك وتحقيق المستهدف تحت مراقبة كبراء الخبراء من المعلمين”.
وأشار إلى أن فكرة التطوع تقوم على اختيارهم من المجتمع القريب من منطقة العمل ثم تدريبهم وتحديد المهام المطلوبة منهم. ثم متابعة التنفيذ في أداء المهمة لو أخطاء يتم استبعاده.
شحن المتعطلين
أما الدكتور سامح جمعة أستاذ المناهج وطرق التدريس بالمركز القومي للبحوث التربوية، اعتبر قرار وزير التعليم تحت هذه الظروف “عملية إرغام” للقبول بالعمل في ظرف بدون ضمان لحقوقهم.
ووصف الإجراء بأنها “عملية شحن” للمتعطلين المشتاقين للحصول على فرصة عمل، وهو ما اعتبره يزيد إحساس المتطوع بالظلم. منطق هذه النقطة أن المتطوع يكون قد سد العجز بدون أن يضمن مستقبل التعيين.
أما عبد الناصر قنديل عضو الائتلاف المصري والحملة العربية للتعليم فيقول إن بنود الصرف الداخلية التي قررها الوزير لسداد مستحقات المتطوعين تلقي بالعبء على موازنات لا تحمل وفرة تسمح لها بتعاقدات تتيح فرص حقيقية لسد العجز.
لكن الخبير التربوي أيمن البيلي يوضح بأن توفير رواتب المتطوعين سيعتمد على صندوق المحافظات. بينما يقول إن إمكانيات المحافظات ضعيفة ولا تستطيع توفير الموارد بالتالي لا تستطيع تعيين مدرسين وسيظل العجز قائما لديها.
ويشير إلى أن وزارة التعليم اتخذت قرارا مشابها منذ عامين لسد العجز، تحت بند الخدمة العامة بالمدارس. لكن حدث أن تم تسريحهم ولم يجرى الاستفادة منهم، لذلك فإن تكرار الاستعانة بالخرجين وتسريحهم لا يبني كوادر وخبرات تربوية.
ولفت البيلي إلى نقطة أخرى ببنود تشغيل المتطوعين الذي تخلو من أشكال الرقابة، سواء محاسبته ماديا أو فنيا أو إداريا. وهو هنا يتحدث عن حالة قرر المتطوع ترك موقعه ورفض استكمال العمل أو حال ارتكابه مخالفة.
تضخم التعليم الموازي
واعتبر البيلي أن الوزارة لا تستطيع العودة للعمل بالتعيين بسبب تعليمات البنك الدولي في اتفاقية التجارة الدولية “الجات” بالباب الثاني. منها تحرير الصحة والتعليم حيث تلزم الدول الموقعة على الاتفاقية تنفيذ هذا البند والرئيس الأسبق مبارك أخذ مهلة حتى 2010. وعندما قامت الثورة جرى تنفيذ ذلك في 2014 بتخفيض عدد العاملين بالجهاز الإداري بالدولة.
وقال إن هجرة الطلاب للمدارس الحكومية أعطى فرصة لنمو وتضخم أشكال التعليم الموازي “السناتر والدروس”. وأدى إلي زيادة إنفاق الأسر على التعليم، وهو ما جعل فئة قليلة من العاملين بالتعليم يستحوذون على 26 مليار جنيه من دخل الأسرة المصرية. ورغم ذلك بلغت نسبة من لا يجيدون القراءة والكتابة في مراحل التعليم الأساسية 16%، وفق قوله.
إلغاء الانتداب الإداري
يرى عبد الناصر قنديل أن وزير التعليم لم يذهب لجوهر الأزمة الحقيقي وهو “المعلمين الذين تم انتدابهم لمهام ووظائف إدارية بالإدارات التعليمية والمديريات والديوان العام للاستفادة من حوافز وبدلات اعتبرها قنديل مهولة”. كما يشير إلى أن هؤلاء محميون بشبكة علاقات ومصالح تحول دون المساس بهم أو إعادتهم لوظائفهم الأصلية. رغم أن أعدادهم تستطيع أن تساهم بشكل مؤثر في سد العجز، وهو ما فعله الوزير أحمد زكي بدر سابقا.
واقترح علي بخيت موجه أول بإدارة شبين الكوم محافظة المنوفية عودة جميع المنتدبين من المعلمين المتخصصين إلى وظائف إدارية ليس لها أي توصيف رسمي وليس لها أي أهمية، والإبقاء فقط على وظيفة موجه أول واحد للمادة في كل إدارة تعليمية لحصر العجز والزيادة وموجه عام المادة فقط.