فيديو طبيب العظام والأستاذ الجامعي الذي يصور إهانته بالاشتراك مع طبيبين آخرين لممرض، أكثر شهرة من الحاجة إلى إعادة الحديث عن تفاصيله. ما تطورت إليه الأحداث أيضا، منذ نشر الفيديو وتداوله بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، أمر معروف.

ثمة الكثير مما يستحق المناقشة سواء حول ما تنطوي عليه الواقعة التي صورها مقطع الفيديو، أو الجدل الذي ثار منذ نشره، ولكني اخترت اليوم الحديث عن جانب استوقفني وهو رسائل الاستعطاف والترجي التي وجهها زملاء أو أصدقاء للطبيب إلى الجهات المسؤولة مطالبين فيها بصورة أو بأخرى بطي صفحة الواقعة وتجاوزها. أغلب هذه الرسائل استخدم حجة مثيرة للاهتمام وهي أن الطبيب كان في الواثع ضحية للتعدي على خصوصيته، من خلال تسريب مقطع الفيديو. أغلب أصحاب هذه الرسائل هم أطباء وأساتذة جامعيون مما بضعهم على قمة هرم التعليم في مصر، أو بعبارة أخرى، هم يمثلون الفئة الأكثر حظا من حيث قدر التعليم الذي تلقته. هم أيضا بحكم مناصبهم كأساتذة جامعيين في موقع يؤهلهم للتأثير على أعداد كبيرة من أطباء وأساتذة المستقبل.

المثير للانزعاج بالنسبة لي على الأقل، ليس رغبة هؤلاء في تخليص زميل أو صديق من ورطة كبيرة، فبغض النظر عن فداحة ما ارتكبه، يظل من حق المقربين منه أن يسعوا في مساعدته بأي وسيلة مشروعة، ولكن ما أراه مثيرا للانزعاج حقا هو استخدامهم للقانون ومفهوم الخصوصية في الحجج التي ساقوها دفاعا عن موقف الطبيب، بطريقة تكشف قدرا بالغا من الجهل بالحد الأدنى الذي ينبغي أن نتوقع منهم ومن غيرهم معرفته عن القانون والخصوصية.

يحتاج كل مجتمع إلى أن يتوافر لأفراده حد أدنى من المعرفة بالقواعد التي يفترض أنها تنظم التعايش بينهم. القانون المعمول به في الدولة هو بالتأكيد في مقدمة هذه القواعد، ولا تعني المعرفة بالقانون بالنسبة لغير المتخصصين فيه بالطبع أن يكون أي منا ملما بنصوصه وتفاصيل العمل بها، ولكن الحد الأدنى المقصود هنا، هو قدر من الإدراك لما يجرمه القانون، وما لا يجرمه. أن يكون لأفراد المجتمع البالغين والمسائلين قانونا هذا الحد الأدنى من المعرفة بالقانون، ضروري لأنه بدونه ينتفي أحد أدوراه الرئيسية، وهو ما يسمى بالردع العام. فالقانون لا يوجد فقط لمعاقبة من ينتهكه، ولكنه قبل ذلك يشيع قدرا من النظام والأمن في المجتمع من خلال ردع الأفراد عن ارتكاب الجرئم خشية أن يعاقبوا بموجبه. هذا بالطبع لا يتحقق إذا كان هؤلاء يجهلون أن أفعالا بعينها هي جرائم يعاقب القانون مرتكبيها. على جانب آخر ثمة مصلحة لكل شخص في أن يكون لديه هذا الحد الأدنى من المعرفة بالقانون، لأن جهله بأن هذا الفعل أو ذاك يعد جريمة بموجب القانون لا يعفيه من العقوبة إن ارتكبه، وبالتالي فمثل هذه المعرفة قد تحمي البعض من الوقوع تحت طائلة القانون دون علم منهم.

ثمة أيضا قواعد للتعايش الاجتماعي أكثر اتساعا من أن يشملها القانون، فهو فقط قد يتدخل في تحديد عقوبات للانتهاكات الأكثر فداحة لهذه القواعد. فالقانون يجرم انتهاك الخصوصية بالتنصت على المكالمات الهاتفية مثلا، دون إذن قضائي، ولكنه لا يجرم انتهاك الخصوصية باستراق السمع لمحادثة بين شخصين، أو بالتحديق المزعج في شخص، في مكان عام كمقهى أو حديقة. حدود ما هو شخصي وخاص ولا يجوز التعدي عليه لا ينظمها القانون بشكل كامل، ولا يمكننا أن نتوقع منه ذلك، ولكن هذا لا يعني أن هذه الحدود والمفاهيم التي تقوم عليها ليست ضرورية للتعايش بين أفراد المجتمع. والحد الأدنى من المعرفة الضرورية المتعلقة بهذه القواعد لا يشمل فقط أن نعرف متى لا ينبغى أن نتخطى حدودها، ولكن أيضا متى توجب ضرورات وأولويات أكثر أهمية تجاهلها، فبينما لا يجوز لأحد التلصص على ما يدور في شقة جيرانه، يكون عليه أحيانا التدخل بشكل أو بآخر إن كان لديه شك مبرر في أن جريمة ما ترتكب، كأن يقوم أحد جيرانه بالتعدي بالضرب على زوجته مثلا. لا يمكن في حالات كهذه التذرع بحجة الخصوصية وحرمة الحياة الخاصة، وهو يشبه تماما أن يندلع حريق في منزل أحدهم فلا يكون ثمة اعتبار لخصوصية المكان عند من يرغب في المبادرة بإخماد الحريق. حياة وسلامة الأفراد لها الأولوية على خصوصيتهم وحرمة حياتهم الشخصية.

