أشرنا في المقالة السابقة إلى الجوانب الإيجابية للألقاب، ودورها في شحذ التدافع الاجتماعيّ، وحراسة قيمه وتجسيدها حيّة، وكيف تعمل على تلبية حاجة الأفراد إلى الامتياز الاجتماعي. وهذه الوظيفة الإيجابية للألقاب جعلتها دائمًا موضع تنافس، فيحصل عليها المجدّون الموهوبون، ويدّعيها الخاملون العاطلون الذين يحبون أن يحمدوا على ما لم يفعلوا، وهنا تقع الألقاب على غير مُسَمى وتدلّ على غير مدلول، أي تصبح محض ادّعاء فارغ، وسَطْوًا من مدعيها على ما لا يملك.

وهناك صورة تراثية مأثورة عن هذه الألقاب الفارغة، سجلّها لنا الشاعر الأندلسيّ “أبو بكر بن عمار” (422- 477)  فقد راعه انقسام الأندلس الكبرى التي فتحها الخلفاء العظام إلى دويلات صغيرة، تتناحر فيما بينها، وتدفع – صاغرة – الجزية للأسبان، ورغم ذلك يحرص ملوك طوائفها الضعاف على التسمية بألقاب فخمة لا تتناسب مع مكانتهم الضئيلة وخضوعهم المهين لأعدائهم، فقال ساخرًا:

وَممَّا يُزَهّدُنِي في أَرْضِ أَنْدَلُسِ

سَمَاعُ مُعْتَمَدٍ فيها ومُعْتَضِدِ

ألْقِابُ مَمْلَكَةٍ في غَيْر مَوْضِعِهَا

كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَوْلَةَ الْأَسَدِ

لقد صار البيت الثاني تحديدًا مثلًا سائرًا، يردده الناس ساخرين من الألقاب حين تكون فارغة من حقيقتها، كالمعتمد بالله، والمستعين بالله، والمعتضد بالله… ولكنهم أهون ما يكونون عند بعضهم وعند أعدائهم وعند الناس..!

وما لاحظه الشاعر ابن عمار قديمًا لاحظه العقاد حديثًا، ولكن من زاوية أخرى، فقد انتشرت بشكل ملحوظ – بفضل الصحافة – الألقاب الشعبية والرسمية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، وكل لقب يشير إلى مكانة صاحبه ودائرة نفوذه، إلى الحد الذي جعل العقاد وهو يهاجم شوقي ينتبه إلى تأثير هذه الألقاب على ترتيب الشعراء وبيان قيمتهم الأدبية، فيقول ساخرًا من هذه الظاهرة:

“ومن اعتادوا (يقصد النقاد) أن يرتبوا المواهب على حسب الوظائف والألقاب، فمن هؤلاء من كنت تسأله ترتيب الشعراء فيقول لك: أولهم محمود سامي باشا البارودي (لأنه باشا عتيق) وثانيهم إسماعيل صبري باشا (لأنه أحدث عهدا بالباشوية والوزارة)، وثالثهم أحمد شوقي بك (لأنه بك متمايز) ورابعهم حافظ بك إبراهيم (لأنه أحرز الرتبة أخيرًا)، ويلي ذلك خليل أفندي مطران (لأنه حامل نيشان)، فطائفة الأفندية والمشايخ وهلم جرا…كأنما يرتبونهم في ديوان التشريفات لا في ديوان الآداب ..! (العقاد: الديوان ص8)

والألقاب التي ذكرها العقاد تنتمي إلى منظومة الألقاب الرسمية التي كان نظام الحكم قبل حركة الضباط في يوليو1952م يطلقها على المقربين منه، ليشد إليه الفضاء العام: الثقافي والسياسيّ والاقتصاديّ.. وظلت هذه الألقاب الطبقية سارية مؤثرة حتى حظرها ضباط يوليو باعتبارها من مخلفات العهد البائد، وكل عهد يجب أن يمتلك ألقابه ويعمل على خلق نموذجه الذي يمثل قيمه ورؤيته، وبما أننا أسقطنا الحكم الملكي واخترنا نظام الحكم الجمهوري الديمقراطي، فمن الضروري أن تسود ألقاب جديدة تدعم فكرة المواطنة وقيمة المساواة، ومن هنا وجدنا استبعادًا حازمًا للألقاب الطبقية التمييزية، وذلك مقابل سيادة واضحة للقب “السَّيْد”، وهو لقب محايد، يؤشر لسيادة الشعب الذي يمنح الثقة لحكامه ويسحبها منهم متى شاء.

ثورة 23 يوليو غيرت الألقاب في مصر

ولكن النظام الجديد ظل متعثرًا، ولم يتمكن من تجذير نموذجه القيمي البديل: المواطنة والمساواة، والمحاسبة وتداول السلطة، ومع هزيمة 1967م اهتزّت صورة النظام الجديد، وهيمن الشّك على المسار من أوله؛ فاختفى لقب “السيد”، وعادت منظومة ألقاب ما قبل الثورة بشكل جزئي وغير رسمي، واحتكرتها سلطة (الضباط) لنفسها في مخاطباتها الشفاهية مثل: باشا وبيه.. دون أن تمثل أي معنى مفهوم سوى الرغبة في التميز الشكليّ الذي قد يؤشر لحالة من النكوص النفسي، تحاكي فيه السلطة الحالية طبقة الحكم من رجال (العهد البائد).

