في موجه جديدة من التصعيد بين المكونين العسكري والمدني في المرحلة الانتقالية في السودان. شن نائب رئيس مجلس السيادة، الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي). هجوما واسعا على المدنيين (قوى الحرية والتغيير). للمرة الثانية بعد فشل محاولة الانقلاب المحدودة. التي تم القضاء عليها داخل سلاح المدرعات الأسبوع الماضي. معلناً رفضه الجلوس أو التشاور معهم دون وفاق. قائلاً :”فيه وفاق نقعد معهم، لكن ما في وفاق والله ما في ترابيزة نقعد معهم اليوم”.

في تصريحاته الهجومية التي أطلقها حميدتي خلال حضوره إحدى المناسبات الاجتماعية في منطقة شرق النيل. ندد باستخدام المجتمع الدولي أو الشارع السوداني كسلاح تهديد في يد المدنيين ضد العسكر. قائلاً: ما في زول يهددنا بالمجتمع الدولي، إحنا لنا معه كلام، هم قاعدين يروجوا إن العسكر دايرين يعملوا انقلاب. عشان يستعطفوا الشعب والمجتمع الدولي. ما يمكن يكون في زول أنت حاميه وحارسه، يقول احنا خصمنا من رصيده السياسي”. نافياً نية العسكريين للاستيلاء على السلطة.

حميدتي
حميدتي

لا تهددونا بالشارع

في خطابه التصعيدي ضد المكون المدني في الحكومة ( قوى الحرية والتغير). راهن حميدتي على غضب الشارع السوداني من ضعف الحكومة وعدم قدرتها النهوض بالوضع الاقتصادي وحل المشكلات اليومية للمواطن السوداني. قائلاً “لا تهددونا بالشارع، احنا عندنا شارع”.

وجاءت تهديدات حميدتي للمكون متوافقة أيضاً مع حديث رئيس مجلس السيادة الانتقالي. الفريق عبد الفتاح البرهان، في سلاح المدرعات إثر إحباط المحاولة الانقلابية المحدودة ضد سياسات المدنيين الذي اتهمهم بالانشغال في اقتسام الثروة والمناصب والكراسي. ما تسبب في تصاعد الأزمة في شرق السودان.

كان البرهان ندد في حديثه أيضاً من الاتهامات التي لوحت بها لقوى الحرية والتغيير. إثر الإعلان عن محاولة الانقلاب الأسبوع الماضي. قائلا: نحنا ماشين في طريقنا ولا يهمنا .. فالكلاب تنبح ونعلم أن هناك أقلام مأجورة وغير وطنية”. مشددا  على أن الجيش هو الوصي على السودان وهو من سيحمي التغيير لحين تسليم البلاد لإدارة شعبية حاكمة وتحقيق الانتقال الذي خرج من أجله ملايين السودانيين للحرية والسلام والعدالة وهي الشعارات التي راحت بين الكراسي والولايات.  مؤكدأً أنه – العسكريين- لا يزال لديهم الأمل أن تتوحد القوى السياسية وتنتبه لحال البلد. من أجل عبور حقيقي وليس عبور مزيف تستأثر به قوى معينة.

عبدالفتاح البرهان
عبدالفتاح البرهان

مع الاتهامات التي ألقى بها البرهان ونائبة للقوى المدنية. والتنديد بتفرقهم وخلافاتهم كان الحرص على التأكيد على وحدة الجيش والقوات النظامية. حيث كانت بعض الإشارات عن خلافات بين الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع التابعة لحميدتي. التي تملك قوة على الأرض. حيث اصطحب حميدتي خلال زيارته لمعسكر المدرعات بعد إحباط المحاولة الانقلابية، قائلاً: أنا جايب معايا دقلو علشان محدش يقول الدعم السريع مش معانا. القوات النظامية كلها على قلب رجل واحد. ونريد أن تنتهج القوى السياسية نفس السياسة وتتوحد قوى الحرية والتغير .. نحنا ما دايرين نشيل السودان ونسلمه لقوى مجهولة.

