كان موقفًا لافتًا وغريبًا، عندما فتحت دول أفريقية ذراعيها لاستقبال لاجئين أفغان، في أعقاب الانسحاب الأمريكي وسيطرة طالبان على الحكم. المفارقة التي يراها مراقبون “معقدة” تتمثل في استضافة دول منهكة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا للاجئين. في حين تغلق أوروبا والغرب وحتى دول الجوار الباب أمام تدفقات الفارين من جحيم طالبان.
هذه المفارقة رصدها تحليل لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، الذي رأى في موقف الدول الأفريقية “ضرورة أخلاقية” فضلاً عن كونها فرصة لانتزاع تنازلات جيوسياسية من المجتمع الدولي.
وفي تناقض صارخ مع بعض الدول الأوروبية التي أغلقت أبوابها في وجه الأفغان المشردين. عرضت رواندا وأوغندا والسودان ودولة أرض الصومال المستقلة (صوماليلاند) استقبال بضع مئات إلى عدة آلاف من اللاجئين في بلادهم.
الهروب من طالبان
ولا تزال أعداد الراغبين في الخروج من أفغانستان تتزايد، على وقع غموض يحيط بمستقبل البلد الأمني. هذا بخلاف 2.2 مليون لاجئ أفغاني موجودون في البلدان المجاورة. بالإضافة إلى 3.5 مليون شخص يعيشون على الحدود بلا مأوى.
وفي عام 2020، أعيد توطين أكثر من 22 ألف لاجئ فقط على مستوى العالم، وهو مستوى منخفض. وحتى قبل سقوط أفغانستان في أيدي طالبان كان حوالي 1.44 مليون نازح قسريًا بحاجة إلى مساعدة عاجلة ببداية عام 2021.
في غضون ذلك، قد يضطر مئات الآلاف من الأفغان إلى الهجرة في الأشهر المقبلة. وذلك في وقت تكون فيه العوائق التي تحول دون تحركاتهم في أعلى مستوياتها على الإطلاق. لاسيما أن الكثيرون يرون الهروب من طالبان مسألة حياة أو موت.
ولا تزال دول الجوار الأفغاني والمجتمع الغربي حائرًا حيال التعامل مع قضية اللاجئين الأفغان، دون التوصل إلى صيغة واقعية. لذلك ستكون هناك حاجة إلى حلول طويلة الأجل للاجئين الأفغان غير القادرين أو غير الراغبين في العودة إلى ديارهم بالمستقبل.
“دار الضيافة الأفريقية”.. 26% من لاجئي العالم
اللافت، وفق تقديرات ذكرها التقرير، أن بلدان أفريقيا جنوب الصحراء تستضيف بالفعل أكثر من 26% من عدد اللاجئين في العالم. ويأتي معظم اللاجئين من دول مجاورة، حيث يعيش بعضهم في مخيمات منذ عقود. فيما لا يزال هناك بورونديون يعيشون في تنزانيا فروا من الحرب الأهلية في بلادهم في التسعينيات، وأجيال عديدة من الصوماليين الذين يقيمون في مخيمات اللاجئين الكينية مثل داداب.
وعلى غير السائد، ليس الأفارقة هم المشردون دائمًا، فالصومال التي مزقتها الحرب هي الوطن لـ 6800 يمني وأكثر من 700 سوري. وهي تقديرات غير رسمية، ربما يتخطى الإحصاء هذه الأرقام، فيما لا تستضيف مثلاً دول خليجية أيًّا من مواطني هذين البلدين.
ثلاثة أسباب متشابكة.. أخلاق وشعور مماثل وانتهازية
وبعدما رأى التحليل أن أسباب استضافة دول أفريقية لاجئين أفغان “معقدة”، وضع 3 افتراضات لمعرفة الأسباب التي تجعل هذه الدول تستمر في تحمل تكاليف استضافة هذا العدد الكبير من اللاجئين: الأول هو الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، والثاني أصداء التوترات التاريخية لتلك الدول، من قبيل المثل الشعبي القائل مجازًا “لا يشعر بالفقير إلا الفقير”. أما السبب الثالث فهو جاذبية الانتهازية الجيوسياسية.
أما رواندا وأوغندا اللتان قبلتا مئات اللائجين الأفغان، لديهما مواقف مماثلة للاستجابة لطلبات الولايات المتحدة لاستضافة اللاجئين. وهو ما جاء في بيان وزارة الخارجية الأوغندية التي تحدثت عن “تاريخها الطويل وتقاليدها” في توفير الملاذ الآمن للنازحين.
مدخل لفهم تجربة رواندا وأوغندا
لذلك، يلاحظ الباحث إيفان إيستون كالابريا أن أوغندا بدأت في استضافة اللاجئين البولنديين من أوروبا التي احتلها النازيون في الأربعينيات. ثم رحبت بالبورونديين والكونغوليين والإثيوبيين والإريتريين والروانديين وجنوب السودان والسودانيين.
