كثيرا ما يعيب المثقفون عندنا على السياسيين ما يسمونه الخلل في ترتيب الأولويات، سواء من حيث مخاطبة الرأي العام، أو من حيث الإنفاق وتخصيص الموارد، أو من حيث التشريع والتنفيذ، ولكن هل كل مثقفينا أنفسهم لديهم الإدراك الكافي والترتيب الصحيح للأولويات في محاوراتهم وكتاباتهم وأحاديثهم إلى الرأي العام؟! أو على الأقل، هل كل هؤلاء المثقفين واعون بما يكفي لعدم الانزلاق إلى الجدل حول قضايا يجب ألا تتصدر الحوار العام، إما بسبب شكليتها التي لا تجدي في تحسين المضمون، وإما بسبب جزئيتها التي لا تمس جذر أو جذور الظاهرة، أو لأنها من الأصل تستهدف شغل الرأي العام من باب ملء الفراغ، أو الإلهاء؟

مثلا، كلما أثيرت قضية إلغاء أو إبقاء خانة الديانة في بطاقات الهوية، ينبري حاملو brand أو العلامة المسجلة للتنوير إلى الدفاع الملح عن مطلب الإلغاء، تعزيزا للمواطنة، ومكافحة للتمييز، ومسايرة للتقدم على حد وصفهم،  أما حاملو brand الهوية المرتبطة بالدين فيُستنفرون ضد ما يعتبرونه خطرا محدقا بالإسلام خصوصا، وبالهوية عموما، بينما يصمت المثقفون الأقباط غالبا، ربما لأنهم درجوا علي الكنيسة هي صاحبة القول الفصل في هذا النوع من القضايا.

منطقيا ليس مطلوبا مني إعلان موقف شخصي من المسألة مادمت أرى أنها -كما يشير عنوان المقال – معركة بديلة للمعركة أو المعارك الحقيقية الواجب إثارتها لحل مشكلة التمييز الديني على حساب مبدأ المواطنة المتساوية، ومبدأ حكم القانون، فلو كان التمييز الديني سيختفي بتشريع يلغي خانة الديانة في بطاقات الهوية، لكان الأولى أن يختفي بموجب النص الدستوري الذي يحتم ذلك، بل إن كل الدساتير المصرية قررت رفض هذا التمييز،  ولكنه استمر قويا ومتبجحا في فترات بعينها، ولأسباب بعينها، ومتخفيا أو كامنا في فترات  أخري، ولأسباب أخري، أو محدودا في بؤر جغرافية أو اجتماعية في ظروف مغايرة٠

تظاهرات سابقة ضد التمييز الديني في مصر

المتغير الذي كان ولازال يتحكم في مدى وحجم ظاهرة التمييز الديني كان هو  توجه واختيارات السلطة السياسية القائمة، وهذا هو ما صنع الاختلاف بين الحقبة الليبرالية السابقة على يوليو ١٩٥٢ وبين ما تلاها من أحقاب، وهو أيضا الذي صنع الاختلاف ما بين حقبة جمال عبد الناصر، وبين حقبة أنور السادات، وما بين الحقبة الساداتية وحقبة حسني مبارك، وكذلك بين عهد مبارك وبين عهد السيسي، فبينما توارى التمييز الديني أو ظل محدودا قبل يوليو ١٩٥٢، فإنه خفت في إطار خفوت كل التيارات اتفاقا مع توجهات الدولة الناصرية، أو رضوخا لإملاءات السلطة، ثم عاد بشراسة في حقبة السادات، كما يتفق الجميع، على حين ترك مبارك المشكلة بلا مواجهة، مفضلا المواءمات الصامتة، والحلول الجزئية، مما أدى إلى تراكم حالات الإفلات من العقاب القانوني، وشيوع الحلول العرفية في قضايا وجرائم التمييز  لأسباب دينية أو طائفية٠

وينطبق هذا المتغير كذلك على حال مؤسسة الأزهر، فمنذ الصراع بين الخديوي عباس حلمي الثاني في أوائل القرن الماضي وبين الشيخ  محمد عبده، وفي غضون ثورة ١٩١٩ وتداعياتها كانت السلطة  السياسية هي التي ترجح كفة أحد التيارين المحافظ أو الاصلاحي داخله، وبالطبع نال الأزهر نصيبه من الانقلاب الساداتي على تيار التحديث، حيث أسندت مشيخته غالبا إلى المحافظين، الذين ارتبط بعضهم بالمحافظين بل وبالرجعيين في الداخل والخارج، وبصفة شخصية فإنني أرى في شيخ الأزهر الحالي امتدادا  لمدرسة الشيخ محمد عبده الإصلاحية.