لا يُنتظر من الناس في المجتمعات الحديثة، الأكثر تعقيدا وتنوعا مما كانت عليه المجتمعات التقليدية، أن يحصلوا على الحد الأدنى الضروري من المعرفة بقواعد التعايش في المجتمع فقط من خلال تنشتهم في إطار الأسرة، ولكن المجتمع الحديث يعتمد على التعليم النظامي لتزويد أفراده بهذه المعرفة. هذا على وجه التحديد ما يجعل ما صدر عن زملاء الطبيب والأستاذ الجامعي مزعجا، فهؤلاء قد مروا بمراحل تعليمية متعددة تتخطى بكثير الحد الأدنى الذي يفترض أن يمر به جميع أفراد المجتمع، وهو مرحلة التعليم الأساسي، أو ما يسمى بالتعليم الإلزامي. ومع ذلك فمن الواضح أنهم لا يفتقدون فقط إلى الحد الأدنى من المعرفة الضرورية بالقانون وبمفهوم الخصوصية، بل إنهم بدلا من ذلك يمتلكون تصورات خاطئة ومضطربة عنهما. وفي حين يعد غياب المعرفة بأمر جهلا بسيطا، فالتمسك بمعرفة مغلوطة عنه، أي مخالفة لحقيقته، يعد جهلا مركبا، وهذا في الحقيقة أكثر إزعاجا لأنه يشير إلى ظاهرة أكثر عمقا وتعقيدا، ففي نهاية المطاف ثمة منطق تقوم عليه قواعد التعايش في المجتمع، بما في ذلك قوانينه. غياب المعرفة بهذه القواعد، يختلف كثيرا عن غياب المنطق الذي تقوم عليه، ويختلف أكثر عن سيادة منطق نقيض ينتج تصورات خاطئة أو معاكسة لها.

لماذا اعتقد زملاء الطبيب والأستاذ الجامعي أن ثمة ما يبرر أن يفلت بفعلته؟ هل التذرع بالخصوصية كاف هنا؟ لو أننا تصورنا أن واقعة الإهانة والإذلال هذه قد تعرض لها طبيب في ظروف مختلفة. لنقل مثلا أنه قد تعرض لسطو مسلح على طريق مهجور، وأجبره المعتدون تحت تهديد السلاح على إذلال نفسه بطريقة مشابهة، وقام أحدهم بتسجيل الواقعة في مقطع فيديو، تسرب لاحقا إلى مواقع التواصل الاجتماعي. هل سيطالب أحد بالعفو عن المعتدين بحجة أنه قد تم اختراق خصوصيتهم بتسريب مقطع الفيديو؟ الإجابة واضحة بالطبع. وإذا ما قال أحدهم أن الموقف مختلف لأن في الحالة الأخيرة ما يسجله مقطع الفيديو هو جريمة سطو مسلح، فهو في الحقيقة يعبر عن اعتقاده بأن ما سجله مقطع فيديو الطبيب والأستاذ الجامعي ليس جريمة، أو اعتقاده أن السلطة التي يمتلكها الطبيب على ممرض يعمل لديه ليس لها نفس أثر السلاح في واقعة السطو.

 

اقرأ أيضا:

عنف وتمييز وأجور متدنية.. واقعة “الطبيب والكلب” تفتح جراح مهنة التمريض

 

