كيف ستبدو الحرب بين أمريكا وروسيا أو أمريكا والصين في المستقبل؟ هل ستبدو مثل كتاب استشراف المستقبل “سلسلة القتل The Kill Chain”. أم أقرب إلى سيناريو كتاب “أسطول الاشباح Ghost Fleet”.. سيطر هذا الجدل على النقاشات الاستراتيجية في أروقة الإدارة الأمريكية ومراكز الدراسات الاستراتيجية، حول ضرورة تحديد الصراعات المستقبلية والاستعداد لحروب تقليدية واسعة النطاق، أطلق عليها “إعادة مفهوم نابليون للحرب”.

أصدر مركز “الحرب على الصخور The War of the Rocks” وهو مركز أمريكي للدراسات الاستراتيجية. يضم عدد من كبار المحللين السياسيين وأساتذة الجامعات المتخصصين في العلوم العسكرية. وبعض القيادات العسكرية التي شاركت في مناطق الحرب، دراسة جديدة حول “عودة الحروب بالوكالة” بين القوى العظمى. والتي كانت قد تراجعت نسبيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، واتباع الإدارات الأمريكية لسياسات الحرب المباشرة، وهو ما بدا في غزو كل من أفغانستان والعراق.

تاريخ القوى العظمى

تبدأ الدراسة باستعراض تاريخ القوى العظمى في دعم حركات ووكلاء للحرب نيابة عنها خلال حقبة الحرب الباردة. التي شهدت الكثير من النزاعات داخل الدول بتحريض من قوى خارجية وحروب الظل التي استمرت سنوات طويلة. ولا يوجد أي سبب يدعو إلى الاعتقاد بأن المنافسة بين الولايات المتحدة مع الصين وروسيا ستكون مختلفة عما سبق.

وتتمتع روسيا بتاريخ طويل في اتباع سياسة الحرب بالوكالة في صراعها مع الولايات المتحدة من خلال تشجيع الانفصاليين وقوات المرتزقة. لشن حملات غير تقليدية ما زال بعضها مستمرا في أوكرانيا وسوريا، أما الصين فدأبت على دعم وكلائها في كوريا الشمالية وفيتنام. وتواصل السعي لكسب النفوذ في مناطق جديدة بأنشطة عدائية مع تجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة.

 

وتوجه الدراسة المسؤولين الأمريكيين وصانعي السياسات لإدراك أن “الحروب بالوكالة”. ربما ستكون الطريقة الأكثر استخداما في المواجهة بين الولايات المتحدة وخصومها من القوى العظمى. ويجب على الاستراتيجية الأمريكية أن تعكس هذا الواقع، وأن تعد الولايات المتحدة لمواجهة “الوكلاء” العاملون نيابة عن خصومها الرئيسيين.

تعريف الحرب بالوكالة

تحدد الدراسة مفهوم الحرب بالوكالة على أنه “رعاية الجهات الفاعلة من قبل دولة خارجية للتأثير على نتيجة الصراع العنيف للأغراض الاستراتيجية الخاصة بالدولة الخارجية”. بهدف تجنب العمل المباشر لدعم عملائها على الأرض سواء دول حليفة أو ميليشيات، مع إمكانية استخدام العنف لتحقيق الأهداف السياسية المستهدفة.

ويشمل تعريف الجهات الفاعلة في الحرب بالوكالة بالإضافة للدول الشركات العسكرية الخاصة والمتطوعين المسلحين ومجموعات قرصنة الكمبيوتر أيضاً.

تطور أساليب الحرب بالوكالة

تستند الدراسة إلى مقال نشر منذ ما يقارب عشر سنوات، لمحلل أمريكي يدعى “أندرو مومفورد”. كان قد حدد أربعة تطورات يعتقد أنها ستكون حاسمة في دفع صانعي السياسات لتنشيط سياسة الحرب بالوكالة واستخدامها على نطاق واسع. الاتجاهات وهي: “متلازمة الحرب على الإرهاب”، وظهور الشركات العسكرية الخاصة، وتأثير التكنولوجيا الرقمية، وصعود الصين.

وتؤكد الدراسة أن خطط الرئيس الأمريكي، جو بايدن للانسحاب من سوريا وأفغانستان، خطوة لإفساح المجال لوكلائها بالعمل. بدلا منها بعد أن تحملت مع حلفائها عبء الانتشار الموسع لقواتها في البلدين لمدة عشرين عاما. ولتحقيق رغبة صانعي السياسات والشعب الأمريكي في تجنب إرسال عسكريين أمريكيين لخوض حروب في أراضي بعيدة. وبحسب مفهوم “مومفورد” يجب أن يتم استخدام الشركات العسكرية الخاصة بشكل متزايد للحرب بالوكالة بدلا من الجيش الأمريكي.

مرتزقة فاجنر في ليبيا
مرتزقة فاجنر في ليبيا

تزعم الدراسة أن الصين وروسيا كما الولايات المتحدة، زادتا من اعتمادها على الشركات العسكرية الخاصة في السنوات الماضية. وأن روسيا على وجه الخصوص دعمت زيادة قدرات الشركات المتعاونة معها من حيث الحجم والقدرات القتالية. مثل شركة “فاجنر” شبه التابعة للكرملين والتي تنشط في كل من ليبيا وسوريا وأوكرانيا. ويديرها القائد السابق في المخابرات العسكرية الروسية “ديمتري واغنر أوتكين”.

كما استخدمت الصين 20 شركة عسكرية دولية خاصة تضم أكثر من 3 آلاف فرد في عملياتها بباكستان والعراق وسوريا. لحماية مصالحها الاقتصادية والسياسية خارج أراضيها.

ميدان جديد للحرب بالوكالة

بحسب مفهوم “مومفورد” أصبحت الساحة السيبرانية ميدانا جديدا للحرب بالوكالة. كما أصبح واضحا في سلسلة الهجمات على المواقع الحكومية ومراكز التحكم في محطات الطاقة التي نفذتها جهات معادية على الأراضي الامريكية. متوقعا أن تأتي الطلقات على شكل “بايتات Bytes” بدلا من طلقات الرصاص. كما قال ساخرا “من المرجح أن يشهد القرن الحادي والعشرين حروبًا أكثر من خوادم بروكسيات أكثر من الحروب بالوكالة في شكلها التقليدي”.

ويعد صعود الصين هو الموضوع “الجيوسياسي” الرئيسي الذي يشغل المحللين الأمريكيين. ويتوقع أغلبهم أن يتم اعتماد البلدين على الحرب بالوكالة بشكل متزايد في إدارة الصراع بسبب المستويات الكبيرة من الاعتماد الاقتصادي المتبادل بينهما. ولتجنب المواجهة المباشرة بينهما والتي قد تكون مدمرة.

ورغم تحذير الدراسة من أن هذا الاحتمال قد يتغير بسبب التحديث العسكري الصيني المتزايد، والذي غير ميزان القوى في آسيا. لكنها ترجح استمرار الصين في سياسة تجنب المواجهة كما حدث في بحر الصين الجنوبي. عبر استخدام الوكلاء مثل أساطيل الصيد المدنية لتشكيل حاجز لمنع الولايات المتحدة وحلفائها من دخول المناطق المتنازع عليها.

لكن مصالح الصين المتزايدة ورغبتها في الحصول على حصة متزايدة من المواد الخام والطاقة وقدراتها العسكرية المتنامية. ستعزز من الاغراء بالعمل، مع الإدراك بأن الاعتماد على قوى فاعلة محلية سيكون الوسيلة الأفضل. لحماية مصالحها دون المخاطرة بإثارة رد فعل عنيف من القوى الكبرى، ويوفر بديل “احتضان عدو عدوي” بديلا أقل مخاطرة لصانعي السياسة الصينيين.

أزمة كورونا ومفهوم الأمن القومي الجديد

نشر “مومفورد” مقالته عام 2013 في وقت كان التأييد لاستخدام القوة العسكرية والانخراط في مشاكل العالم في أدنى مستوى له بعد أن استمرت الولايات المتحدة في الحرب لمدة عشر سنوات في العراق وأفغانستان. وانقسم الحزبان الرئيسيان حول دور كل من القوة العسكرية والدبلوماسية. حيث أيد الديمقراطيون الاعتماد على الدبلوماسية والتنسيق مع الحلفاء، بينما تمسك الجمهوريون بأولوية السياسة العسكرية أحادية الجانب.

والآن تأثر الرأي العام الأمريكي بدرجة أكبر بضعف أداء الحكومة الأمريكية في مواجهة “وباء كورونا”. ويؤيد عدد متزايد ضرورة تركيز السياسات على حماية السكان من مخاطر الأوبئة والتدهور البيئي والكوارث الأخرى. وكما حددت إدارة “بايدن” تعريفها للأمن القومي ليشمل “الهجرة والجريمة والأمن السيبراني”. وتسعى لسحب جزء من التمويل العسكري في اتجاه البنية التحتية والأمن الداخلي، والامتناع عن التدخل الخارجي المباشر وتعزيز الاعتماد على الوكلاء والبدائل التكنولوجية.

