بلا مقدمات قد تنهال دموعك عند رؤية طفل بائس، أو عجوز يجتهد ليعبر طريق، وربما تنهمر دموعك لرؤية مشهد درامي أيًّا كان محتواه، البعض يفسر هذه الدموع برقة المشاعر، وقد تتحوّل هذه الدموع كسبب للسخرية من صاحبتها، مما يجعل صاحبة الدموع في موقف محرج؛ تسعى لإخفاء دموعها، لكن السؤال الحقيقي: كيف نبكي لأقل الأسباب وربما أتفَّها؟

ميراث القهر

عبر أزمان بعيدة تم غرس الصمت كشيمة الفتيات المهذبات، أصبح الصمت معادل للأخلاق كسمة اجتماعية؛ فالبنت الصامتة هي الأفضل بين نظيراتها، في كل مكان مطلوب من الفتاة أن تصمت، لا تتكلم، تخرس، حيث الخرس كتم لكل شيء يمكن أن تبوح به الفتاة.

في البيت تعلو كلمات مثل “ما اسمعش صوتك، عيب لا تتكلمي، لا تردي على أخيكِ، لا تردي على أبيكِ، لا تردي على أمك”، ثقافة البوح والحكي مهترئة ومتآكلة، فصارت النساء تستبدلنَّ البوح عن ذواتهنّ بأيّ حكايات، صارت الثرثرة عنوانًا للنساء وصفة دائمة، لكن أية ثرثرة تلك؟

المتتبع لمحتوى الثرثرة بين النساء سيكون غالبه نميمة، وتداول أخبار الآخرين وتحليلها، أو شكوى، حيث اعتمدت الجماعة الشعبية مبدأ “الشكوى رقوة”؛ انطلاقًا من معتقد متأصل خاص بالحسد، فكثيرات يحجبنَّ أخبارهنّ أو أية أخبار تخص خير أو منجز بدافع الخوف من الحسد وزوال النعمة منهن.

كل الثرثرة التي ندان بها نحن النساء هي ضجيج بلا طحين، فعل لا يهدف إلى تهدئة النفوس، أو التنفيس وربما تصبح تلك الثرثرة عبئًا مضافًا، مع نظرية الأواني المستطرقة

إذن؛ فإن كل الثرثرة التي ندان بها نحن النساء هي ضجيج بلا طحين، فعل لا يهدف إلى تهدئة النفوس، أو التنفيس وربما تصبح تلك الثرثرة عبئًا مضافًا، مع نظرية الأواني المستطرقة، حيث أي كلام يقال في مكان يصل إلى مكان آخر، فتتورط بعض النساء في مشكلات نتيجة كلام أو أوصاف وصفنَّ بها معارف أو أصدقاء، فحتى انتقاد الآخرين بات مشوبًا بالقلق من التورّط في مشاكل، نحن في غنىً عنها، تبقي الشكوى التي ما إنْ يكتشف البعض عدم صدقها، أو أن تكرار الشكوى وديمومتها فإنها تصنع حالة من العزوف والبعد عن صاحبها، تجنبًا للانخراط في هذه الحالة مع كثرة الضغوط التي يتعرض لها الجميع.

ثقافة البوح والحكي

لأننا لا نتربى على شجاعة الحكي، نخرج معبأين بكثير من الحكايات، نُخفي الحزن والغضب، ندفن ما يضايقنا، وتصبح تلك التفاصيل المتراكمة نيرانًا مشتعلة في الداخل، بركانًا خامدًا ينتظر أية لحظة للثورة، وينفجر مع أقل سبب.

ينتقد البعض النساء، خاصة الزوجات لأنهنّ في الشجارات والمناقشات الزوجية تتحول الزوجة إلى الماضي، تنبش فيه وتخرج مواقف مرّت بها منذ زمن، وبدلاً من معالجة التراكمات يتم وصفها بـ النكدية والمجنونة، وغير ذلك من الصفات التي تنتقص من عقلها وحكمتها.

بينما السبب الرئيس أنّ النساء لم يعتدنّ البوح، وإنما تربينّ على الصمت؛ فهي لا تحكي ما يحزنها، أو يضايقها أو حتى ما يفرحها، الصمت معادل للأخلاق لدى الغالبية، ومن ثمّ باتت الغالبية من النساء يكتمنّ ما يحدث لهنّ حتى لا تخرج عن الميثاق الاجتماعي، ويتم وصفها ووصمها بأمور تقلل منها في جماعتها.

هذا الكتمان الذي يجعل من روح وقلب كل امرأة أو غالبية النساء بمثابة بركان في داخل غالبية النساء، فالخوف معادل للبوح، لو كتبت إحداهنّ مذكراتها، فالخوف من اكتشاف تلك المذكرات والعقاب الذي يمكن أن تناله يجعلها تخاف من الكتابة، ومواقف الخذلان وتبادل الحكايات التي تحدث بين النساء تجعلها تخاف من البوح مع صديقاتها.

الزلزال هو هزة أرضية تظهر في المناطق الضعيفة من القشرة الأرضية، وكثير من الزلازل هي مؤشرات لثورة براكين، كذلك هي الدموع التي تنساب فجأة هي مؤشرات لغضب وحزن مكتوم

في التعريف العلمي للزلازل، هو هزة أرضية تظهر في المناطق الضعيفة من القشرة الأرضية، وكثير من الزلازل هي مؤشرات لثورة براكين، كذلك هي الدموع التي تنساب فجأة هي مؤشرات لغضب وحزن مكتوم، ينتظر لحظة ضعف ليعلن عن نفسه.

يعتمد المعالجون النفسيون سياسة البوح كأول طرق العلاج من الاضطرابات النفسية التي يتعرض لها، ورغم أننا حين نتوجّه إلى المعالج النفسي ننفرط في الحكي، لكن الكثيرات والكثيرون لا ينتبهون لأهمية الحكي؛ كعلاج ضروري للتخلص من الضغوط والندبات في القلب والروح، بل نغالي في الكتمان، فهل علينا أن نصل إلى حافة الانهيار حتى نبدأ في الحكي؟

إذا كنتِ تخافين من الحكي مع الأصدقاء، يمكنكِ أن تكتبي ما تشعرين به، ثمّ تحرقين الورق بعد الكتابة، أو تقومي بتسجيل حكاياتكِ ثم تلغين التسجيل، انسياب دموعكِ يعني أنكِ على وشك الفوران مثل بركان مكتوم ينتظر لحظة ضعف، فلا تتركين نفسكِ حتى هذه اللحظة وابدئي بالبوح.