أثار سقوط أفغانستان في أيدي حركة طالبان، بعد 20 عامًا من المواجهات والمحاولات الدولية لتغيير وجه الدولة، كثيرًا من المخاوف. وطرح فرضيات مشابهة بمناطق النزاعات حول العالم، لاسيما الدول المتشابه مع كابول في الظروف السياسية والاجتماعية. وفي المقدمة التجربة الصومالية التي شهدت ترسخ مشروع حكم إسلامي بعد فترة طويلة من الصراع. إلا أن القوى الخارجية طردته في سياق الحرب العالمية على الإرهاب (الولايات المتحدة في أفغانستان وإثيوبيا في الصومال).
هذا التشابه في التجربتين، أثار فضول مجلة “فورين بوليسي“، التي نشرت تحليلاً يُشرِّح الظروف في البلدين. ويجيب عن السؤال المخيف للغرب والمنطقة: هل يمكن أن تصبح الصومال أفغانستان التالية؟.
تشابه أيديولوجي حدَّ التطابق
التقرير الذي يتناول الظروف الخارجية والداخلية للتجربتين، لم يغفل التكلفة البشرية والمادية الهائلة. وطرح سؤالاً حول جدوى مشاريع بناء الدولة المدعومة دوليًا، في ظل غياب تسوية سياسية شاملة. لذلك رأى أنّ ظروف أفغانستان ربما لا توجد في أي مكان كما هو الحال في الصومال.
ينطلق التحليل من فترة ما بعد طرد المشروع الإسلامي، وهنا بدأت مشاريع بناء دولة مدفوعة من الخارج لتحل محل هياكل الحكم السابقة، فضلاً عن حركات التمرد المتزايدة ضد تلك التدخلات بقيادة طالبان (أفغانستان) والشباب (الصومال).
المحاولات الدولية لتثبيت الحكومات الجديدة من خلال المساعدة الأمنية الخارجية كافحت لخلق مستويات مطلوبة من الشرعية المحلية. ففي الحالة الصومالية، يعتمد بقاء الحكومة بشكل كبير على القوات الخارجية، لأنها غير قادرة على دفع رواتب شرطتها وجيشها. مع محدودية القدرات البشرية والمعدات الوقائية والتدريب، يواجه الجيش الصومالي حروبًا حديثة على غرار حرب العصابات. فضلاً عن مقاتلين عازمين على المخاطرة بحياتهم بأي ثمن.
هذا الدافع الأيديولوجي المتشابه، أدى في الوضعين إلى اعتماد الحكومات الناشئة على الجهات الخارجية من أجل بقائها ومواكبة أعدائها. في حالة أفغانستان، كان هذا المشروع غير قادر على البقاء بمجرد أن سحبت الجهات الفاعلة الخارجية دعمها. وذلك على الرغم من إنفاق هائل تجاوز مليارات الدولارات من المساعدات غير المشروطة إلى حد كبير على مدى عقدين من الزمن. لكن ذلك لم يترجم أبدًا إلى سياسة مستديمة.
اختلافات حركية وسياسية
ورغم التشابه السابق، يذهب التحليل إلى أن ثمة اختلافات بين الصومال وأفغانستان. إذ إن تمرد حركة الشباب ليس مشابهاً لتمرد طالبان من نواحٍ عديدة، فهو يفتقر إلى خبرة طالبان في الحكومة، ولا يزال ينخرط علنًا في هجمات إقليمية خارج حدود الصومال. ولم يظهر أيّة رغبة في مستوى الاعتراف الدولي الذي يبدو أن طالبان تسعى إليه. كما أن حركة الشباب لا تمتلك ملاذاً آمناً خارج الصومال، على غرار ما كان يتمتع به قادة طالبان في باكستان.
علاوة على ذلك، تختلف الحكومة الصومالية عن النظام المركزي الذي كان موجودًا في أفغانستان حتى وقت قريب. ففي الصومال، يمثل النظام الفيدرالي القائم على النظام العشائري تجربة “معقدة”. هذا يمكن أن يجعل محاولات النظام لنزع فتيل التوترات وربما يكون أفضل من الترتيبات الأكثر مركزية، حتى لو أدت الطبيعة غير المستقرة لحكومة لا تزال تعمل بموجب دستور مؤقت إلى تفاقم الخصومات بين مراكز القوة التي تتنافس على الموارد والسيطرة على نطاق أوسع.
