أثارت المشاهد التي خرجت من تونس منذ قرارات الرئيس قيس سعيد بتجميد عمل البرلمان وإعفاء الحكومة مقارنات مع مسارات سياسية أخري، بعضها اعتبر أن “الجميع واحد”، والبعض الآخر قال إن ما جري دليل على فشل تجارب الثورات العربية بما فيها تونس التي كان يضرب بها المثل في الحفاظ على دولتها الوطنية وبناء الديمقراطية.

ومع ذلك فسيظل ما جرى في تونس طوال الفترة الماضية دليل نجاح وليس فشل، رغم إصرار البعض على اعتبار قرارات الرئيس سعيد دليل على “جمال الاستبداد” وعلى أن لا حل لمواجهة التحديات التي تقابل أي أمة إلا بالنظم الشمولية، فالقضاء على الإرهاب لن يكون إلا بالتعتيم والإجراءات الاستثنائية وملاحقة المتطرفين وأصحاب الرأي على السواء، وإن مواجهه الإسلام السياسي لن تكون إلا بإغلاق المجال العام، في حين أن ما جرى في تونس رغم مشاكلها الكثيرة لم يؤد إلى بناء نظام شمولي، ولا يمكن اعتبار المطالبة باستفتاء الشعب على تعديل الدستور والذهاب نحو نظام رئاسي هو نهاية تجربة الانتقال الديمقراطي.

والحقيقة أن رفض حركة النهضة وحلفائها المحليين والإقليميين لقرارات سعيد ووصفها بالانقلاب لم يختلف كثيرا عن بعض مؤيديها، فكلاهما حاول أن ينزع منها صفة الإصلاح وتعديل المسار الديمقراطي، فيقينا إجراءات الرجل استهدفت محاولات حركة النهضة السيطرة على مؤسسات الدولة، ومواجهة الشلل الذي أصاب النظام السياسي التونسي ليس بسبب أن الشعب غير مؤهل للديمقراطية ولا أن الأخيرة سيئة، إنما لأن الدستور التونسي اختار أن يؤسس لنظام سياسي “برأسين”، بالحتم سيتصارعا، وهو ما جرى في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي مع رئيس حكومته يوسف الشاهد، وتكرر مع الرئيس قيس سعيد ورئيس حكومته هشام المشيشي.

والحقيقة أنه للخروج من هذا المشهد استند الرئيس التونسي في قراراته الاستثنائية على الفصل 80 من الدستور، وهو ما كان محل جدل، إلا أنه لم يقل أن الدستور غير مهم أو تعامل معه على أنه غير موجود، كما أنه بعد فترة تردد طويلة اختار لأول مرة في تاريخ تونس رئيسة حكومة سيدة ومستقلة وهي نجلاء بودن، ولا تنتمي لأي حزب سياسي، وهو اختيار عكس تقديره المشروع بأن البلاد في حاجة إلي حكومة اختصاصيين وخبراء بعيدا عن الأحزاب وهي كانت نفس مطالب اللبنانيين والعراقيين وقطاع واسع من السودانيين، بأن تكون حكوماتهم من “الخبراء” ومن خارج الأحزاب وخاصة في الفترات الانتقالية ومع الأزمات السياسية الكبيرة.

وشهدت تونس مظاهرات أعلنت رفضها “لانقلاب سعيد”، وهتفوا فيها “الشعب يريد عزل الرئيس”، ولم نر واحد منهم يحمل سلاح مثلما فعل بعض عناصر الإخوان أثناء اعتصامي رابعة والنهضة، ولم تقبض الشرطة على المتظاهرين إنما أمنتهم وفصلتهم عن أنصار الرئيس حتى انتهت المظاهرة بسلام.

إجراءات قيس سعيد أضعفت حركة النهضة لأنه حزب سياسي، وشهدنا استقالة مائة عضو من قياداتها ونوابها اعتراضا على أدائها وتعاملها مع الأزمة، فقيس سعيد لا يستهدف إقصاء كامل للنهضة، ولا النظام السياسي التونسي ومسار الانتقال الديمقراطي يمكن أن يستأصلها بشكل كامل من الحياة السياسية لطبيعتها السياسية والحزبية ولكونها ليست تنظيم ديني عقائدي حتى لو انتمي بعض قادتها لتنظيم الإخوان، لكن أغلب أعضائها الحاليين هم ممن دخلوا الحركة إما إيمانا ببرنامجها السياسي أو رغبه في استخدام منصة حزبية للصعود السياسي سواء في داخل البرلمان أو المجالس المحلية.

