يبدو أن قلعة الذهب الأبيض المصري يجرى ترميمها حاليًا، ليستعيد ملكها (القطن) عرشه عالميًا، زراعة وصناعة. تؤكد ذلك عدة مؤشرات، من بينها زيادة المساحة المزروعة قطنًا وإنعاش صناعة الغزل والنسيج، والتخطيط لحملة ترويج عالمية.
هذه العودة التي بدت ملامحها تظهر تدريجيًا، تذكرنا بثلاثة قرون من الزمن ارتبط اسم الفلاح المصري بزراعة القطن. ونسجت تلك السنوات خيوطًا ناعمة ومتينة بينهما، كنعومة لوزاته، ومتانة غزوله التي انسابت تتراقص بين أيادي العمال والعاملات داخل مصانع النسيج، شاهدة على مهارتهم وشقائهم. علاقة مصيرية، استمرت طويلاً، كان موسم جني الذهب الأبيض فيها لحظات سعادة الفلاحين النادرة، وملجأهم من الفقر.
هذه العلاقة تحولت من أحلام بسيطة لفقراء الريف، إلى حلم كبير بدولة زراعية/صناعية متقدمة. روجت لها مصر لسنوات، ظن الفلاحون خلالها أنهم مركز هذا الحلم ونقطة انطلاقه، قبل أن يفيقوا على واقع مر تخلت فيه الدولة شيئًا فشيء عنهم وعن الزراعات الاستراتيجية وعلى رأسها القطن.
فتراجعت المساحات المنزرعة بالقطن تدريجيًا لتتناقص إلى 180 ألف فدان العام الماضي 2020، (طبقًا للأرقام الحكومية). بعدما كانت 3 ملايين فدان خلال فترة الستينيات، مثلما تخلت عن صناعة الغزل والنسيج تاركة قلاعه العتيقة لسياسات الخصخصة والإغلاق.
خلال فترة المرض طوال السنوات الماضية، كانت التصريحات الحكومية تردد أرقامًا كبيرة عن المساحات المستهدف زراعتها بالقطن. في النهاية لا زيادة في المساحات المنزرعة ولا المحصول، بل تراجع شديد في كليهما.
لكن تغيرا كبيرا بدا وكأنه يحدث، ففي يوليو من العام الماضي 2020، أعلنت الحكومة عن توقيع عقد إنشاء مصنع للغزل والنسيج بمدينة المحلة الكبرى. قالت إنه الأكبر في الشرق الأوسط، بتكلفة 720 مليون جنيه، ويضم 182 ألف “مردن” غزل، قادرة على إنتاج 30 طن غزل يوميًا. على أن يبدأ إنتاجه خلال عام 2022.
تبنت وزارة قطاع الأعمال خطة شاملة لإحياء شركات القطن والغزل والنسيج التابعة لها، بتكلفة استثمارية تتجاوز 21 مليار جنيه. وهي الخطة التي أعدها الاستشاري العالمي (وارنر). مستهدفة زيادة الإنتاج من 22 ألف طن غزل إلى 188 ألف طن سنويًا.
كما أعلنت الوزارة عن تأسيس شركة لتسويق وبيع منتجات الغزل والنسيج والملابس المصرية، محليًا وعالميًا، برأسمال قدره 100 مليون جنيه. فيما يعد توجهًا تسويقيًا جديدًا من شأنه أن ينعش صناعة الغزل والنسيج المصرية.
لكن ماذا عن سياسات التوسع في زراعة القطن؟
في القطاع الزراعي بدا وكأن الحماس لزيادة إنتاجية القطن أقل من أن يتناسب مع الطموحات التصنيعية المعلن عنها. رغم ذلك كانت هناك خطوات تنبِّأ بتغير في السياسات الزراعية فيما يتعلق بمحصول القطن، كما هو متعلق بصناعة الغزل والنسيج.
القطن “قصير التيلة”.. الزراعة الواعدة
قبيل موسم زراعة القطن، كلف الرئيس عبد الفتاح السيسي مسؤولي وزارة الزراعة، بضرورة زراعة أصناف من قطن “قصير التيلة”. بغرض سد احتياجات مصانع الغزل والنسيج التي تستهلك نحو مليوني قنطار سنويًا، يتم استيرادها من الخارج، بتكلفة 1.2 مليار دولار. ورغم أنه لم يتم زراعة سوى مساحة 250 فدانًا فقط بشرق العوينات، إلا أن التجربة تبدو واعدة. فقد تداول عدد من وسائل الإعلام أنباء غير رسمية عن توقعات متخصصين في بحوث القطن بأن إنتاجية الفدان من القطن “قصير التيلة” وصلت لـ 15 قنطارًا. وهي إنتاجية كبيرة قياسًا بإنتاجية “طويل التيلة” التي تقوم مصر بزراعته، حيث تتراوح بين 7 إلى 9 قناطير للفدان.