المتهم بتقويض الديمقراطية

في إطار التراشق وتبادل الاتهامات بين المكونين المدني والعسكري في السودان. يرى المراقبون أن الصراعات والخلافات المستمرة بين المدنيين. كانت سبباً وذريعة قوية لمواقف المكون العسكري. حيث كانت بمثابة العقبة للانتقال السلس للسلطة أو كسب ثقة الشارع المشتعل في حزب أو شخصية سياسية يمكنها تحقيق تطلعاته للحرية والسلام والديمقراطية.

كان الخلاف داخل قوى الحرية والتغير وهي الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية الحالية برئاسة عبد الله حمدوك – الذي جاء إلى السودان بعد 30 عاماً من الحياة في الخارج دون معايشة الحياة السياسية السودانية بتعقيداتها- بسبب مبادرة تم إطلاقها قبل شهرين للم شمل الفرقاء السياسيين وضم وتوحيد عمل القوى السياسية الحالية دون المواليين أو الحلفاء السابقيين للمؤتمر الوطني الإسلامي. حيث كانت محاولة لتوحيد القوى المدنية ووقف الانقسامات ومعوقات الانتقال.

مبادرة حمدوك 

إلا أن مبادرة حمدوك تسببت في العديد من الانقسامات والخلافات بسبب تخوف بعض الأطراف السياسية. ما رأت فيه إضعافا أو تهميشا وإقصاء لها من المشهد السياسي. وهو ما يأتي مشابها إلى حد كبير مع كافة مبادرات السلام في السودان من اعتراض بعض الأطراف. مثل اتفاق جوبا للسلام الذي لا يزال محل خلاف مع الحركة الشعبية شمال وجناح عبد الواحد في دارفور.

احتجاجات في الخرطوم
احتجاجات في الخرطوم

وتتسبب هذه الانقسامات والمشاكل المتراكمة داخل المكون المدني. في تأخر الخطوات الحاسمة في ملف قاطرة التغيير السياسية واستكمال مفاصل الدولة بخاصة انتخاب المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية العليا. ما أعطى الفرصة للمكون العسكري لشن الهجوم والاعتراض على أداء المدنيين. متهماً اياهم بتقويض التحول الديمقراطي لخدمة مصالح شخصية.

يرى مراقبون للمشهد السياسي. أن مصلحة المكون المدني لا تزال في إطالة أمد الفترة الانتقالية. خاصة وأن معظم الأحزاب المشاركة في الحكومة فقدت شعبيتها بدرجة كبيرة في الشارع السوداني نتيجة الأزمات المتتالية التي لم تستطيع الحكومة تجاوزها. والقرارات الاقتصادية التي أضرت المواطن السوداني دون أي سياسات حمائية. فضلاً عن فشلها في إدارة المرحلة الانتقالية.

فرغم أن الوثيقة الدستورية أعطت للحكومة بتشكيلها المدني برئاسة حمدوك السلطة في اتخاذ كافة القرارات والسياسات العامة والمصيرية. على أن يكون منصب البرهان في رئاسة المجلس السيادة مجرد منصب شرفي. إلا أن الفترة الماضية شهدت تدخل مجلس السيادة في التصديق على قرارات مصيريه سواء على المستوى الداخلي او العلاقات الخارجية.

حجة المدنيين ضد العسكر

من بين الاتهامات الرئيسية التي يشنها المكون المدني على العسكر. هو إعطاء الفرصة لمزيد من الانفلات الأمني ونشر الفوضى في مناطق متفرقة داخل السودان. حتى تكون ذريعة للهجوم على المدنيين وضمان قوى لهم بالتدخل بحجة حماية البلاد. حيث تم اتهام العسكر بالتواطؤ لتصاعد التوتر الأمني شرق السودان الذي وصل إلى حد تعطيل المصالح القومية للبلاد بغلق المطار وميناء السودان الرئيسي الذي يمد البلاد بأكثر من 90% من واردتها من الخارج.