بالإضافة إلى ذلك، تختلف طبيعة الدعم الدولي، حيث يقتصر في الحالة الصومالية على تأمين مساهمات مالية غربية. لكن قوات الاتحاد الأفريقي هي من تقوم بالمهام ميدانيًا، مما يجعلها مشروعًا إقليميًا مدعومًا من قبل جهات فاعلة لها مصالح واضحة في الحفاظ على أمن الصومال. وهذا بدوره يجعل المشاركة أقل تحركًا من قبل لاعب قوي مثل الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التكاليف الإجمالية في الصومال أقل بكثير من التريليوني دولار التي أنفقتها الولايات المتحدة في أفغانستان. مما يعني أن الحفاظ على المستوى الحالي للمشاركة أقل تطلبًا.
3 محددات لتفادي “طلبنة” الصومال
لكن رغم هذا الاختلاف الذي يبدو ظاهريًا، ثمة أوجه تشابه كبيرة تثير السؤال عما إذا كان الصومال في مسار مشابه. وبناء على ذلك، يحدد التحليل 3 عوامل رئيسية يمكنها الإجابة على هذا السؤال، هي: قوة تمرد حركة الشباب، وأداء الحكومة الفيدرالية المتعثرة، ومستويات صبر الشركاء الدوليين. ولسوء الحظ، فإن المؤشرات قاتمة، وبدون تغيير جذري، يمكن أن يعكس مسار الصومال بشكل جيد النتيجة في أفغانستان.
هذه المؤشرات تستند إلى انتعاشة حركة الشباب في السنوات الأخيرة. بعد خسارة أجزاء كبيرة من الأراضي التي كانت تحت سيطرتها قبل عقد من الزمن. وهي الآن بدأت التكيف الميداني من خلال إبراز قوتها ونفوذها، دون الحاجة إلى السيطرة المادية على المراكز الحضرية. وقد ترك هذا الحكومة وشركاءها الأمنيين الدوليين يتدافعون للسيطرة على الموقف.
15 مليون دولار شهريًا.. عائدات حركة الشباب تفوق عائدات الحكومة نفسها
على سبيل المثال، توفر الجابة التي تفرضها حركة الشباب تدفقات مالية كبيرة. لدرجة أن العديد من المفاوضين الحكوميين في مقديشو لا يشرعون في تجديد منازلهم دون دفع أموال الحماية للجماعة. وإلا فإنَّهم يخاطرون بالتعرض للهجوم. وقدرت إحدى الدراسات عام 2020 قيمة هذه الجباية بـ15 مليون دولار شهريًا، يأتي أكثر من نصفها من مقديشو نفسها. حيث تسيطر الحكومة الفيدرالية الصومالية، بدعم من قوات الاتحاد الأفريقي من الناحية الفنية. ورغم ذلك من الصعب تحديد إجمالي إيرادات الجماعة. لكن العديد من الأشخاص الذين قابلهم استقصائيون تابعون للمجلة في مقديشو يؤكدون أن عائدات حركة الشباب تفوق عائدات الحكومة نفسها.
مفارقة نادرة في محاكم حركة الشباب!
المفارقة الغريبة، أو ربما الفريدة في مثل هكذا ظروف، أن حركة الشباب (وفق المجلة الأمريكية)، أظهرت مستوى متقدمًا من العدالة!. لدرجة أن مسؤولين حكوميين من مقديشو يختارون التقاضي أمام محاكم تابعة لحركة الشباب لمعالجة نزاع على أرض أو مسألة مماثلة. يضيف التحليل أن “سجل الجماعة إزاء الفساد منخفضًا، وسياساتها متسقة أكثر من الحكومة نفسها”. رما تلك الزاوية تفتقدها حركة طالبان نفسها التي سيطرت على مناطق بسهولة وبقاعدة جماهيرية، رغم ملاحقتها بفساد وتجارة غير شرعية.
