في العام الماضي كانت تكلفة نقل حاوية بضائع من ميناء شنغهاي إلى نيويورك، حوالي 2500 دولار، واليوم وصلت 15 ألفًا. كما أن أقل زيادة في متوسط كلفة نقل حاوية يمثل أربعة أضعاف السعر العام الماضي، ومعها دخلت التجارة العالمية اختبارًا صعبًا، وفق تقرير لصحيفة “إيكونوميست” البريطانية.
تلك صورة قاتمة لقطاع كان الأكثر هدوءًا والأعلى ربحًا بالقطاعات التجارية حول العالم. قبل أن تعصف به أزمات عديدة ما بين توقف لحركة ملاحة وتأخر شحنات وغلق موانئ جراء جائحة كورونا.
سمعة النقل البحري تنهار
وبعدما كان الشحن البحري أرخص وأسهل طرق الشحن التجارية بالعالم، باتت سمعته السيئة حاليًا، ترشّح لإعادة هيكلة حركة التجارة العالمية. ومن ثم التساؤل المثار حاليًا، هل تجتاح العالم موجات غلاء أخرى، أو أزمة اقتصادية على غرار السنوات السابقة، أم يجد العالم البديل؟
عالميا ينتظر العالم مغادرة الجائحة ميناء البشر بلاد عودة، وقتها يمكن أن يقدم الخبراء مقترحات لحل أزمة التأخير أو الأسعار. ومع بقاء الجائحة فإن بعض الشركات لجأت لحلول أثببت عدم جدواها، بالاعتماد على القطارات والطائرات، خاصة بعمليات النقل لمسافات بعيدة. كما أنها وسيلة النقل الثقيل الأولى التي تسمح بتبادل كمية كبيرة من البضائع ثقيلة الوزن وكبيرة الحجم.
العالم يحبس أنفاسه.. هل ننتظر أزمة اقتصادية؟
الأزمة التي تواجه قطاع التجارة العالمية، هو أن 90% من حركة نقل البضائع والسلع حول العالم في حوزة النقل البحري. وعندما تصل زيادة أسعار الشحن في بعض الخطوط الملاحية لـ700% فإن امتداد الأزمة سيتجاوز القطاع إلى قطاعات أخرى.
وتأثر قطاع النقل البحري بشدة على مستوى فاعليته في تلبية الطلب على شحن البضائع والتوريد في التوقيت المطلوب. وهو ما أثر بشدة على قطاعات صناعية كبيرة تراجعت أو توقفت سلاسل التوريد لمستلزماتها. كما ارتفعت الأسعار على المستهلكين بنسب كبيرة، مهددة بحدوث ركود أكبر من تأثير جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي.
المعلومات تشير إلى أن العالم لم يخفّض كثيرًا حجم استهلاكه، خلال الجائحة. كما أن المساعدات المالية للعديد من الدول، أضافت للقطاع أرباحا باهظة. لكن تبعات كل هذه الظروف على حركة التجارة العالمية والأسعار تختلف بشكل كبير، في اتجاه ارتفاع الأسعار.
المشاكل التي يواجهها قطاع النقل البحري
هذه التغيرات التي شهدها القطاع لم تكن نتائج جائحة كورونا وحدها، ولكن ثمة عوامل وراء تفاقم الأزمة إلى هذا الحد.
الإغلاق المتكرر للمصانع والموانئ
واجه قطاع النقل البحري حالة ركود حاد مع بداية انتشار فيروس كورونا بداية شهر مارس وحتى يونيو 2020. وتراجعت عمليات الشحن بأكثر من 50% بسبب إغلاق الكثير من المصانع وفرض حالة الإغلاق العام في بعض البلدان أهمها الصين.
لكن بحلول سبتمبر من العام نفسه استعادة حركة الشحن البحري وتفوقت على مستوياتها السابقة. بسبب ارتفاع الطلب العالمي على المعدات الطبية ووسائل الوقاية وارتفاع إنفاق المستهلكين على السلع المعمرة. وذلك نتيجة حالات الإغلاق التي اضطرت الكثيرين للبقاء في المنازل لفترات طويلة.
النقص في عدد السفن
تسببت أزمة ارتفاع أسعار الشحن عام 2007 في تراجع إنتاج سفن الشحن، وكذلك إغلاق بعض مصانع إنتاج الحاويات. وعلى الرغم من استعادة القطاع حجم الطلب السابق على السفن والحاويات، إلا أن القدرات الإنتاجية لترسانات بناء السفن ومصانع الحاويات تقف عائقاً أمام تحقيق الاستجابة المطلوبة لمتطلبات نمو قطاع الشحن البحري.
وتشير بيانات شركة “برايمر” الألمانية للشحن البحري إلى ارتفع الطلب على سفن نقل الحاويات بنسبة 9% خلال العام الجاري. بينما ترفع بيانات شركة “فزلس فاليو” المنافسة لها النسبة إلى 12%، وهي أعلى من حجم النمو في التجارة العالمية. وتتجه الشركات للتعاقد على شراء سفن الشحن البحري، لكن تجهيز هذه الطلبيات يمكن أن يستغرق 2-3 سنوات، وفق صحيفة “إيكونوميست” البريطانية.