ولذا لم يكن غريبا ألا نجد تحريض على العنف قامت به حركة النهضة، وأن المستقبل القريب سيشهد مزيد من الإضعاف للحركة حتى يخرج منها تيار “ما بعد الغنوشي” وتتجاوز إرث الإسلام السياسي وخاصة الإخواني لصالح بناء حزب سياسي مدني محافظ وجديد.

صحيح أن المواجهات الخشنة بين النهضة والرئيس تظل واردة، ولكنها لن تصل لحروب الميليشيات في ليبيا ولا مواجهات السودان بين المدنيين والعسكريين ولا حروب الإخوان ضد غالبية الشعب المصري منذ 30 يونيو.

حركة النهضة
حركة النهضة

المقارنات المغلوطة تجعلنا نتجاهل أن هناك عملية سياسية لم تقطع في تونس فهناك أربعة أحزاب مدنية منها حزب التيار الديمقراطي الذي أيد الرئيس في البداية، شكلت فيما بينها تنسيقية القوى الديمقراطية لرفض تفرد الرئيس بالسلطة واستمرار إدارة البلاد بالقوانين الاستثنائية، كما رفضت جميعها التحالف مع حركة النهضة، فهي تحاول أن تؤسس لتحالف مدني ديمقراطي معارض يختلف تماما في حساباته عن حسابات حركة النهضة.

في تونس لا يقتصر المشهد السياسي على الأحزاب السياسية “المأزومة” ولا على رئيس الجمهورية، إنما هناك أيضا نقابات قوية وعلى رأسها الاتحاد التونسي للشغل الذي لا يمكن أن يقارن بالاتحادات العمالية في معظم البلاد العربية التي تحولت إلى صورة مسخ من السلطة التنفيذية، فالاتحاد التونسي للشغل يعتبر من المؤيدين لخطوات الرئيس ومن معارضي حركة النهضة، ولكن لم يعطيه شيك على بياض فيكفي بيانه الذي أصدره عقب قرارات سعيد، حين أعلن دعمه المشروط له وقال بشكل واضح: “إنّ التدابير الاستثنائية التي اتّخذها رئيس الجمهورية كانت استجابة لمطالب شعبية وحلاّ أخيرا لتعقّد الأزمة التي تمرّ بها البلاد في غياب أيّ مؤشّر لحلول أخرى عمل كثيرون على إحباطها. ونذكّر بضرورة توفير كلّ الضمانات للحفاظ على المكتسبات المجتمعية وضمان الحقوق والحريات وفي مقدّمتها الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعية والنقابية المضمّنة في الدستور وتدعيم المسار الديمقراطي وتطويره بالاحتكام إلى الآليات الديمقراطية والتشاركية.

الاتحاد العام التونسي للشغل
الاتحاد العام التونسي للشغل

 

موقف الاتحاد التونسي للشغل مثل رسالة لكل من تيار النهضة وحلفائها الإقليمين الذين اعتبروا أن الديمقراطية تعني تفصيل نظام سياسي على مقاس حزبها وإخوانه وأنه لا توجد مشكلة في انهيار النظام الاقتصادي والصحي ورفض إصلاحات رئيس الجمهورية من أجل ضمان سيطرة النهضة وحلفاءها على البرلمان، وأيضا رسالة لدعاة الاستبداد الذين اعتبروا أن ليس مهما التمسك بالدستور والديمقراطية والحقوق الاقتصادية إنما فقط تأييد الرئيس.

يقينا مسار تونس يواجه مشكلات كثيرة ولا زال أمامه تحديات صعبة، ولكن أسوأ شيء هو أن يتم تقييمه بغرض وحيد: أن يقال إن الديمقراطية فشلت وأن الاستبداد هو الحل وأن قرارات قيس سعيد قضت على الحياة السياسية والديمقراطية، في حين ان أي مقارنة بين تجربه تونس وتجارب عربية أخرى لا تقول إن نجاحها مؤكد، ولا تقل إنها بلا مشاكل كبيرة إنما تقول إن سياقها ومسارها يختلف عن مسارات الشمولية والاستبداد، ولازالت قادرة على بناء الديمقراطية ودولة القانون.