لكن هذا لا يعني أن حركة الشباب تتمتع بشعبية واسعة، باستثناء أنها تمتلك قدرة إدارية على إنقاذ القانون أثبتت فعاليتها مقارنة بالحكومة الفيدرالية. وهو ما رسّخ وجود حركة الشباب في المناطق الريفية، بينما تمس إدارة الظل التابعة لها جميع المراكز الحضرية في البلاد تقريبًا. علاوة على ذلك، فإن نجاح طالبان أضاف جرعة من الجرأة لحركة الشباب. بالنظر إلى التغطية الحماسية التي منحتها منافذها الدعائية لشهور طويلة من هجوم طالبان في جميع أنحاء أفغانستان.
الحكومة الصومالية تنخر جسّدها بيدها
في المقابل، فإن الحكومة الصومالية تفشل على عدة مستويات، فهي لم تتمكن من وقف تسلل حركة الشباب إلى المراكز الحضرية. كما اتسمت السنوات الماضية بالفساد والصراع السياسي بين الحكومة الفيدرالية في مقديشو والعديد من الدول الأعضاء داخل الهياكل الفيدرالية الصومالية. نتيجة لذلك، سقطت الإصلاحات الرئيسية، مثل تنفيذ هيكل للأمن القومي، ووضع اللمسات الأخيرة على الدستور المؤقت، والتقدم نحو انتخابات العامة.
كما أن الجدل المستمر حول الانتخابات التي تأخرت كثيرًا يمثل أحد المظاهر الأكثر واقعية لمدى انقسام النخب السياسية الصومالية. وكيف يتمحور تركيزهم السائد حول تأمين المصالح الشخصية في كثير من الأحيان على حساب المصلحة الوطنية الأوسع.
واقتربت الخلافات بين السياسيين من إثارة العنف. بعد أن مدد مجلس النواب ولاية الرئيس محمد عبد الله محمد في أبريل. أدى الخلاف بين الحكومة والمعارضة إلى تجدد القتال في مقديشو مع أصداء واضحة للحرب الأهلية عام 1991. وأجبرت المواجهة الرئيس على التخلي عن محاولته لتمديد ولايته لمدة عامين.
في الآونة الأخيرة، هدد الصراع على السلطة بين رئيس الصومال ورئيس الوزراء باندلاع المزيد من العنف في العاصمة. ظهر هذا الخلاف بعد اختفاء ضابط كان يعمل في جهاز الأمن والمخابرات الوطني وأعلن عن وفاته في وقت لاحق دون تفسير مقنع.
لذلك، فإنّ انتخابات مجلس النواب القادمة تبدو أكثر تعقيدًا، حيث سيتم اختيار ممثل من وفد ينحدر من عشيرته الفرعية. يتم اختيار هؤلاء المندوبين بدورهم من قبل كبار السن ومجموعات المجتمع المدني من تلك العشيرة الفرعية. ومع ذلك، من المحتمل أن يتكرر مستوى التلاعب الواضح الذي حدث في انتخابات مجلس الشيوخ.
إحباط غربي.. ونُذْر انسحاب
هذا المستوى السياسي أصاب المجتمع الغربي بإحباط، لذلك قال الاتحاد الأوروبي، الذي يوفر التمويل لقوات الاتحاد الأفريقي، إن مساهماته ستنخفض في عام 2021. كما أعادت الولايات المتحدة في الأيام الأخيرة لإدارة ترامب تمركز قواتها خارج البلاد، وهي خطوة لم تتراجع عنها إدارة بايدن. كما حجب الاتحاد الأوروبي دعم الميزانية للحكومة الفيدرالية الصومالية في ديسمبر 2020 بسبب الخلاف الانتخابي المطول.
يثير هذا الإحباط والإرهاق المتزايد من جانب المانحين التساؤل حول ما إذا كان الانسحاب على غرار أفغانستان وشيكًا. إذا لم يعد الشركاء الدوليون يرون فائدة من تمويل مشروع بناء الدولة الصومالية. في ظل ضعف قدرة الاتحاد الأفريقي في الحفاظ على الأمن هناك.
