مثل كثيرين عانيت من مشاكل نفسية متكررة على فترات متباعدة، بدءا من مراهقتي وتخبطي فيها بسبب عدم وجود أصدقاء حولي وافتقاد الدعم العاطفي والنفسي من الأبوين. وحتى مؤخرا في أواخر ثلاثيناتي، بحثت عن حلول. ولكي أعرف الحل كان يجب أن أعرف ما بي، لجأت للقراءة في علم النفس حتى أفهم، فيما بعد لجأت لمساعدة صديق طبيب نفسي صرنا نتحدث بالساعات وبالحديث تتضح الأمور وتترتب، وأحيانا يدلني على دواء ما لكي أتجاوز.
في مراهقتي، أتذكر بوضوح أنني كنت أطلب من الله أن أموت. لكن الآن لا أجروء حتى أن أفكر في الموت؛ ليس من أجل ابنتي فقط، ولا لأنني نضجت أو أصبحت أكثر قوة وسيطرة وتعاملا، وهي أسباب جيدة وحقيقية أيضا، ولكن لأنني أخشى الموت.
أنا لا أحب الذهاب للعزاء ولا أقدر على رؤية نعش، حين ماتت خالتي الحبيبة منذ أيام لم أكتب نعيا لها على صفحتى الشخصية على فيسبوك، أنا أهرب من وجود الموت، أنكره تماما. لذا حين أكون في منطقة حزن ووحدة وظلام لا أفكر مطلقا في إنهاء حياتي خوفا من هذا المجهول. خوفا من تبدد جسدي للا شيء وذهاب روحي للا مكان. حين أكون قريبة من التفكير في الموت وقبل أن تقترب منى الفكرة بخطوة واحدة أجدني أفيق فجأة وأستدعي –أو يستدعي عقلي- بشكل تلقائي كل حيل الدفاع النفسي من إنكار وازاحة وتبرير وردفعل عكسي وبالطبع أكثر حيلة دفاعية تروقني: التفكير المجرد الذي أصبحت بارعة فيه، حين أرتكب فعلا سيئا وأبدأ في الشعور بالذنب أنكره تماما وحين تأتيني مصيبة أو خبر سيء لا أبكي، بل أفكر بشكل مجرد فورا، وأتساءل كيف سأتعامل وأرتب خطوات حل الموقف، ليس الآن وقت الحزن أو تدفق المشاعر بل هو وقت التصرف السليم.
لذا حين أسمع خبرا عن انتحار فتاة أو شاب، أتساءل: كيف تهون عليهم الحياة؟ حتى وإن كانت مرعبة وقاسية ولكننا على الأقل نعرفها.. تمرسنا أسلوبها وطرقها ومراحلها، عكس الموت الذي لا نعرف عنه شيء، فبدأت أبحث عن رسائلهم التي تركوها لذويهم قبل الانتحار.. فوجدتهم مثلي: أحبوا الحياة وحاولوا، وليس مثلي: لم يخشوا الموت.
اقرأ أيضا:
حكايات عن العائدين من الانتحار
العزاب الأكثر انتحارًا في 2021
8 حالات انتحار لمراهقين في قرى البحيرة.. العنف الأسري وحبة الغلة في دائرة الاتهام
الوحدة
أحيانا نلجأ للوحدة من أجل الاستشفاء وتصفية الذهن وترتيب الأفكار، فالابتعاد عن الناس كثيرا ما يكون له جاذبية شديدة خاصة كلما تقدمنا في العمر، حين نكون صغارا نركض نحو الأصدقاء ونتحدث ونتشارك ولكن حين نكبر نتجه لنفسنا أكثر ونجلس في هدوء. منا من يستمتع بهذا الهدوء ومنا من يجلد ذاته وحيدا ومنا من يجيد تهدئه نفسه من نوبة قلق، ولكن كثيرين لا يحبون الوحدة خاصة وإن كانت مفروضة عليهم.
يجد كثيرون أنفسهم وحيدون مرضى يعانون وحدهم لا يتلقون دعما ولا سؤالا، لا أحد يمر للتحية ولا للمشاركة، وربما يكونوا في وحدة حتى وهم بين أسرتهم، منعزلون عنهم بأفكارهم، لا أحد يهتم بما يدور بينه وبين نفسه ولا بمرضه، يعتقد بعض الآباء أن ابنهم “مش ناشف كده” ولازم يبقى راجل، أو أن “البنت دي لازم نشد عليها شوية عشان أخلاقها ما تبوظش وتفضحنا”، فيجد الأبناء أنفسهم بلا سند.