هناك إذن علاقة بين التحولات الاجتماعية والاقتصادية والألقاب ومنظومة القيم وحين تفشل الألقاب في تجسيد القيم الجديدة تغدو عبئًا اجتماعيًا، أو تصبح – على أقل تقدير – لغوًا من القول، لا يميّز أصحابه تمييزًا حقيقيًا؛ فهو لا يشير إلى مكانة أو قيمة مستحقة، ومن ثم يغدو دليلًا على الزيف الاجتماعي والثقافي وافتقاد البوصلة، وما يتصل بهذا كله من فوضى واضطراب.

*لقب المِعَلِّم

يمكننا هنا أن نتأمل في هذا اللقب الشعبي لنطل على جانب من هذا التحولات الاجتماعية والاقتصادية. فهذا اللقب يطلق على الحِرَفي الذي بلغ مكانة راسخة في حرفة ما، كالبناء وصناعة الأثاث والذهب.

ويمكننا أن نقول – دون أن نتهم بالمبالغة- لقد كتان هذا اللقب وحتى وقت قريب، كالمؤسسة التي تنتقل من خلالها أصول الحرفة ودقائق فنّها من جيل إلى الجيل الذي يليه، ولا يقتصر الأمر على نقل المهارات اليدوية فحسب، وإنما يحرص المعلم على أن يتشبع المتعلمون (صبيانه) بقيم هذه الحرفة التي تضمن جودتها وتكتسب ثقة جمهورها.

كان المعلم في حرفته كالشيخ أو الإمام في علمه وردسه، كان مرجعية تحفظ الأصول وتصون الحرفة وتدعم المتعلمين الجدد، فإليه يعود صبيانه الذين يدينون له بالولاء، ويحفظون له مكانته وقيمته حتى آخر العمر. كما كانت قيمة المعلم معتبرة اجتماعيا أيضًا، ولعلك تذكر عبارة (كلام معلمين) بما يعني أنه كلام موثّق، ولا يمكن التراجع عنه بمجرد تلفظ  أحد (المعلمين) به.

ولكن الملاحظ أن هذا اللقب فقد قيمته وتراجعت مكانته، وخاصة مع التغيرات الاجتماعية في العقود الأخير، حيث أصبح الاستهلاك قيمة في ذاته، وانفصلت العلاقة بين الإنتاج والقيم، وصار كل شيء يقدر بثمنه وقدرته على الوصول إلى أكبر عدد من المستهلكين، ومع الوقت تفككت مؤسسة (المعلم) وانفض عنه صبيانه إلى عالم الكسب السريع، وهكذا صار هذا اللقب عاريا من المعنى، ومع الوقت احتكره المتعطلون، وأصبح مرادفًا – تقريبًا – لكلمة بلطجي..!!

ومع التحولات الدينية الاجتماعية، وغلبة التدين الطقسي، وسهولة الذهاب إلى بيت الله الحرام، مال المعلمون السابقون إلى لقب (الحاج)، ولو وضعت قدمك اليوم في ورشة نجارة أو ورشة تصليح السيارات.. سوف تجد (الصبيان) ينادون معلمهم بالحاج.. الحاج راح والحاج جاء..!!

وماذا تعني كلمة الحاج؟

تعني أنه من ذهب إلى بيت الله الحرام حاجًا، وكانت لفترة طويلة غير متداولة في الحياة اليومية المصرية، ولا تقال إلا لمن ذهب إلى بيت الله الحرام بالفعل، كما أنها لا تقال إلا في سياقات عائلية ضيقة. ولو ادعاها أحد الناس دون أن يذهب إلى بيت الله لغدا موضوعا لسخرية الساخرين..!!

ولكنها الآن غدت مشاعًا بين الجميع، ويدّعى بها من لم تطأ قدمه أرض الحجاز، لو ذهب أحدنا – اليوم – إلى مصلحة حكومية الآن لوجدت من يرشدك إلى مكتب (الحاجة)، وحين تطرق بابه تجد مكانًا فخمًا تجلس عليه مهندسة متوسطة العمر، ولكن الجميع يناديها بالحاجة، وهي تتلقى ذلك بنوع من الفخر أو الصمت والرضا..!!

لقد تطوّر الأمر إلى حالة من الابتذال، حتى لتجد فتى في الشارع يناديك – على سبيل التدليل حين يشاهد شعرك الأبيض – يا حاج، يا حجيج، يا حجنا ..!!

وهكذا نغدو إزاء وضع عام، لا تدل فيه الألقاب على قيم مدنية تشير إلى توجه سياسي أو تصور اجتماعي واضح، حتى لو كنا نختلف معه، كما أنها لا تدل على قيم دينية حقيقية، وتراجعت إلى أقصى حد الألقاب التي تجسد القيم الإنسانية التي لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات.