أصدر، أمس الثلاثاء 28 سبتمبر 2021، مجموعة من المفكّرات والمفكّرين واللاهوتيّات واللاهوتيّين المسيحيّين من الشرق الأوسط، وثيقة مرجعيّة تتناول أوضاع المسيحيّين في هذه المنطقة من الناحية اللاهوتيّة والجيوسياسيّة والفكريّة والمجتمعيّة، حملت عنوان “نختار الحياة: المسيحيون في الشرق الأوسط نحو خيارات لاهوتية ومجتمعية متجددة”.
أعادتني الوثيقة إلى جهود الفريق العربي للحوار الإسلامي- المسيحي التي شاركت فيها ما قبل الربيع العربي، والمبادرات التي ساهمت في إطلاقها بعد 2011 لمعالجة التوترات التي وصلت للعنف في هذا الموضوع، وعضويتي في مجلس العدالة والمساواة الذي أنشأه رئيس الوزراء المصري د.عصام شرف 2011، بالإضافة إلى تنظيم عمليات الحوار حول الصيغة التي يمكن أن تحكم وضعية المسحيين في المنطقة بعد الربيع العربي، مع السعي لإنشاء آليات للإنذار المبكر على المستوى المحلي يمكن أن تتدخل بين الفواعل المحلية قبل تصاعد العنف بينهم، ويمكن أن أشير إلى محاولات صياغة وثيقة المواطنة في رحاب الأزهر الشريف 2012/2011 بعد إصداره وثيقتي مستقبل مصر، ودعم إرادة الشعوب.. تطول القائمة وتتنوع الجهود على المستوى الوطني والإقليمي والدولي؛ مما يستدعي مني رصدًا وتقويمًا واستخلاصًا للدروس التي يمكن أن تساهم في إعادة التفكير في هذا الموضوع.
مما أتذكره في هذا الموضوع أن أحد القساوسة في قنا قد اشتكى ليَّ في أوائل 2013 أن 80% من الشباب المسيحي باتوا بعيدين عن تأثير الكنيسة، وأذكر شابة مسيحية من حلب شاركت في بدايات الحراك الجماهيري في سوريا متجاوزة موقف كنيستها المتحفظ تجاه هذا الحراك
نعود إلى الوثيقة التي صدرت بمناسبة عقد من الربيع العربي، وإن غلب عليَّ الظن أن أصحابها لا يريدون ذلك،؛ لذا أخالها تأخرت عشر سنوات هي مدة هذه الحقبة، فقد أعادت الانتفاضات العربية- على مستوى الممارسة قبل التنظير- في سنتها الأولى وقبل اختطافها؛ أقول أن حركة المواطنين في الميادين والشوارع قد طرحت ثلاثة مفاهيم في هذا الصعيد: 1- المواطنة الحاضنة للتنوع؛ حين شارك الجميع في هذه الانتفاضات لا تعبيرًا عن انتماءاتهم الدينية أو السياسية والأيديولوجية والجنسانية، ولكن باعتبارهم مواطنين اكتشفوا حين رأوا بعضهم البعض أنهم متنوعين تجمعهم قيم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ويرتبط بهذا المفهوم الثاني أن المسيحيين- خاصة الشباب والشابات- لم يعودوا “رعايا الطائفة” بل أبناء هذه الانتفاضات، ومما أتذكره في هذا الموضوع أن أحد القساوسة في قنا قد اشتكى ليَّ في أوائل 2013 أن 80% من الشباب المسيحي باتوا بعيدين عن تأثير الكنيسة، وأذكر شابة مسيحية من حلب شاركت في بدايات الحراك الجماهيري في سوريا متجاوزة موقف كنيستها المتحفظ تجاه هذا الحراك. 3- الانتقال إلى صيغة الحاضنة المجتمعية بديلاً عن الامتيازات السلطوية؛ فقد انهارت السلط جميعًا، وعجزت عن حماية أنفسها؛ ناهيك عن تابعيها، لذا لم يعد أمامنا غير التفاعلات المجتمعية سبيلاً لصيانة وحفظ العلاقات.
من هنا تأتي أهمية هذه الوثيقة التي استطاعت بحق أن تبلور خبرة عقد الربيع العربي الإيجابية في سنيّه الأولى والسلبية بعد اختطافه الذي تواطأ عليه الجميع، سواء عن إرادة وقصد أو بسوء إدارة، خاصة أن الفواعل الدينية والسياسية والاجتماعية قد داهمتها الأحداث، ولم تكن مستعدة لها فتصرّفت فيه وفق ما استقرت عليها بناها الفكرية والتنظيمية ومصالحها الآنية.