محمد رزق كان وحيدا، انتحر غرقا عندما قفز من على أحد الجسور على نهر النيل في فارسكور بدمياط، محمد كان صغيرا 17عاما، قبل أن ينتحر كتب رسالة قال فيها:” “إنني سأموت منتحرا والسبب هو أبويا (والدي) وأقول للآباء: احرصوا على ألا تدعوا أبناءكم ينامون في حالة حزن، فلم يمض علي يوم إلا ونمت فيه حزينا، إياكم أن تشعروا أولادكم بأن لا أحد بجانبهم، وأنا الحمد لله مليش حد غير ربنا”، لو كان محمد وجد أبا قريبا أو صديق يدله على قوته، لو لم يكن وحيدا لكان الآن في ليبيا يعمل حلاقا كما أراد بدون اعتراض من والده.
منذ أيام انتحرت فتاة قفزا من طابق مرتفع بمركز تجاري شهير، بعدها بيوم انتحر طالب طب بقفزه من أعلى مبنى جامعة 6 أكتوبر، سبقهما شابا منذ عامين عندما انتحر من فوق برج القاهرة، كلهم شعروا بالوحدة وبالنبذ من أسرتهم، مشاكل وخناقات وعنف أو صمت وابتعاد في أكثر مرحلة يكون فيها الإنسان ضعيف مشوش لايرى بوضوح، ليس متأكدا من شيء ولا يعرف عن نفسه الكثير، أكثر حالات الانتحار من المراهقين والشباب.
( 1)
“سامحيني يا أمي أنا قررت أنتحر، يا ريت متعمليش عزا وتوفري الفلوس وادهني الشقة”
نادر محمد 25 سنة في رسالة انتحاره لوالدته- ديسمبر 2019
الإحساس بالذنب
“لا أستطيع القتال أكثر. أعلم أنني أفسد عليك حياتك، لولا وجودي، لأستطعت الخروج والعمل. أعرف أنك ستخرج للعمل إن غادرتُك أنا متأكدة من هذا، ما أريد أن أخبرك به هو أنني مدينة لك بكل السعادة التي عشتها في حياتي.. لقد كنت صبورًا معي وطيّبًا بشكل لا يعقل. أريد أن أخبرك -والجميع يعلم هذا- لو كان لرجلٍ أن ينجح في إنقاذي فستكون أنت هذا الرجل. فقدتُ كلّ شيء يا ليونارد، عدا إيماني بك وبقلبك. لا أستطيع الاستمرار في إفساد حياتك. هذا يكفي”.
هذا جزء مقتطع من رسالة انتحار الأديبة الأنجليزية فيرجينا وولف لزوجها في عام 1941، ملأت جيوب معطفها بحجارة ثقيلة ثم نزلت إلى نهر “اوز”، أتخيلها مهمومة تحمل عبئا أكثر من الحجارة داخل قلبها تجاه زوجها، تدرك أنها مريضة وأنها فشلت في محاولات متكررة لأن تتعافى، أتخيلها ترى نفسها عائقا أمام سعادة زوجها واستكمال حياته، تدرك أنه طيب ويحبها وكانت سعيدة معه لكن حين عاودها الاكتئاب لم تقو عليه، سئمت القتال وقررت أن تمحو إحساس الذنب تجاه زوجها بان تُنهي حياتها، هي تحبه وهو يحبها ويدعمها ويصبر معها في نوبات اكتئابها ولكنها لا تشفى مطلقا فتقرر الانتهاء من هذه الدائرة وإزاحة العبء عن حبيبها.
معظم المنتحرين يكتبون في رسائلهم كلمة ” سامحوني” ونحن لا نعرف على أي شيء يريدوننا أن نسامحهم، على عدم احتمالهم، على ضعفهم، على مرضهم، أم على الحزن الذي تسببوا به برحيلهم عنا؟
هم يشعرون بالذنب لأنهم لم يستطيعوا المحاولة مرة أخرى، لم يجدوا طريقة أخرى، لم يخبرهم أحد أن هناك علاج، لم يقدم أحد المساعدة، في حالة فيرجينيا كان زوجها صبورا داعما وهذا ما دفعها للإحساس بالذنب تجاهه فانتحرت.. وقتها في فترة الأربعينيات لم يكن هناك معنى واضحا لمرض الاكتئاب ولا أدوية ولا برامج مساعدة ولا مجموعات دعم، كان فقط زوجها فاستثقلت روحها المتعبة عليه ورحلت.
( 2)
“سامحوني، فقد أصبحت الحياة غير محتملة بالنسبة لي”.