كان من المنتظر أن تنتهي المرحلة الانتقالية الأولى في العام المقبل. لكن هناك توقعات بمدها لعام أو أكثر. ما تسعى له القوى المدنية، التي دفعت باحتساب بداية المرحلة الانتقالية من توقيع اتفاق السلام في أكتوبر من العام الماضي. وإمكانية إعادة احتسابها من تاريخ توقيع عبد العزيز الحلو قائد الحركة الشعبية شمال وعبد الواحد نور في دارفور. حيث تدور أحاديث داخل السودان عن تطويل المرحلة الانتقالية لمدة 10 سنوات حيث لا تزال الأحزاب ضعيفة.

مؤتمر صحفي سابق لقوى الحرية والتغيير
مؤتمر صحفي سابق لقوى الحرية والتغيير

ولا يخفى على المتابع لأحداث الانقلاب الفاشل ذكاء المكون العسكري وقدرته على احتواء الشارع وكسب تأييده. حيث انتظر الخطاب العسكري انتهاء المدنيين من الشجب والإدانة وتعليق الانقلاب على شماعة النظام السابق. وقدم دلائل تبرء مجلس السيادة وأنصاره في شرق السودان من محاولة الانقلاب بل وتوجيه اللوم للمدنيين في الوقوف وراءه حيث ظهر ولاء بعض الضباط المتورطين لأحزاب في السلطة الانتقالية.

الإقليم لن يقبل بحكومة ضعيفة

في قراءة سريعة للمواقف الإقليمية والدولية عقب محاولة الانقلاب الأسبوع الماضي. والرفض الكبير لأي تقويض بالقوة للتحول الديمقراطي في السودان. نجد أن هناك دعما قويا لتسلم البلاد لسلطة مدنية قوية. إلا أن كافة القوى الفاعلة لم تقص المكون العسكري من المشهد. لكن قوى مدنية في السودان بدأت تتحدث عن دعم دولي لها في مواجهة أي محاولة للعسكر للاستئثار بالسلطة، وهو ما أثار حفيظة القيادة العسكرية كما جاء في تصريحات حميدتي التي استنكرت أي محاولة استقواء أو تهديد بالمجتمع الدولي.

معلومات تحدثت عن رفض إقليمي لحكومة مدنية ضعيفة في السودان. يكون من شأنها استمرار التوتر في الشارع. حيث تتكرر الاحتجاجات والانقلابات بسبب عدم قدرتها على احتواء الشارع السياسي أو تحقيق القدر الأدنى من احتياجات المواطن.

ويرى مراقبون أنه من المتوقع أن تنتهي هذه الحرب الاستفزازية بين العسكر والمدنيين. بتنفيذ مبادرة حقيقية تشمل كافة القوى السياسية المتنازعة وتشكيل حكومي جديد يضم ممثلين عن كافة القوى المدنية دون إقصاء أي طرف من المشهد. على أن يتم الإبقاء على رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك الذي يلقى قبولاً دولياً. ما قد يكون السيناريو الأقرب للتنفيذ لتجنيب البلاد حالة الفوضى السياسية.

وتبقى التساؤلات عن مدى إمكانية التعويل على الدعم الدولي بقيادة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لرئيس الوزراء السوداني والدفع بمطالب الإصلاحات في الأجهزة الأمنية. ووضعها تحت إشراف الحكومة المدنية في إعطاء قبلة حياة جديدة للمكون المدني، مع انخفاض فرصه بشكل كبير في الداخل السوداني نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية والانفلات الأمني الملحوظ.

أزمة الشرق.. مسمار في نعش المدنيين

وعززت الاحتجاجات والتوتر الأمني في شرق السودان من إضعاف موقف الحكومة. حيث كانت مجموعات من قبيلة البجا بزعامة الأمين ترك، قد أغلقت الطرق الرئيسية التي تربط شرق السودان ببقية المدن حيث تم غلق الطريق الذي يربط بورتسودان ببقية أجزاء البلاد. وغلق ميناء بورتسودان وإغلاق السكك الحديدية بمحطة هيا وخطوط توريد البترول.