استدعت الوثيقة ثلاث لحظات تاريخية للقيام بتأسيس أطروحتها الأساسية: الأولى التاريخ المسيحي الممتد في المنطقة قبل الإسلام وبعده، والثانية الحداثة العربية أواخر القرن التاسع عشر، أما الثالثة فكانت لحظة الربيع العربي
استدعت الوثيقة ثلاث لحظات تاريخية للقيام بتأسيس أطروحتها الأساسية: الأولى التاريخ المسيحي الممتد في المنطقة قبل الإسلام وبعده، الذي اتسم بتنوع قام على التمايز والتلاقي في آن، والثانية الحداثة العربية أواخر القرن التاسع عشر لاستحضار الحل الذي قدّمته من علمانية تعالج مشكلة الأقليات والأكثريات مع إبراز مساهمة النخبة المسيحية في هذه الفترة، أما الثالثة فكانت لحظة الربيع العربي، وهنا استطاعت الوثيقة أن تميّز بين جوهر السردية التي يقدمها وبين رهانات الواقع التي حكمتها، بالإضافة إلى حدودها وإخفاقاتها: فهذه الانتفاضات “طاقة تغيير” ، وأسقطت “مفهوم الأقلية والأكثرية باسم المواطنة القائمة على حقوق الفرد”, وطالبت بإعادة مفهوم المواطنة إلى قلب الممارسة السياسية وجعله نبراس الإصلاح السياسي والمجتمعي. ولكن هذه الانتفاضات برغم ما اتسمت به من شبابية وامتزاج بين المسألة الاجتماعية والحريات، تميّزت بـ”عدم قدرتها على بلورة مشروع وطني تحديثي متكامل”. أهمية الربيع العربي-وفق الوثيقة- هو أنه بات “منطلقًا لنشوء طروحات جديدة في تفحص علاقة المواطنة بالانتماءات الأخرى كالدين والطائفة والعرق واللون والطبقة”، وظني أن الوثيقة بنت هذه الطروحات الجديدة.
سردية الوثيقة الأساسية
تقدم الوثيقة نموذجًا جديدًا للاستجابة المسيحية تجاه تحديات الوجود يقوم على “مجازفة الحضور والشهادة” بدلاً من هاجس الوجود والبقاء، من خلال “الاندماج الفاعل”؛ فالمسيحيون في الشرق “متأصلون في المنطقة بما يعني الالتزام بقضاياها وأبنائها وليس بقضايا المسيحيين” والانخراط في المجتمعات التي ينتمون إليها والنضال من أجل المواطنة، وهذا يستدعي “اعترافًا بالتعددية في سياق واسع يسكن المشكل المسيحي في إطار المشكل العام أيّ إشكال متعلق بالسياق، وننظر إلى تداعياته العامة ثم ننظر في الخصوصية المسيحية أو التأثير على المسيحيين، ولكن أيضًا وفق رؤية نقدية للاستجابة المسيحية”.
تحقيق هذه الأطروحة الأساسية يستدعي عددًا من الشروط التي تنقسم بدورها إلى شقين، أحدهما يخص المسيحيين أنفسهم، والآخر يتعلق بالسياق العام.
ذكرت الوثيقة في مواطن عدة، الخيارات والسياسات التي يجب أن يتبناها المسيحيون، ونحاول جمع شتاتها في النقاط التالية:
1-رفض معادلة حلف الأقليات وخيار استدعاء الحمايات ردًا على المخاوف والهواجس التي تطال وجودهم الفيزيقي والمعنوي.
2-الكف عن توظيف الكنائس سياسيًا؛ فالكنيسة ليست مؤسسة سياسية، ولكنها معنية بالشأن العام.
3-الحفاظ على الدور المجتمعي الإيجابي للمسيحيين بمنأى عن أية مكتسبات سلطوية أو ضمانات نفوذ أو منتفعات شخصية.
4-التخلي عن تثبيت الخصوصيات والامتيازات في مقابل الانفتاح على الآخر والتحاور معه.
5-تحرر الكنيسة من الالتصاق بالنظم التسلطية و الأيديولوجيات الشمولية؛ فبقاء المسحيين في الشرق الأوسط- على حد قول الوثيقة- لا يأتي عبر قدرتهم على حيازة مواقع نفوذ ومنتفعات وحمايات سلطوية، برغم تعارض هذه القدرة مع الحرية وحقوق الإنسان والعيش الواحد استنادًا إلى منطق المواطنة.
6-الابتعاد عن ازدواجية الخطاب بين الكنائس ومع الآخرين، وازدواجية في جلب الأموال من الكنائس الأوروبية والأمريكية.
هذه المتطلبات تستدعي- وفق الوثيقة- تجديد الخطاب اللاهوتي والكنسي، بالاستناد إلي لاهوت سياقي وطني وإقليمي ينطلق من الواقع، متفحصًا الخطاب اللاهوتي ويلتفت إلى الأبعاد الجيوسياسية بما يتطلبه من صوغ لاهوت خاص بمنطقتنا، كما يتطلب-ثانيا- قيام الكنائس بإصلاح داخلي على أسس ديموقراطية تتجنب “تهميش لشعب الله وخاصة المرأة والشباب في القرارات الكبرى.. بما يفضي إلى غياب المسئولية والحوكمة المتوازنة وروح المساءلة”، مع فتح باب الحوار الرصين مع العالم في مرحلة ما بعد الحداثة، والأهم مع الشباب، وبما يؤكد التكامل في الخدمة بين النساء والرجال دون إيلاء أي منهما على الآخر، وهذا يتطلب تبدلاً عميقًا في الذهنية والممارسة.