التكنولوجيا بديل للتدخل المباشر

أكدت الدراسة على مساهمة انتشار الطائرات بدون طيار والأسلحة الالكترونية والصواريخ ووصولها إلى دول متوسطة القوة العسكرية ولبعض الجهات الفاعلة غير الحكومية. في قدرة الدول على إنكار تدخلها المباشر.

وأظهرت الضربة الإيرانية للبنية التحتية للطاقة في السعودية، والتي نسب تنفيذها للحوثيين في اليمن إمكانية ذلك. كما استخدمها الانفصاليون الروس في أوكرانيا ضد القوات الحكومية.

وبازدياد قدرات الوكلاء وحركات المقاومة العسكرية على الأرض وفي الجو والبحر وفي الفضاء الالكتروني. تتعقد عمليات مواجهة تلك التحركات والتي كانت الهيمنة الجوية للقوى الغربية كافية لمواجهتها في الماضي.

المقاتلين المرتزقة 

قدر المحلل الأمريكي “دانيال بيمان” في الدراسة أن عدد من توجهوا للقتال في سوريا على مدار سنوات الحرب بحوالي 40 ألف مقاتل انضموا إلى داعش منهم 6 آلاف من أوروبا. تجمع منهم في وقت واحد أكثر من 19 ألف من 90 بلدا مختلفا، اكتسبوا الكثير من المهارات والخبرات القتالية.

مرتزقة فاجنر
مرتزقة فاجنر

وأكد بيمان، أنهم يشكلون الآن مصدر للتجنيد كمرتزقة للشركات العسكرية الخاصة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. كما اعتمدت روسيا على قدامى المحاربين في البلقان كمرتزقة في “فاجنر”.

الصراعات الإقليمية طويلة الأمد

شهد العقد الماضي ارتفاع في عدد الصراعات الأهلية حول العالم. وكان يمكن للأمم المتحدة مواجهة تلك الصراعات في السابق عبر تشكيل قوات لحفظ السلام وتعيين مندوب خاص لها لرعاية التفاوض بين أطرافها. لكن في عصر المنافسة بين القوى العظمى، لن تتمكن الأمم المتحدة من تأمين موافقة دولية على تشكيل قوات لحفظ السلام، والتي تتطلب إجماع الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن.

ورغم محدودية فعالية عمليات حفظ السلام، لكنها ساهمت في تحجيم الصراعات الصغيرة من التحول لصراعات كبرى بين القوى العظمي. كما ساهمت مفاوضات ممثلي الأمم المتحدة في تسوية بعض الصراعات. لكنها في الأغلب كما تقول الدراسة “أداة فعالة لإدارة الصراع”.

كما أن عودة روسيا للانتشار عبر العالم وتفعيل مشاركتها في الصراعات الدولية، وصعود الصين المتزايد. يثير قلق صانعي القرار الأوروبيين ويدفعهم لتحجيم مشاركة جيوشهم في مهام لحفظ السلام لاحتياجهم لها في بلدانهم. وهو نفس شعور القلق المتزايد لدى الدول الآسيوية بسبب التهديد الصيني.

وسيزداد الاحتياج للوكلاء مع تزايد النزاعات الأهلية المستمر، في ظل التفاوت الاقتصادي الكبير بين البلدان وداخل كل بلد. مع التأثيرات الكارثية لتغير المناخ، وستظل الصراعات الإقليمية ساحة للقوى العظمى لإدارة صراعاتها والتنافس على مصالحها الاستراتيجية.

تغيير العقيدة الاستراتيجية للولايات المتحدة

يقترح المحلل العسكري “مايكل مازار” في الدراسة على مخططي الدفاع الأمريكيين. تغيير استراتيجية الدفاع للسنوات القادمة وتوفير موارد أكثر لقيادة العمليات الخاصة والقيادة الالكترونية. وتغيير أولويات المهام القتالية، لإعطاء اهتمام أكبر للحروب بالوكالة والاستفادة من خبرات الحرب السورية. التي مثلت نموذجا جيدا لصراعات الحرب بالوكالة في السنوات الأخيرة.

وأضاف أنه مثلما اكتسبت الولايات المتحدة خبرتها الواسعة عبر قيادة التحالف في أفغانستان والعراق. يجب عليها استخدام دروس التاريخ لإلقاء الضوء على المستقبل المجهول. والذي يكشف أن احتمالات مواجهة قوات من الوكلاء أكبر بكثير مما يعتقد البنتاجون حاليا.