يبدو المشهد السياسي السوداني مفعما بالتوتر، منذرا بانفجارات قد تنهي الفترة الانتقالية، على نحو قسري، وهو كذلك مفتوح على سيناريوهات عدة ليس من بينها الاستقرار السياسي حتى الآن.

في هذا السياق يلعب الخطاب السياسي دورا مركزيا في قيادة الأوضاع نحو التهدئة والاستقرار أو المساهمة في تصاعد التوتر، ويبدو أن الخطاب السياسي السوداني يشهد متغيرات حاسمة في هذه المرحلة بما جعله أهم عوامل انزلاق السودان ربما نحو العنف الأهلي.

هذه الحالة المتردية يتحمل مسئوليتها طرفا المجلس الانتقالي بأوزان متفاوتة، فالمكون العسكري تبدو استراتيجياته هي محاولة احتواء الثورة السودانية وبلورة معادلات تضمن استمراره مهما كانت الأثمان المدفوعة، بينما المكون المدني لم يخل من داء الانقسام السياسي التاريخي، وانتهازية بعض فصائله أو زعمائه، الأمر الذي ساهم في خلل بتوازنات القوى لصالح المكون العسكري، بما جعله قادرا على إنتاج خطاب متعال على المكون المدني، في المرحلة الأخيرة محاولا توظيف المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت مؤخرا بالخرطوم  لتأكيد عدم جدارة المدنيين كشركاء في إدارة البلاد.

وتحت مظلة غياب آليات العدالة الانتقالية يمكن رصد أن موقف المكون العسكري من الثورة السودانية تحكمه المخاوف من إمكانية تعرض بعض رموزه لمحاسبة قد ترقي لمحاكمات عن أدوارهم إبان نظام البشير، أو المسئولية الجنائية عن أحداث فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية في ٣ يونيو من عام ٢٠١٩، كما يحكمه أيضا السعي إلى الحفاظ علي ملامح الصورة النمطية للمؤسسات العسكرية، من حيث الحفاظ علي الهيبة، والقدرة علي الحسم في المواقف الملتبسة.

3 محطات

في هذا السياق يمكن رصد ثلاث محطات في التفاعل بين الطرفين المدني العسكري في السودان لعب فيهم الخطاب السياسي من جانب المكون العسكري دورا رئيسيا إما في التهدئة أو في تصاعد التوتر المنذر دائما بإنهاء الفترة الانتقالية على نحو قسري.

المحطة الأولى الاستجابة لمطالب الثورة السودانية في خلع الرئيس البشير عن سدة الحكم في ١١ إبريل ٢٠١٩، حيث تم استخدام آلية خطاب الاستجابة إلى مطالب الشعب السوداني الثائر، والنزول علي رغبته، وتكوين مجلس عسكري بعد ذلك بيومين، على أن المجلس ترأسه  عوض بن عوف الذي شغل منصب وزير الدفاع في نظام البشير، فتم رفضه من قوى الثورة السودانية، وتمت تنحية الرجل، ولكن طبقا لأدبيات المؤسسة العسكرية وهي التنازل الطوعي وليس النزول عند الرغبات الشعبية السودانية، من هنا استخدمت المؤسسة العسكرية خطاب تنازل  الفريق الركن عوض بن عوف عن مسئولياته لعبد الفتاح البرهان كرئيس للمجلس العسكري، وليس تنحيه أمام ضغوط الشعب السوداني الثائر. وقال بن عوف “أعلن أنا رئيس المجلس الانتقالي التنازل عن هذا المنصب لمن أثق في خبرته وكفاءته…، وبناء عليه بعد التفاكر والتشاور والتمحيص، أعلن الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيسا للمجلس العسكري الانتقالي خلفا لي”، وفي ذات السياق تمت تنحية عضو آخر بالمجلس العسكري علي خلفية انتمائه الإيديولوجي للجبهة القومية الإسلامية، ولكن أيضا بآلية المنح، حيث أعلن بن عوف ”إعفاء الأخ الكريم الفريق أول دكتور ركن كمال عبد المعروف الماحي بشير من منصبه نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي بعد أن أصرّ على ذلك فعجز منطقي عن إقناعه وعجزت قناعتي عن إثنائه وبقائه في الموقع حتى إلى حين”.