الطريف في أنّ ما تطرحه الوثيقة في إصلاح الخطاب اللاهوتي وعمل المؤسسات الدينية يتطابق في جوهره وملامحه مع إصلاح مؤسساتنا الدينية والعلمية- نحن المسلمين- وكذا ما بات يعرف بتجديد الخطاب الديني، بعبارة أخرى إذا تم حذف الديباجات الدينية المسيحية والاستشهادات من الكتاب المقدس من الوثيقة، فسوف يستشعر قطاع عريض من المسلمين أنها تعبر عنهم في علاقتهم بالمؤسسات والخطاب الديني.
متطلبات السياق
شروط خمسة تطرحها الوثيقة لتعطي أطروحتها الأساسية قوة دفع نحو الاندماج الفاعل للمسيحيين، وفق أسس المواطنة التي تحترم التنوع: أولها مدنية الدولة والدستور والقوانين وتجليه الأساسي- وفق الوثيقة- مدنية قوانين الأحوال الشخصية، وحياد الدولة إزاء الأديان جميعًا أيّ أنّ تأخذ الدولة مسافة من الأديان جميعًا، بما يستدعي تفكيك ربط المعطي الديني العقائدي بالفضاء العام ليدخل هذا المعطي باعتباره بوصلة أخلاقية لا تدخل في إدارة الشأن العام، وهذا يستدعي أن تضع “المؤسسة الدينية حدودًا لتماسها مع الدستور والقوانين، ولا تتخطي هذه الحدود إلا عندما تستشعر انحرافًا عن البوصلة الأخلاقية، وثالثا فإن المجتمع ودولة الدستور والمؤسسات تسودها المواطنة الكاملة الحاضنة للتنوع، ورابعًا إعادة إنتاج العروبة باعتبارها فضاء ثقافيًا ومفهومًا حضاريًا جامعًا بعيدًا عن التعريب القسري، وخامسًا الانتقال من التسامح إلى حرية الضمير التي تتيح لكل فرد بشري أن يعيش حرًا وفقًا لخياراته وقناعاته، وحرية الضمير أحد أهداف الحوار مع المسلمين.
هذه التصورات تعاني من إشكالات ثلاثة، أشير لها سريعًا على وعد بمقال آخر يخصص لقراءة نقدية للوثيقة- التي أتفق مع جل مضمونها وأبدي استعدادي للتوقيع عليها إن قِبل القائمون عليها ذلك، فقناعتي التي أؤكد عليها مرارًا وتكرارًا أن الشأن الإسلامي والمسيحي هو شأن وطني عام لا يخص أتباع كل دين وحدهما؛ فنحن نتأثر به ونؤثر فيه شاء من شاء وأبي من أبي.
معضلات ثلاثة يعاني منها هذا التصور: الأول أنه يقدم حلاً ثقافيًا فكريًا لواقع معقد وفي تناقض صارخ مع ما يطرحه من أهمية اللاهوت السياقي لتجديد الخطاب الديني المسيحي، وهنا تبرز المعضلة الثانية، وهي اختلاف التطور التاريخي لطبيعة الدولة في المنطقة من قطر لآخر، ومن ثمّ لعلاقة الديني بالمجال العام فيها، بما يستدعي التساؤل حول إمكانية تقديم حل لمجمل المنطقة؛ بعبارة أخرى فإنّ الأطروحة العامة التي تقدمها الوثيقة في هذا الصدد تستدعي حوارات داخل كل قطر على حدة، يتعامل مع سياقات الواقع فيه وتطوره التاريخي، وأخيرًا فإنّ الوثيقة لا تطمئن المسلمين على علاقة دينهم بالفضاء العام؛ ففي الوقت الذي تطالب بمزيد من الحضور المسيحي من المدخل الأخلاقي، تدعو فيه المسلمين-ولو ضمنيا – إلى إعادة صياغة علاقة دينهم بالفضاء العام، ولا يتضح وفق أية أسس يمكن أن يتم ذلك. بعبارة أخرى فإنّ ما طرحته الوثيقة من حلول في السياق العام مما يستدعي حوارًا مطولاً يبني القواعد المشتركة التي يجب أن تحكم الفضاء العام- ومنه الدولة ومؤسساتها- ولكن وفق مداخل جديدة لا تقتصر فقط على التصور العلماني المتأثر بالخبرة الحضارية الغربية، في ظل امتزاج وتداخل بين التصورين المسكوني واللاهوتي/ والديني والعلماني في الواقع، وهنا يمكن أن نسوق مثالاً لقوانين الأحوال الشخصية التي انطلقت من الشريعة وبنيت على الفقه، ولكن تمت صياغتها مدنيًا من خلال مجالس التشريع، ويتم الفصل فيها بفعل مدني أيضًا يقوم به القضاة.