يضاف إلى ذلك، أنّ القوات الصومالية ليست مستعدة لتحمل المسؤولية الأساسية، وأي انسحاب سريع من شأنه أن يفيد حركة الشباب. لكن في هذا الحالة فإنّ مصالح الجارتين إثيوبيا وكينيا تفرض إمكانية الحفاظ على وجود أمني مستمر على الصعيد الثنائي. وهو اختلاف رئيسي عن أفغانستان، على الرغم من أن هذا غير مضمون، حيث تمر إثيوبيا باضطراب داخلي حاد، وتواجه كينيا انتخابات العام المقبل. وقد يصبح وجود القوات الكينية عبر الحدود قضية انتخابية.
لذلك فإن احتمالية حدوث انسحاب، يبقى رهن أن يرى الشركاء الدوليين أن عائد الاستثمار في الحكومة الفيدرالية يؤدي لنتائج تافهة. وهو ما يتسق مع حديث الرئيس الأمريكي جو بايدن عن سياسة إدارته في أفغانستان، حيث أشار إلى أنه “لن يوفر أي قدر من القوة العسكرية أبدًا أفغانستان مستقرة وآمنة”. قد يشير ذلك إلى أن الرئيس الأمريكي، الذي يؤيده الكثير من الجمهور الأمريكي (كما تظهر استطلاعات الرأي)، لا يرى قيمة تذكر في استمرار دعم مشاريع بناء الدول الفاشلة. من الواضح أن الصومال يقع ضمن هذه الفئة.
جرس إنذار
المحددات السابقة، تعتبر جرس إنذار للنخبة السياسية الصومالية التي أمضت معظم العام الماضي تتشاجر حول الانتخابات. ولذلك فهم مطالبون بإثبات أن مشروعهم يستحق الاستثمار المستمر من أجل تجنب فقدان المزيد من الدعم الخارجين ومن ثم الانهيار.
وتبقى الخطوة الأولى الحاسمة لإثبات ذلك، هي إجراء انتخابية سلسة وذات مصداقية ونزيهة. وهذا من شأنه أن يساعد البلاد على الخروج من دورة الانتخابات المتوقفة، وإنتاج قيادة جديدة لمعالجة القضايا الملحة التي يواجهها الصومال. كما تمهِّد الطريق للمصالحة اللازمة. بدون ذلك، ستتشكك الجهات الخارجية بشكل متزايد في استثماراتها بمشروع بناء الدولة الصومالية.
كما أن الجهات الخارجية، مطالبة بإرسال رسالة واضحة إلى النخب الصومالية مفادها أن المزيد من الجدل وعدم القدرة على المضي قدمًا سيعني إعادة تقييم استثماراتهم. وهذا من أجل الضغط على القادة السياسيين الصوماليين للالتزام بالسماح بإجراء الانتخابات.
5 خطوات أساسية
ويحتاج ذلك، إلى تحسين بيئة الانتخابات، من خلال تشكيل لجنة تسوية المنازعات الانتخابية. بالإضافة إلى لجنة من منظمات المجتمع المدني لمراقبة ورصد المخالفات أو أي تلاعب انتخابي محتمل. فضلا عن إيجاد مشروع مصالحة جادة وطويلة الأمد، تقوده الحكومة ويصل إلى المجتمعات المحلية والمستوى الفيدرالي. كما أن الحاجة باتت ضرورية لإيجاد آلية تخلق حلاً وسطاً لتنظيم تقاسم السلطة والموارد، وإعادة ضبط الهيكلة الأمنية.
هذه الترتيبات ستقود إلى وضع اللمسات الأخيرة على الدستور وإرساء الأساس لعملية انتخابية أكثر شمولاً في غضون أربع سنوات. وذلك يمكن أن يكون لهذه الإجراءات تأثير مزدوج: زيادة مصداقية الحكومة مع إقناع المجتمع الدولي بأن مشروع بناء الدولة في الصومال يستحق الاستثمار المستمر.