داليدا في رسالة انتحارها- عام 1987
الشعور بعدم التقدير
الثابت في كل حالات الانتحار هو اليأس، اليأس من النجاح والتعب من الفشل المتكرر، ومرض نفسي يحتاج دواء لإعادة التوازن لكيمياء المخ والجسد، حين يصاحب كل هذه غحساسا بعدم التقدير وبالوحدة بل والأكثر بأن كل من احببتم لم يحبونه يوما، كونه مرحلة وانتهت واستغلالا للحب وخذلانا، إدراك أن كل هؤلاء ليسوا هنا حقا وليسوا كما يدعون، ينتظر كلمة حب واحدة كي يحيا، رسالة قصيرة تدفع به خطوة نحو الأمل وتبعده خطوات عن الموت، هو مهم لأحد ما، هو حقا به شيء مميز لينظر له أحدهم بشكل مختلف، ينتظر كثيرا، يتلكك لكي يبقى حيا، يبحث عن أي لفتة تقدير أو تفهم بينما يصارع مرضا وأدوية وإخفاقات ووحدة ودوائر مفرغة لا تنتهي من اللوم وسقف حجرة ثابت لا يتغير كلما أطال به النظر.
( 3)
” اليوم رسمت صورتى الشخصية ففى كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي: أيها الوجه المكرر، يا وجه فانسنت القبيح، لماذا لا تتجدد؟ واليوم قمت بتشكيل وجهى من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون.
عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن فى اللوحة ناشزة لا حاجة بى إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها. يظهر أن الأمر اختلط علي، بين رأسى خارج اللوحة وداخلها. حسنا ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟ أرسلتها إلى المرأة التى لم تعرف قيمتى وظننت أنى أحبها. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها. إليك أذنى أيتها المرأة الثرثارة، تحدثى إليها الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي”.
فنسنت فان جوخ/ من رسالة انتحاره والتي وجهها لأخيه- عام 1890
أزمة بيانات تفاقم الأضرار
ليس هناك أرقام رسمية عن عدد المنتحرين ولا حتى أرقام تقريبية صادرة عن مراكز بحثية، ولكن في عام 2017 صدر تقرير عن منظمة الصحة العالمية حول حالات الانتحار في العالم وضعت إحصاءات المنظمة عن عام 2016 مصر على رأس الدول العربية فيما يتعلق بمعدلات الانتحار بإجمالي 3799 حالة خلال العام، بينما تقلل آخر الإحصاءات الرسمية المرتبطة بالعام 2017 بشكل كبير من هذه المعدلات المتداولة.
بعد ذلك بعامين صدر بيان من مجلس الوزراء المصري في 2019 تحدث فيه آنذاك عن ما وصفه بـ “الشائعات” بخصوص تصدر مصر المرتبة الأولى في معدلات الانتحار، واعتمد المجلس في بيان له على آخر الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء والصادرة في العام 2017 والتي ذكرت أنه خلال العام المذكور (2017) وقعت 69 حالة فقط، بينما هناك جهة أخرى رسمية لا يتم الإشارة إلى أرقامها ربما لأن ىخر بيان لها كان عام 2007 ولكنها أرقام تؤخذ في الاعتبار وربما لا يزال يصدر هذا البيان ولكنه يتم تجاهله، ففي عام 2007 قالت دراسة صادرة عن المجلس القومي للسموم التابع لجامعة القاهرة، قد قدّرت عدد حالات الانتحار في العام 2007 برقم مفجع، بلغ 3708 حالة، وجاءت نسبة المنتحرات الإناث هي الأكبر بنسبة 68 بالمئة، مقابل 32 بالمئة للذكور.
وأرجعت الدراسة ما وصفته آنذاك بـ “تزايد” نسب الانتحار إلى البطالة وتأخر سن الزواج. وفي العام 2010 قال المركز إنه يستقبل أكثر من 16 حالة انتحار يومياً.
تباين الأرقام يشير لعدة نقاط أهمها حرص أهالى المنتحرين على أن يتم توثيق الحالة على أنها وفاة طبيعية لتفادي الفضيحة، خاصة في حالة الفتيات، فمن تنتحر بالتأكيد ارتكبت فعلا مشينا وليس لأنها كانت مريضة اكتئاب أو تشعر بالوحدة أو يتم الاعتداء عليها بالضرب من أبوها الذي يُصر بكل أنانية على أن توثق حالة وفاة طبيعية لابنته خوفا من العار بلا أدنى إحساس بالذنب..كما أن الدولة تتعامل مع حالات الانتحار على أنها قد تُحدث لغطا أو تثير المشاكل في المجتمع، فلا تجد رقما صريحا رسميا ليستدل به الباحثون والأطباء ليدركوا حجم المشكلة ويقدرون على التعامل معها.
في النهاية، كلنا معرضون للحظات الضعف وأغلبنا تراوده أفكارا انتحارية، فقط المحظوط برفاقه وبطبيب نفسي متفهم، وبأسرة داعمة هو من ينجو.