المقارنة بالمثال الافتراضي لواقعة سطو مسلح تكشف عن المنطق المنتج للتصورات الخاطئة عن القانون ومفهوم الخصوصية عند زملاء الطبيب. في ظل هذا المنطق يغيب الاعتداد بالقانون في الحالات التي تكون فيه صور مختلفة من الاعتداء على الأشخاص مبررة في نظر المجتمع بسبب نوع العلاقة بين المعتدي والمعتدى عليه، ومكانة كل منهما. في حالة الطبيب وممرضه، تبدو علاقة صاحب العمل بالعامل الأجير مبررة للتعديات التي ارتكبها ضده بأريحية تامة ودون شعور بالذنب. إذا ما تأملنا في كثير من القضايا التي أثيرت مؤخرا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي سنجد أن النمط نفسه من عدم الاعتداد بالقانون هو الطابع المميز لآراء الأغلبية عندما يتعلق الأمر بعلاقات الزوج بزوجته، الأخ بإخته، الآباء بأبنائهم، إلخ. في جميع هذه الحالات يسود في المجتمع تصور لحدود تدخل القانون لتجريم أشكال مختلفة من الاعتداء، مخالف لنصوص القانون نفسه. فالقانون، نظريا على الأقل لا يفرق في تجريم الفعل بين الحالات المختلفة لارتكابه، لأن المنطق الذي تقوم عليه القوانين الحديثة يفترض أولا المساواة بين الناس دون اعتبار للعلاقات المختلفة بينهم، وثانيا أن مبدأ تجريم أي فعل يتعلق بحفظ كرامة وسلامة وحياة الناس على السواء، فإذا كان الفعل يحط من الكرامة (كالسب والقذف) أو يعرض سلامة وحياة من يقع عليه للخطر (كالضرب والتعدي الجنسي وكل أشكال الاعتداء البدني)، فهو بالضرورة جريمة بغض النظر عن العلاقة بين من يرتكبه وبين من يقع عليه.

من الملاحظ طبعا أنه في حالة مقطع الفيديو للطبيب والممرض كانت أغلب ردود الأفعال على مواقع التواصل الاجتماعي غاضبة على الطبيب، برغم اعتيادية هذا النوع من الاعتداءات في علاقات العمل. وهذا على النقيض من المواقف السائدة كما أشرت في حالة التعديات الشائعة أيضا في علاقات اجتماعية أخرى كالعلاقات الأسرية بصفة عامة. هذا التناقض يعود إلى اختلاف العلاقات التي يشملها المجتمع بحماية امتيازات اجتماعية بعينها لأحد أطرافها كالزوج والأب والأخ إلخ، عن العلاقات التي تحمي امتيازات أحد أطرافها ظروف الأمر الواقع رغم أنف الغالبية. فما يحمي امتيازات صاحب العمل هو موازين القوى التي تميل لصالحه في مواجهة العمال الذين يعتمد رزقهم عليه، ولا توفر لهم القوانين حماية كافية لضمان حقوقهم. وما يحمي امتيازات ضابط شرطة إذا ما تعدى على أحد المواطنين هو الحصانة الممنوحة له خارج إطار القانون. ولكن في نهاية المطاف، أيا ماكان مصدر حماية المعتدي وتبرير اعتدائه، وأيا ماكان قدر رضا المجتمع عن هذه الحماية أو تسليمه بها على مضض، فهذه الحماية دائما تمثل عدم اعتداد بالقانون، وسيادة أشكال مختلفة لها في المجتمع وفي الواقع اليومي المعتاد يشير إلى غياب كبير لسيادة القانون، لا تتعلق فقط بجهل الناس به، ولكن بعدم اهتمامهم بمعرفته بالأساس، لأنه من جانب ليس فاعلا في الحياة اليومية بشكل كامل، ولأنه من جانب آخر يتناقض مع الحس المشترك المستقى من العادات والتقاليد وفهم الدين، وكذلك من الأمر الواقع الذي يفرضه تفاوت موازين القوى في العلاقات المختلفة.

ما غاب عن حديثي حتى هذه اللحظة رغم وجوده في عنوان مقالي هذا هو الكلب، البطل الغائب لمقطع الفيديو، والذي كان عدم احترام الممرض له سبب تعدي الطبيب عليه بالإهانة، ومطالبته بالسجود له. كان ذلك بالتأكيد سببا رئيسيا لتأجيج غضب رواد مواقع التواصل الاجتماعي على الطبيب، كما كان سبب توجيه النيابة العامة تهمة إزدراء الأديان إليه. في هذه الحالة كان تصرف النيابة امتداد للتصورات السائدة في المجتمع، بدلا من أن يكون تعبيرا عن القانون ومنطقه. يشبه ذلك تلاقي مؤسسات تطبيق القانون بصفة عامة مع التوجه السائد في المجتمع في ملاحقة المثليين برغم أن نصوص القانون والمنطق الذي يقوم عليه لا يجيز معاقبة شخص بسبب توجهه الجنسي. ربما يعد هذا أحد مداخل تفسير غياب الاعتداد بالقانون وسيادة منطق مناقض لمنطقه في المجتمع، في النهاية ما يحدث في بلدنا أن تطبيق القانون يخضع للسائد في المجتمع، بدلا من أن يكون أداة لتغليب منطق القانون في مواجهة الموروثات التقليدية. لا يجدي في مثل هذا الوضع أن يشمل التعليم النظامي مناهج للتعريف بالقانون أو بالحقوق والحريات، ولا يجدي معه نصوص القانون نفسها. وفي الواقع لا يبدو موقف الطبيب وزملائه المدافعين عنه مثيرا للدهشة، فهم على أي حال يتبعون السائد في المجتمع وهو الخضوع لمنطق القوة لا منطق القانون.