وكانت من أبرز مطالب ثوار الشرق. إلغاء مسار شرق السودان المبرم في اتفاقية جوبا للسلام، وحل لجنة تفكيك الإخوان التي تحظى بسند شعبي ورسمي كبير. وحل الحكومة الحالية. وتشكيل مجلس عسكري يدير البلاد لفترة انتقالية محدودة تعقبها انتخابات حرة. فيما رفض ترك التفاوض مع أي ممثلين من الحكومة المدنية وهو ما أثار حفيظة الحكومة التي اتهمت بدورها ثوار الشرق بالعمل لمصلحة المكون العسكري.

تصاعد الاحتجاجات في شرق السودان
تصاعد الاحتجاجات في شرق السودان

وتسبب التراشق والتوتر بين المكونين المدني والعسكري في رفع سقف مطالب الثوار في شرق السودان. خاصة مع تمكنهم في السيطرة على شريان الحياة الاقتصادي من الشرق. الذي يمد الخرطوم والولايات السودانية بأكثر من 70% من احتياجاتها من الخارج.

وتسبب الخلاف حول ألية فض الاحتجاجات في شرق السودان. في تعزيز النزاع بين المكونين العسكري والمدني بعد رفض المكون العسكري طلب المدنيين بضرب وقمع المعتصمين في شرق السودان وعودة الحياة لطبيعتها بفتح المصالح الحيوية في الميناء والطرق والسكك الحديدية والمطار.

محاولة احتواء غضب الشرق

وتداولت وسائل إعلامية أنباء عن وصول وفد وزاري. اليوم من الخرطوم إلى شرق السودان. يضم وزراء الداخلية والطاقة والنقل، بصحبة عضو مجلس السيادة، شمس الدين الكباشي. من أجل التوصل إلى حلول ناجزة وتهدئة موجة الغضب لضمان عودة الأمور لطبيعتها إلا أن محمد الأمين ترك. رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة بشرق السودان والتي تقود الاحتجاجات. شن هجوما عنيفا على رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، وطالبه بالاستقالة، قائلا في تصريحات تم نقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي أمس إن عليه محاكمة من يتهمهم بمحاولة الانقلاب الفاشلة أو الاعتراف للشعب والمجتمع الدولي بالكذب، مهدداً بتصعيد قد يصل إلى قطع الطريق وإغلاقٍ كامل لشرقي السودان بعد إغلاق مطار بورتسودان الدول

سيناريو شبه حتمي

ومع استمرار الخسائر جراء الموقف المشتعل في شرق السودان. تتجه التوقعات نحو سيناريو بات حتمياً حيث القيام بتغيير جذري للحاضنة السياسية للحكومة بوجوه مدنية أخرى قد تكون محسوبة على الحرية والتغيير لكنها تمثل كافة الاطياف السياسية، وهو السيناريو الذي يعززه المكاسب التي حققها المكون العسكري. إثر احباط محاولة الانقلاب وتقديم أنفسهم كحماة التحول الديمقراطي في السودان. وإصرارهم على تقديم قيام الانتخابات وحمايتها. ما يرفضها المكون المدني في ظاهرة غير مألوفة إقليماً ودولياً بأن يدعو العسكر لانتخابات مدنية ويرفض المكون المدني في الحكومة هذه الخطوة وهو ما يمكن أن يثير شكوك المجتمع الدولي الداعم للحكومة المدنية.

وتبقى جميع السيناريوهات مفتوحة أمام استمرار التصعيد بين العسكر والمدنيين. والعودة لنقطة الصفر رغم مبادرات عديدة ووثيقة دستورية حددت العلاقة بشكل واضح من أجل العبور بالمرحلة الانتقالية وتحقيق التحول الديمقراطي السلمي في السودان إثر إزاحة نظام البشير، إلا أن شواهد الاختلافات داخل المعسكر المدني نفسه إضافة إلى الاحتكاكات المتصاعدة مع المكون العسكري. قد لا تؤدي لحلول ناجزة. خاصة إذا ما وضع في الاعتبار الشارع السوداني الملتهب والمتعطش لسياسات تنفذه من الأزمة الاقتصادية الطاحنة والانفلات الأمني.