انطلقت اليوم الثلاثاء في بيروت وثيقة “نختار الحياة” التي أعدها نخبة من المفكرين واللاهوتيين المسيحيين. بهدف وضع توصيف دقيق للسياق الذى يعيش فيه المسيحيون في الشرق الأوسط وعرض للتحديات التي يواجهونها على أن تلتمس بعض الخيارات التي يتعين على المسيحيين الشرقيين تبنيها إن أرادوا التعامل بجدية مع معنى حضورهم ووجودهم. إذ كان من أبرز المشاركين في إعداد تلك الوثيقة دكتورة ثريا بشعلاني الأمين العام السابق لمجلس كنائس الشرق الأوسط وأستاذ اللاهوت بالجامعة اليسوعية وميشيل نصير منسق برامج الشرق الأوسط بمجلس الكنائس العالمي بجنيف. والأب غابي هاشم مدير دائرة العلاقات المسكونية بمجلس كنائس الشرق الأوسط وآخرين.
ما الذى تطرحه وثيقة “نختار الحياة”؟
الوثيقة التي تقع في 42 صفحة قدمت توصيفا أكاديميا للوضع السياسي والثقافي في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة محاولة. رسم دورا جديدا للمسيحيين العرب في تلك الظروف بالشكل الذى يتسق مع حضورهم التاريخي في المنطقة وأدوارهم السياسية والاجتماعية التي قدموها عبر قرون.
أشارت الوثيقة إلى ما جرى في السنوات الأخيرة من تغييرات كبرى شهدتها منطقة الشرق الأوسط التي عجت بالحروب بالوكالة وإعادة إنتاج العصبيات الطائفية والمذهبية وهو الأمر الذي عمق شعور المسيحيين بالأقلية مقابل أكثرية مسلمة ما يطعن نموذج التنوع والتعددية مع لفت النظر إلى فشل مشروع النهضة العربية الذى ساهم فيه المسيحيون وهو الأمر الذى نتج عنه تأرجح المجتمعات العربية بين الأصالة والحداثة.
كذلك فإن الوثيقة لفتت النظر إلى واقع المؤسسات المسيحية لاسيما الكنسية منها حيث تواجه تحديات كبرى فرضها عصر العولمة ولكنها في الوقت نفسه تشهد تهميشا لدور المرأة والشباب فيها بالإضافة إلى خلل العلاقة بين الطوائف المسيحية بعضها البعض رغم خبرة التنوع التي عرفها الشرق المسيحي منذ قرون.
ما الخيارات التي تطرحها الوثيقة لمسيحيي الشرق؟
أسئلة الهوية والعلاقة بالإسلام
أعادت الوثيقة توصيف الواقع الاجتماعي والسياسي والديني للمسيحيين في الشرق الأوسط. بطريقة تجمع بين الرؤية المسيحية ولا تخلو من التوصيف الأكاديمي. فلم تسقط تلك الوثيقة في فخ الانحيازات الثقافية أو العلمية. إنما وضعت يدها على جذور المشكلات ملتمسة الحلول.
فعلى سبيل المثال تطرح الوثيقة سؤال الهوية على مسيحي الشرق بجراءة كبيرة. وهو سؤال طالما أرق المسيحيين العرب في عصر العولمة. بعدما توزعت انتماءاتهم ومشاربهم لهويات عدة. ففي مصر ينظر الكثير من الأقباط إلى المكون الهوياتي العربي في ثقافتهم بقلق يصل إلى حد العداء. فالثقافة واللغة العربية فرضت عليهم من “المستعمر الإسلامي” وطمست هويتهم القبطية. وهو الأمر الذى ظهرت له متوازيات في بلاد الشام. حيث تزيد فكرة الثقافة السريانية أو الفينيقية. بينما شددت الوثيقة على الثقافة العربية كمكون أصيل في هوية ووعي المسيحيين من سكان المنطقة. مؤكدة على الدور البارز الذى لعبه المسيحيون العرب في الحضارة الإسلامية. حيث عاشت مسيحيتهم إلى جوار الإسلام قرونا طويلة، كذلك فإن الوثيقة فكت الالتباس بين العنف كظاهرة اجتماعية وبين ارتباطها بالإسلام كدين مؤكدة إن الأمر لا علاقة له بالإسلام بل يرتبط بخطاب هوياتي مغلق وإقصائي.
حفظ الإيمان مع تجديد الخطاب الديني
طرحت الوثيقة قضية مسيحية شائكة وهي تجديد الخطاب الديني مؤكدة إن العهد الجديد يحث على حفظ الإيمان والوديعة ولكنهم لم يضع طريقة محددة للتعبير عنها مؤكدة إن الكنائس تتشبث بالتمسك بطرق قديمة وأنظمة غابرة وهي التحديات التي ينشط المسيحيون العرب في المطالبة بها حين يتعلق الأمر بالإسلام باعتبارهم أكثر المضارين من الخطابات الإسلامية العنيفة التي لا تعرف التعددية وتنال من الأخر إنسانيا وعقيديا بينما تنسى الكنائس أو تتناسى ضرورة تجديد خطابها الديني بالتوازي بالشكل الذى يخلق مجتمع أكثر رحابة يسود فيه الإيمان العصري الذى يتماشى مع تحديات عصر العولمة.