الفريق عبدالفتاح البرهان
الفريق عبدالفتاح البرهان

ويمكن القول إن الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي قد استخدم خطابا سياسيا محتفيا بالثورة السودانية وشهدائها، ولكن جاءت أزمة فض الاعتصام لتمثل محطة المواجهة الثانية بين المكون العسكري والمدني ، والتي تم الاعتراف فيها بالمسئولية عن فض الاعتصام ولكن بعد تدخل جهات إقليمية ودوليه، حيث أقر المتحدّث باسم المجلس العسكري الحاكم في السودان في ١٤\٦\٢٠١٩ بأن المجلس العسكري هو الذي أمر بفض اعتصام القيادة العامة، وأوضح الفريق أول شمس الدين كباشي للصحافيين أنّ “المجلس العسكري هو من اتّخذ قرار فض الاعتصام.. ووضعت الخطة لذلك، ولكن بعض الأخطاء والانحرافات حدثت”. وتابع مبررا بأنه تم التخطيط لـ”أكثر من انقلاب”، أحبطت جميعا، وهناك “ضباط من مجموعتين مختلفتين الآن قيد الإيقاف“

في هذا السياق تبلور خطاب المكون العسكري في اتجاه الإخلاص لمحاسبة المتورطين في فض الاعتصام حيث تعهد نائب رئيس المجلس الانتقالي محمد حمدان دقلو  في سبتمبر  ٢٠١٩ بمحاسبة المسئولين عن فض الاعتصام. “لو ثبت أنهم من المجلس العسكري” مؤكدا أن العدالة ستأخذ مجراها “حتى نوصلهم لحبل المشنقة.

التغير الكيفي في الخطاب السياسي للمكون العسكري والمعبر عن استراتيجياته النهائية فيما يبدو جاء تحت مظلة متغيرين الأول أحداث شرق السودان، والثاني هو قرب تغيير رئاسة المجلس الانتقالي ليتولاها المكون المدني طبقا لمنطوق الوثيقة الدستورية، وذلك في نوفمبر القادم.

تصاعد الاحتجاجات في شرق السودان
تصاعد الاحتجاجات في شرق السودان

وقد برز في مطالب شرق السودان مدى الضيق والضغط الذي تسببت فيه لجنة إزالة التمكين لعناصر نظام البشير (الفلول) علي الصعيدين السياسي والاقتصادي، وكذلك الرغبة في إضعاف المكون المدني، حيث طالب محمد الأمين ترك رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا بشرق السودان، بإنهاء أعمال لجنة إزالة التمكين، وتكوين مجلس عسكري جديد يكون ممثلا لأقاليم السودان الستة، وكذلك تغيير حكومة حمدوك، وذلك كله تحت مظلة المطالبة بإلغاء مسار الشرق في اتفاقية جوبا للسلام الموقعة بين الحكومة والفصائل المسلحة في أكتوبر ٢٠٢٠.

المطالب الثلاثة لإقليم شرق السودان ألقت بظلال كثيفة من الشك على المكون العسكري خصوصا في ظل عدم تحركه مصطحبا المجلس الانتقالي لحل الأزمة المهددة للأمن القومي لدولة السودان، حيث يتحكم إقليم الشرق في تواصل السودان مع العالم من منصة البحر الأحمر كما يتحكم في اقتصادات دولة جنوب السودان عبر تصديره النفط من ميناء بشاير الذي تم إغلاقه مع مجمل موانئ شرق السودان.

 تم تصنيف أحداث الشرق من جانب الشارع السياسي السوداني علي أنها أحداث مصنوعة بهدف عدم تسليم رئاسة السلطة الانتقالية.

وقد تراكمت الشكوك بشأن نوايا المكون العسكري بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في الخرطوم، حيث تبلورت هذه الشكوك في سيناريوهين: الأول، أن المحاولة الانقلابية واقعية، وتم إجهاضها مبكرا، أما السيناريو الثاني فقد اتجه نحو أنها قد صنعت كبالون اختبار للداخل والخارج بشأن اختبار الموقف من حدوث انقلاب عسكري في السودان، ونتيجة لذلك صدرت الكثير من الخطابات الإعلامية والسياسية المشككة في أهداف المكون العسكري.

ومع تغير توازنات القوى بين المكونين المدني والعسكري بعد عامين من الثورة بتأثير مباشر من انقسامات تحالف الحرية والتغيير، وتغول المكون العسكري علي صناعة القرار، فإنه قد تم توظيف المحاولة الانقلابية الفاشلة في شيطنة المكون المدني من جانب المكون العسكري وتحمليه مسئولية الانقلاب العسكري الفاشل بسبب مباشر في فشل الحكومة السودانية وحاضنتها السياسية في مواجهة الأزمات المتفاقمة على الصعيد الاقتصادي المؤثرة علي حياة الناس اليومية، والانشغال بتقاسم المناصب.