أزمة الحاويات
صناعة الحاويات أيضا شهدت هبوطا حادا خلال العام الماضي، بدت واضحة بعد تعافي حركة النقل وزيادة الطلب خلال العام الجاري. كما تأثرت حركة النقل بالاضطراب في استعادة الحاويات الفارغة، بسبب محاولة الشركات ملاحقة مواعيد التسليم. وعدم انتظار تفريغ الحاويات في موانئ التسليم للعودة بها كما كان يحدث في السابق.
أدى ذلك إلى تراكم الحاويات الفارغة بموانئ أوروبا وأمريكا، في مقابل نقص كبير في الحاويات في موانئ شرق آسيا والصين. وتسيير رحلات خصيصًا لاستعادة الحاويات الفارغة، وهو ما انعكس في ارتفاع التكاليف وساهم في الارتفاع القياسي لأسعار الشحن البحري.
“نفتقر إلى السفن والحاويات الفارغة” يقول رئيس شركة “سي إنتليجنس” الاستشارية في مجال النقل البحري، آلان مورفي”. ويضيف أن “هناك نقصا هائلا في الحاويات الفارغة، فهي موجودة في المكان الخطأ وعالقة بموانئ بعيدة وغير متوافرة في آسيا”.
تكدس السفن وتعطّل خطوط الملاحة
يوم الحادي والعشرين من أغسطس الماضي عبرت سفينة “إيفرغيفن” العملاقة قناة السويس متجهة من بريطانيا إلى الصين. وذلك للمرة الأولى منذ تسببها في إغلاق الشريان الملاحي الهام في شهر مارس من العام الجاري، وتأخير المئات السفن التي كانت في طريقها بين أوروبا وآسيا، مسببة خسائر كبيرة للتجارة العالمية قدرت بمليارات الدولارات.
والآن انضم ميناء “يانتيان” في مدينة “شنتشن” لقائمة أزمات الشحن البحري. بعد إعلان الصين إغلاق الميناء بسبب اكتشاف حالات إصابة بفيروس كورونا في أحد أرصفة الشحن. كما تكررت حالات تكدس السفن بالموانئ في عدد من المدن الكبرى. ففي فبراير الماضي كان طابور الانتظار لميناءي “لونغ بيتش” و”لوس أنجلس” يزيد على 40 سفينة دائما. وبلغت ذروة الأزمة في شهر مايو الماضي، حين بلغت أحجام الحاويات العالقة في الميناءين يزيد على 1.9 مليون حاوية. كشفت تلك الأزمات عن مدى أهمية النقل البحري للتجارة العالمية. ومع كل أزمة تشهد سلاسل توريد البضائع اختناقات ونقصا في المعروض يدفع ثمنه دائما المستهلكون.
الانبعاثات الكربونية
عام 2008 تعهدت المنظمة العالمية للنقل البحري بخفض نسبة الانبعاثات الكربونية من السفن العاملة في الشحن بنسبة 60% بحلول 2030. وذلك للمساهمة في تحقيق أهداف “خطة مكافحة التغير المناخي” في العالم، عبر التحول لاستخدام الغاز الطبيعي المسال وأنواع الوقود الأخضر الأخرى الصديقة للبيئة. وهو هدف لا يزال تحقيقه بعيد المنال بحسب خبير النقل البحري الفرنسي “توريه”. والذي كشف “أن سفن الشحن في العالم لا تزال تنتج انبعاثات كربونية تساوي كل ما تنتجه ألمانيا سنويا”.
ورغم ارتفاع أرباح شركات الشحن بنسب فلكية، تظل تسعى لتعويض نفقات خطة خفض الانبعاثات الكربونية عبر زيادة أسعار الشحن. وبالتالي تحميل المستهلكين قيمة ارتفاع التكاليف عبر زيادة أسعار السلع. فشركة “سي إم إيه سي جي إم” الفرنسية والتي تعد رابع شركة شحن بحري بالعالم تعاقدت لشراء 22 سفينة حاويات جديدة يعمل أكثر من نصفها بالغاز الطبيعي.
تراجع الاستثمارات في القطاع
رغم ارتفاع الأرباح بنسب هائلة يشهد قطاع النقل البحري ظاهرة غريبة، تتمثل في تراجع الاستثمارات بنسب كبيرة لا تتوائم من ربحية القطاع. ويعزو الكثير من المحللين السبب إلى الحرب التجارية التي بدأها الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” على الصين. والتي ألقت بشكوك كبيرة على مستقبل النقل البحري قبل الطفرة الحالية. وهو ما دفع الكثير من الشركات لتقليص خططها الاستثمارية المقبلة؛ تحسبا للتراجع المتوقع في التجارة العالمية بسبب الصراع الصيني-الأمريكي.