نحو مؤسسة كنسية ديمقراطية تعنى بالمرأة والشباب
لم تغفل الوثيقة طرح قضية دمقرطة المؤسسات الكنسية منبهة إلى آلية المجمعية التي تتم بها اتخاذ القرارات الكنسية باعتبارها طريقة تعلي من الشركة المقدسة بين جميع المؤمنين ولكنها في الوقت نفسه أدت إلى استبعاد المرأة والشباب من الواقع الكنسي بالإضافة إلى شيوع الأفكار الغيبية في الخطاب الكنسي وهي كلها ظواهر لا تناسب العصر.
لقد شغلت قضية إقصاء المرأة من المجتمعات الكنسية جانبا من نقاشات الكنائس التقليدية والمصلحة على حد سواء في الشرق الأوسط إذ تمارس المؤسسات الكنسية هذا الإقصاء إما بدافع التقليد الكنسي أو محاولة لمجاراة السياق الاجتماعي الذى يخصم من دور المرأة دون أن تلتفت الكنائس إلى ضرورة لعب دور ريادي يدفع المرأة إلى الأمام ويقدم قدوة للمجتمع وكذلك الحال بالنسبة للشباب الذين لا يمثلون أي نسبة ذات بال في إدارة المؤسسات الكنسية التي تعج بالقادة الشيوخ.
الازدواجية في الخطاب الكنسي وفي التعاطي مع الآخرين
انتقدت الوثيقة استخدام بعض المؤسسات الكنسية خطابين متناقضين في التعاطي مع المؤسسات المانحة الغربية من ناحية ومع الدول والحكومات التي تعيش معها في الشرق من ناحية أخرى، فتعمد إلى استخدام خطاب الشكوى من الاضطهاد والإقصاء عند مخاطبة الغرب بغرض الحصول على دعم وتمويلات ثم تجنح إلى خطاب الإخوة والمحبة والشراكة في مخاطبة الداخل حيث تظن إن تلك الحكومات توفر لها الحماية بتلك الطريقة وهو ما صورته الوثيقة بمفهوم الطائفة وليس الكنسية إي إنه مفهوم سياسي تحاول الكنائس من خلاله الحصول على مكتسبات سياسية ناسية دورها الرعوي وقول المسيح “ليكن كلامكم نعم نعم لا لا”
تنكأ الوثيقة بتلك النقطة جرحًا عميقًا في خطاب المؤسسة الكنسية المزدوج وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات من نوعية هل المسيحيون العرب مواطنون أم رعايا للطائفة؟ لقد عاش المسيحيون في السنوات الأخيرة باستخدام تلك الآلية تحت مظلة الطائفة التي تحاول الحصول على مكاسب سياسية باعتبار إن تلك الطريقة تشكل أمرا واقعا دون الالتفات إلى إن التعاطي مع الدول كرعايا يخصم من مبادئ المواطنة التي تخلق بالتراكم مجتمعا صحيا تعدديا يتسع للجميع لا مكان للمظالم الأقلوية فيه.
هجرة المسيحيين وغياب الديمقراطية
الوثيقة أيضا اعتبرت أن زيادة الهجرات بين المسيحيين العرب يأتي نتيجة لصعود الحركات الإسلامية ذات الطابع العنيف بالإضافة إلى غياب أنظمة ديمقراطية حقيقية تحمي الحقوق والحريات مما يدفع الفرد إلى الاحتماء بالطائفة الأمر الذى يؤدي إلى تورم الكتلة الكنسية على حساب الفرد.
بالنظر إلى تلك الفرضية التي ضخمت من الكتلة الكنسية. فلابد من الإشارة إلى الدور السياسي الذى تلعبه الكنائس. إذ تحاول منذ عقود تجييش المسيحيين ككتلة انتخابية لصالح النظام الحاكم. دون النظر إلى ضرورة تبني خيارات فردية تقوم على المواطنة وعلى الميل السياسي دون اختزال الأمر في المكسب الذى يعود على الطائفة جراء هذا الاختيار بمعنى آخر أن يذهب المسيحي إلى صندوق الاقتراع دون أن يسأل نفسه “ماذا سيربح المسيحيون من هذا الخيار؟ بل هل هذا الخيار الأنسب للوطن أم لا؟، ومن ثم دعت تلك الوثيقة إلى تفكيك ما وصفته بعقدة الأقلية بين المسيحيين العرب والانطلاق نحو خيارات قوامها المواطنة والتعددية.
“نختار الحياة” وثيقة تطرد الصيارفة وتطهر الهيكل
تعاطت وثيقة “نختار الحياة” مع قضايا سياسية ولاهوتية وفكرية تشغل المجتمعات العربية. لكنها وإن تحلت بالرؤية المسيحية في التعاطي مع القضايا. إلا إنها اتسمت بروح ثورية مستلهمة مشهد المسيح. وهو يطرد الصيارفة ليطهر الهيكل ويضع رؤيته الحياتية والإنسانية.
للاطلاع على الوثيقة اضغط من هنا