وقال الفريق عبد الفتاح البرهان في هذا السياق غداة السيطرة على الأوضاع في الخرطوم في حفل لتخريج «قوات خاصة» بمنطقة وادي سيدنا شمالي الخرطوم، إن القوات المسلحة (الجيش) أجهضت المحاولة الانقلابية، ولم تفعل ذلك جهة ثانية، وتباهى البرهان بقواته، وعدّها الحارس والحامي الوحيد للتغيير، مقابل جهات لم يسمّها «همها كرسي في السلطة»، وقال بهذا الخصوص: «القوات المسلحة هي التي تحرس التغيير، وهناك جهات معينة ليس لديها هَمّ سوى أن تجد كرسياً في وزارة تقاتل من أجله». في إشارة إلى المكون المدني في الحكومة الانتقالية.

كما اتهم البرهان الأحزاب السياسية بشن حملات مناوئة للقوات المسلحة، بقوله: «الأحزاب السياسية توجه سهامها للقوات المسلحة، وتعد شتم العسكريين والإساءة إليهم معياراً لتوظيف العاملين في الدولة»، وتابع موضحاً: «نقول لشركائنا: يجب رعاية هذه الشراكة، وأن نضعها نصب أعيننا، ولا تستطيع جهة واحدة قيادة البلاد، قبل أن نضع وحمّل البرهان الإخفاقات التي شهدتها الفترة الانتقالية للشركاء المدنيين بقوله: «بيدنا كل شيء، ورغم ذلك تركنا العمل التنفيذي لمجلس الوزراء، ورغم ثقتنا في وطنيتهم، لكننا نرى انحرافاً عن المسار الصحيح». مضيفاً أن «القوى السياسية التي كنّا نتفاوض معها قبل تكوين السلطة الانتقالية تساقط منها جزء كبير، ولذلك نحن ندعو لوحدة هذه القوى التي فجّرت الثورة، ونطالب كل القوى الوطنية الأخرى بأن تشارك في الفترة الانتقالية».

واستنكر البرهان البيانات الصادرة عن الحكومة والقوى السياسية بشأن المحاولة الانقلابية، واتهمها بعدم إنصاف القوات المسلحة، بقوله: «إنها لم تقل إن القوات المسلحة هي التي أجهضت المحاولة الانقلابية، لكننا لا نزال نمد حبال الصبر». مجدِّداً الثناء على القوات المسلحة، وعلى دورها في إحباط المحاولة الانقلابية.

ردود الفعل علي خطاب البرهان تم وصفها من جانب المكون المدني بكونها تمهد لأجواء انقلابية، وذلك على لسان مستشار رئيس الوزراء فيصل محمد صالح، حيث تصاعد التوتر بين الأطراف ودخل العامل الخارجي على خط الأزمة، فكان لافتا صدور بيانات من الخارجية الأمريكية ومجلس الأمن بشأن رفض المحاولة الانقلابية في السودان، والإعلان عن زيارة قريبة للمبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي جيفري فليتمان للخرطوم في غضون الأيام القادمة.

حمدوك
حمدوك

الإسناد الأمريكي للمكون المدني ساهم في صدور خطابات متعالية نسبيا من الجانب المدني والقوى السياسية، حيث طالب تجمع المهنيين بإنهاء الشراكة مع المكون العسكري وتسليم كل السلطة للمكون المدني وهي الخطوة  التي رد عليها البرهان بأن القوات المسلحة“ وصي على الشعب السوداني“، وسحب حراسات القوات الأمنية المشتركة من لجنة إزالة التمكين وحوالي ٢٢ موقعا اقتصاديا كانت تحت ولاياتها تم مصادرتها من عناصر النظام القديم، كما أوقف الاجتماعات مع المكون المدني، واتهم بعض عناصره“ بالولاءات المزدوجة ”على أن الخطاب الأكثر خطورة هو الذي صدر عن محمد حمدان دقلو الذي قال: “لدينا شارع ” ردا علي استقواء “الحرية والتغيير” بالشارع السوداني، بما ينذر بإمكانية مواجهات بين القوى الثورية ومنتسبي نظام البشير، والجبهة القومية الإسلامية، وذلك تحت مظلة تكدس للسلاح في العاصمة السودانية وغيرها من المناطق  .

الشاهد أن الأوضاع في السودان تسير نحو سيناريوهات مرعبة، رغم مجهودات رئيس الوزراء السوداني د. عبدلله حمدوك في محاولة احتواء الموقف.