ويقول التحليل إن أوغندا معروفة بجهودها الرائدة في توفير حق التعليم وملكية الأراضي والحقوق الأخرى للاجئين. وتستضيف أوغندا ما يقرب من 1.5 مليون لاجئ، وهي رابع أكبر مجموعة من اللاجئين في العالم والأكبر في إفريقيا.
بالمقابل، استضافت رواندا لاجئين على مدى عقدين، ونشأ العديد من قادتها، بمن فيهم الرئيس بول كاغامي، في مخيمات بالبلدان المجاورة. في حين أن استقبال أوغندا للاجئين أكبر، فإن تاريخ رواندا المؤلم- بما في ذلك المذبحة العرقية في عام 1959، والحرب الأهلية في التسعينيات، والإبادة الجماعية في عام 1994- هو بلا شك سبب فتح أبوابها أمام المضطهدين عالمياً. ربما هذه الزاوية تفسر جزئيًا حماسة رواندا وأوغندا لفتح أبوابهما أمام الأفغان.
نظرة للمساعدات وتجميل الوجه الحقوقي
لكن التحليل برصد جانبًا آخر، يعتمد هنا على الانتهازية أو المنفعة، لاسيما أن أوغندا تتلقى مساعدات أجنبية أكثر من جيرانها في جزء كبير منه. وذلك بسبب نهجها في استضافة النازحين قسراً، في بلد يواجه تحديات اقتصادية منتظمة. كما يواجه البلدان انتقادات دولية متزايدة بسبب حكمهما المناهض للديمقراطية وسجلاتهما المتعلقة بحقوق الإنسان. وربما ينظران إلى قبولهما للاجئين الأفغان على أنه فرصة لتجميل صورتهما الدولية وإثناء الشركاء الأجانب عن فرض عقوبات أو إجراءات عقابية أخرى.
هنا يذكّر التقرير بظروف الحكم التي يقبع فيها الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني. والذي يتولى السلطة منذ عام 1986، وفاز في انتخابات عام 2020 التي فقدت مصداقيتها لدرجة أن الولايات المتحدة امتنعت حتى عن نشر فريق مراقبة. كما تحدث مستشار الرئيس بايدن للأمن القومي، جيك سوليفان، عن سجل أوغندا السيئ في مجال حقوق الإنسان. وفرضت وزارة الخارجية عقوبات على التأشيرات هذا العام.
لذلك يكاد يجزم كاتب التحليل بأن “موسيفيني”، كما فعل مع مساهماته في حفظ السلام ومكافحة الإرهاب. يأمل في أن تكون استضافة اللاجئين الأفغان حامية من المزيد من التداعيات الجيوسياسية السلبية.
بينما كان كاغامي في رواندا أقل انكشافًا من رفيقه السابق في السلاح موسيفيني، فقد كان يخضع لتدقيق دولي. بسبب اعتقال مدير فندق “لي ميل كولين” برواندا باول روزيساباجينا. والذي كشف معلومات عن اغتيال رئيس المخابرات الرواندي السابق في جنوب أفريقيا.
“كرم كاغامي” كأداة جيوسياسية
لفهم طبيعة حماسة رواندا إزاء اللاجئين، يستحضر التقرير تهديدات كاغامي، في الماضي، بطرد اللاجئين إذا انتقد المجتمع الدولي أنشطة بلاده. مما يدل على استعداده لاستخدام “الكرم المتصور” كأداة جيوسياسية. لذلك قد يتوقع عرض كاغامي إيواء تلميذات أفغانيات. بالإضافة إلى أعضاء هيئة التدريس والموظفين في المدرسة الداخلية الوحيدة للفتيات في البلاد، مدرسة القيادة في أفغانستان (SOLA)، هروبًا من الإدانات الدولية.
أما أرض الصومال والسودان فلديهما حسابات مختلفة عن رواندا وأوغندا. إذ يسعيان للحصول على دعم من الولايات المتحدة بدلاً من “الإذعان”، بالنظر إلى التاريخ الطويل من الحروب التي أنهكتها، وفق ما ذهب التقرير. الذي عرّج سريعا على ظروف استقلال “أرض الصومال”، التي عانت دمارًا هائلاً ومحارق، وترى أن تحدياتها مشابهة لتحديات أفغانستان. وأكد متحدث باسم وزارة خارجية أرض الصومال الشهر الماضي أن حكومته ناقشت أمر استضافة اللاجئين الأفغان مع المسؤولين الأمريكيين. كما شهد السودان دمارا خلفه الصراع ومصاعب الحكم الراديكالي الإسلامي. وخاضت حربًا أهلية دامت عقودًا وكان النظام السابق يؤوي أسامة بن لادن الذي نفّذ إبادة جماعية في دارفور.