وبلغت استثمارات أكبر شركة للشحن في العالم “ميرسك” فقط 2.9 مليار دولار منذ مارس 2019 وحتى الآن. وهو ما يقل عن حجم استثماراتها خلال ربع سنوي واحد من عام 2014. وذلك على الرغم من الاحتياج الكبير الآن للمزيد من الاستثمارات في بناء السفن والحاويات ورافعات التحميل الجديدة في الموانئ.
وربما تشهد الفترة المقبلة تغيرا في معدلات استثمار شركات النقل البحري الكبرى. لكن ذلك لن يساعد على تجاوز الأزمة قريبا. فعمليات بناء السفن وأرصفة الشحن البحرية تستغرق سنوات حتى تنضم إلى البنية الأساسية لقطاع النقل البحري. ويبدو أن مستقبل تعافي الاقتصاد العالمي قد أصبح معتمدا بدرجة كبيرة على صناعة النقل البحري. وهو ما لم يتوقعه أكثر المتفائلين من الخبراء لهذا القطاع منذ سنوات قليلة فقط.
انعكاسات أزمة النقل البحري على التجارة العالمية
ارتفعت أسعار الشحن البحري خلال عام جائحة كورونا بنسبة تصل إلى 700%. وهي نسبة غير مسبوقة حتى خلال الأزمات الكبرى التي واجهها القطاع. على غرار أزمة ارتفاع أسعار الشحن عام 2007، وحتى أزمة ارتفاع أسعار التأمين على الناقلات خلال حرب 1973 بين مصر وإسرائيل ونقص إمدادات النفط.
يعيد أستاذ النقل البحري في جامعة نيوكاسل في حديث لجريدة “ديلي تلغراف” أسباب عمق الأزمة هذه المرة إلى تصاعدها المفاجئ بسبب وباء كورونا ووصولها إلى الحد الأقصى بسرعة. وليس تدريجيا مثلما كان الأمر في الأزمات السابقة.
وبحسب بيانات شركة “فريتوس” للشحن البحري كان الارتفاع الأكبر في خطوط الشحن مع آسيا. حيث ارتفعت تكلفة شحن حاوية بحجم 40 قدما من شرق آسيا والصين إلى الساحل الشرقي الولايات المتحدة بنسبة 927% لتبلغ 16008 دولاراً. وبلغت الزيادة للشحن للساحل الأمريكي الغربي نسبة 525% بتكلفة 13666 دولارا. وبلغت نسبة الزيادة في أسعار الشحن من أمريكا إلى أوروبا 247% بقيمة 6014 دولار. بينما كان الارتفاع في أسعار الشحن من أوروبا إلى أمريكا أقل من باقي الخطوط بنسبة 60% بقيمة 681 دولار للحاوية.
شركات الشحن المستفيد الأكبر
اشتهر قطاع النقل البحري في الماضي بتحقيق نسب أرباح متواضعة مقارنة بأهميته في الاقتصاد العالمي. وكان يعتبر أحد القطاعات الخدمية التي تساهم فيها البلدان لتحقيق تواصل سلس لحركة التجارة بما يخدم مصالح الجميع. كما أن ارتفاع التكاليف دفع لتنفيذ مشاريع خطوط السكك الحديدية وخطوط الأنابيب المنافسة لخطوط النقل البحري.
لكن مع أزمة كورونا والارتفاع المفاجئ في حجم الطلب على الشحن، ارتفعت أرباح شركات النقل البحري بنسب غير مسبوقة. ليس فقط في القطاع بل في أي قطاع اقتصادي آخر. ويتوقع الخبراء أن تحقق “ميرسك” الدنماركية وهي أكبر شركة للنقل البحري في العالم أرباحا هذا العام أكثر مما حققته خلال السنوات السبع السابقة مجتمعة.
وأعلنت “ميرسك” عن أرباح للربع الأول من العام الجاري بلغت 2.7 مليار دولار. وذلك بزيادة بلغت 13 ضعف نفس الفترة من العام الماضي. بينما سجلت منافستها “سي إم إيه سي جي إم” الفرنسية للشحن والحاويات أرباحا بقيمة ملياري دولار خلال الفترة نفسها. وهو ما يزيد على 40 ضعف أرباحها للفترة نفسها من عام 2020.
أين قطاع النقل البحري العربي من الأزمة؟
يبدو قطاع النقل البحري العربي خارج نطاق المساهمة أو المنافسة على المستوى العالمي أو حتى الإقليمي. ويعاني القطاع من مشاكل هيكلية تتمثل في نقص العاملين ذوي المهارات اللازمة والمتخصصة بعمليات النقل البحري. كما يفتقد القطاع للسفن ذات الحمولات الكبيرة والتي تساعد على تحقيق منافسة عادلة مع الناقلات العملاقة لشركات الشحن العالمية.
وأغلب سفن الشحن البحري للشركات العربية قديمة وكثيرة الأعطال. ولا تمتلك التكنولوجيا اللازمة للتعامل مع موانئ الشحن العملاقة في شرق آسيا وأوروبا وأمريكا. كما تفتقر الموانئ العربية للتقنيات الحديثة لعمليات التحميل والتفريغ والتخزين. والتي تساعد على تحقيق كفاءة تشغيلية كبيرة وتخفيض التكلفة.