وإذا كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد اختار المواجهة الحاسمة لهذه الظاهرة -وهذا تطور إيجابي ومحمود  للغاية- فليس إلغاء خانة الديانة هو أول ولا أهم ما يجب أن يقترحه المثقفون على الرئيس، ليس فقط لشكليته وجزئيته، ولكن أيضا لأنه ليس محل اجماع حاليا، في حين أن الاجماع ينعقد على إعمال مواد الدستور وحكم القانون، بما يعني إنهاء سيادة أو أولوية العرف الاجتماعي علي النص التشريعي، وبما يعني التخلي كلية عن أسلوب المواءمات السياسة، وسياسات الإفلات من العقاب، خاصة عندما يدعي مواطنون أنهم ينفذون القانون بدلا من السلطات العامة، في مسائل دور العبادة، وحالات الزواج العابر للأديان وتغيير العقيدة أو الملة إلخ، كذلك ينعقد الإجماع على تفعيل دور المجلس القومي لحقوق الإنسان في مراقبة التمييز الديني أو الطائفي في المؤسسات العامة،  ولتكن الجامعات هي البداية.

معركة بديلة أخري خاضها مؤخرا جماعة من المثقفين حاملي الـbrands، هي وجوب أو عدم وجوب تدريس المواد الدينية في المدارس العامة، وما إذا كان يجب تدريس نصوص من الكتب المقدسة غير القرآن الكريم جنبا إلى جنب معه في مقررات اللغويات والأدب والبلاغة والمطالعة، في حال بقيت مدارسنا ملزمة بتدريس مواد دينية، وذلك إعمالا لمبدأ المواطنة المتساوية، فبغض النظر عن الجوانب الفنية في هذه المسألة،  أليس الأولى بالحوار العام هو إنقاذ نظامنا التعليمي من بؤسه الحالي، تربويا ومنهجيا وماليا، والالتزام بفلسفة التعليم العام كما تطبق في كل بلاد العالم، بل وكما كانت تطبق عندنا في أيام خلت، حيث التعليم هو بوتقة انصهار كل الشرائح والطبقات  والجهات في الدولة الواحدة،  حين يضم الفصل الواحد ابن الخفير وابن الوزير،  والمسلم والقبطي، وحيث تخلق العملية التربوية  قيما وتقاليد وخبرات مشتركة،  وحيث تطور قدرات ومواهب بالأنشطة المدرسية، من مناظرات وندوات ورحلات وكشافة وخطابة وصحافة ومسرح ومنافسات رياضية وثقافية وعلمية، وعلاقة صحية بالمعلم. أيعقل أن ينشغل المثقفون والخبراء بالنصوص الدينية في المنهج الدراسي في وقت تقول فيه خبيرة عملت في مشروع تطوير التعليم المصري منتدبة من الأمم المتحدة، إنها رأت حال المدارس في مخيمات اللاجئين الفلسطينين أفضل من كثير من المدارس المصرية.

كذلك من ألزم لزوميات التعليم الذي يدعم ويعلي قيم المواطنة والانتماء توحيد نظم التعليم قبل الجامعي، فلا أظن أن بلدا أخرى غير مصر تتواجد على أرضه كل نظم التعليم العام في العالم، من أمريكي إلى بريطاني وفرنسي وألماني وكندي وصيني وياباني، ولا يوجد بلد يسمح بوجود تعليم راق لأبناء الأغنياء، وتعليم متدن لأبناء الفقراء، علما بأن عباقرة مصر في الزمن الخالي كانوا من أبناء  الطبقة الوسطي الدنيا أو الفقراء  منذ علي ابراهيم باشا رائد الطب وحتي أحمد زويل مرورا بطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ ومشرفة وسميرة موسي  والسنهوري، بل والنحاس باشا وأم كلثوم ومحمد  عبد الوهاب  فضلا عن غالبية قيادات نظام يوليو  الخ.

لم أتحدث فيما سبق عن حال البحث العلمي، ولا عن المنظومة الطبية والصحية أو ضبط الأسواق خاصة في المهن الحرة والتوكيلات الأجنبية، ولا عن انعدام العدالة الضريبية. والأهم من كل ذلك فلسفة التصنيع. حيث لا تقدم لأي دولة إلا على ساقين متينين هما التعليم والتصنيع. وما دونهما في حالتنا هذه هو من نافلة القول يا مثقفي مصر.