ويستضيف السودان سادس أكبر مجموعة من اللاجئين في العالم، حوالي مليون شخص من جمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وإريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان، وكذلك سوريا. وعلى الرغم من ندرة التفاصيل، فقد أعربت الحكومة السودانية عن استعدادها لاستضافة “مجموعة محدودة من الأفغان.. لفترة مزمنة”.
“صوماليلاند” تريد اعترافًا دوليًا
إلى جانب العوامل الإنسانية، لدى أرض الصومال (صوماليلاند) والسودان دوافع إضافية لقبول اللاجئين الأفغان. تريد أرض الصومال، التي لا تعترف بها حكومة واحدة، أن تظهر أنها جهة فاعلة مسؤولة على الصعيد العالمي. وهو ما يظهر في قول وزير خارجيتها أن استضافة اللاجئين “تُظهر أن أرض الصومال دولة ذات مصداقية ولها مصلحة في الشؤون الدولية”. لذلك، فإن حكومة أرض الصومال تريد استخدام استضافتها للاجئين لمواصلة بناء قضيتها لانتزاع الاعتراف الدولي.
السودان تغسل سمعتها
في المقابل، يريد السودان إعادة تأهيل سمعته كدولة منبوذة على المستوى الدولي وتعزيز دعم الولايات المتحدة لانتقاله الديمقراطي. وبعد الإطاحة بالديكتاتور عمر البشير في أبريل 2018، عملت الحكومة الجديدة- مزيج من القادة العسكريين والمدنيين- لكسب دعم الولايات المتحدة، حتى إنها استضافت مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانثا باورفي واحدة من أولى زياراتها الخارجية.
في سبيل ذلك، قامت الخرطوم بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وحظرت تشويه الأعضاء التناسلية للإناث. وألغت عقوبة الإعدام. كما وافقت على تسوية دعاوى ضحايا الهجمات على سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا والسفارة الأمريكية كول قبالة سواحل اليمن. إزاء ذلك، طلبت الولايات المتحدة المزيد من هذه الخطوات لرفع تصنيف الدولة “الراعية للإرهاب” واستعادة وصول البلاد إلى مؤسسات الإقراض الدولية.
إزاء ما سبق، يرى معدو التحليل، أن الولايات المتحدة مطالبة بالثناء على عروض هذه الدول استضافة اللاجئين الأفغان. وذلك بغض النظر على النوايا أو الدافع. إذ جرى إجلاء أكثر من 123 ألف شخص من أفغانستان في الأسابيع التي سبقت انسحاب الولايات المتحدة.
ويتحدث القادة الأفارقة عن استضافة الأفغان مؤقتًا أثناء مراجعة طلبات اللجوء في الولايات المتحدة وأماكن أخرى خارج القارة. لكن التقرير يستند إلى الخلفيات السابقة للقول إن الاستضافة “المؤقتة” التي تقدمها أوغندا ورواندا والسودان وأرض الصومال يمكن أن تستمر لأشهر، إن لم يكن لسنوات.
سياسة المقايضة.. أيهما أولى: اللاجئون أم الديمقراطية؟
وطالب التقرير الولايات المتحدة بتقديم الدعم للبلدان التي تستضيف الأفغان، ومساعدة اللاجئين، لتوفير أماكن ثقافية ودينية أو غيرها؛ لتوفير الحماية والدعم لهؤلاء النازحين. ولا يغفل التحليل تذكير الدبلوماسيين الأمريكيين بالاستعداد لإدارة الطلبات الجيوسياسية التي لا مفر منها، ويشدد على ضرورة “الفصل في هذه الطلبات بعناية، وتجنب أي مظهر من أشكال المقايضة لقبول اللاجئين وتقديم المساعدة الإنسانية”. لذلك يؤكد التقرير ضرورة أن ينصب تركيز الولايات المتحدة على تقديم المساعدة للاجئين والمجتمعات المضيفة لهم. والعمل على وجه السرعة لإعادة توطين الأفغان بشكل دائم في دول ثالثة.
ويتوصل التقرير إلى نتيجة مفادها صعوبة المفاضلة بين احتياجات اللاجئين والأهداف الأوسع لحقوق الإنسان والديمقراطية في المنطقة. ورغم ذلك يذكر بتاريخ رواندا وأوغندا وأرض الصومال والسودان الحافل باستضافة و”كرم” تجاه النازحين واللاجئين، وهو ما يدفع لضرورة تقديرهم وتشجيعهم لاستضافة الأفغان المعرضين للخطر، بغض النظر عن السبب، فيما لخص التحليل نصيحته لصانعي السياسات بضرورة “دعم هذه الأعمال الصالحة دون المساومة أو تعديل الأولويات الأخرى”.