ليس بديلاً لـ”طويل التيلة”
التجربة كما يرى مدير معهد بحوث القطن، هشام مسعد، “لا تزال تحت التقييم”. نافىا خلال مداخلة هاتفية لبرنامج “المواجهة” عبر فضائية “إكسترا نيوز” التحول من زراعة القطن طويل التيلة إلى قصير التيلة.
ذلك أن مصر مميزة بزراعة القطن طويل التيلة، وهي ميزة تحقق من ورائها عوائد اقتصادية كبيرة. كما أن التجربة هدفها سد احتياجات مصانع الغزل المصرية من الكميات التي نستوردها من الأصناف قصيرة التيلة. وليس استبدال زراعة أصناف من القطن بأخرى.
هشام مسعد: التجربة هدفها سد احتياجات مصانع الغزل المصرية من الكميات التي نستوردها من الأصناف قصيرة التيلة. وليس استبدال زراعة أصناف من القطن بأخرى
وهو ما يؤكده حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين، مستبعدًا أي تأثير لزراعة القطن “قصير التيلة” على مستقبل زراعة “طويل التيلة”. فالقطن المصري يتمتع بسمعة عالمية لا يضاهيه فيها إلا القطن الأمريكي (البيما) وليس من الطبيعي أن نجازف بخسارة هذه السمعة.
لكنه يلفت إلى ضرورة تحديد محافظات ومساحات بعينها لزراعة “قصير التيلة” حتى لا تختلط الأصناف. خاصة أنَّ بذوره تستورد من الخارج، ولا يجرى إنتاجها في معامل مركز البحوث الزراعية مثل القطن طويل التيلة.
السنوات المقبلة ستوضح جدية توجه الدولة لسد احتياجات المصانع المصرية من قطن “قصير التيلة” عبر التوسع في زراعته. وتوفير 1.2 مليار دولار قيمة استيراد احتياجاتها منه. أم أن “سماسرة الاستيراد”، كما يصفهم مدير إحدى شركات تجارة الأقطان، والذي تحدث إلينا رافضًا ذكر اسمه، سيحولون دون ذلك.
ارتفاع الأسعار وزيادة الإقبال على زراعة القطن
وزارة الزراعة قالت أيضًا إنها استطاعت تحقيق جزء كبير من مستهدفها لزراعة القطن هذا العام. وبلغت المساحة المنزرعة خلال الموسم الحالي 2021 أكثر من 236 ألف فدان بزيادة 55 ألف فدان عن الموسم الماضي. موفرة تقاوي عالية الإنتاجية ومبكرة ومقاومة للتغيرات المناخية.
يفسر المهندس الزراعي سعيد عبد الحليم إقبال الفلاحين على زراعة القطن هذا العام، بارتفاع أسعاره في نهاية الموسم الماضي 2020 إلى 3 آلاف جنيه. بعدما شهدت الأسعار انخفاضًا كبيرًا في بداية الموسم.
لكن الزيادة الكبيرة في الأسعار التي شهدتها آخر عمليات البيع بنظام المزايدة منذ أيام وصلت لـ4600 جنيه لأصناف جيزة 94 طويلة التيلة وفائقة الطول، في الوجه البحري. و3850 جنيهًا لأصناف جيزة 95 متوسطة الطول، في الوجه القبلي لم تكن متوقعة، كما يقول عبد الحليم والذي يعمل بإحدى شركات تجارة الأقطان، لـ”مصر 360″.
يضيف عبد الحليم أن زيادة الأسعار هذه، والتي جاءت مدفوعة بالظروف المناخية التي شهدتها العديد من مواطن زراعة القطن في العالم، ما أدى إلى انخفاض الإنتاج، ستدفع الفلاحين المصريين في العام المقبل إلى التوسع في الزراعة بنسبة قد تصل إلى الضعف.
سياسة الزراعة التعاقدية وشبح العزوف
الإقبال الكبير المتوقع من الفلاحين على زراعة القطن العام المقبل، دون صياغة سياسات زراعية مستقرة أمر خطير. كما يعتقد نقيب الفلاحين، حسين أبو صدام، فقد لا تستوعب احتياجات صناعة الغزل والنسيج المحلية والعالمية الزيادة الكبيرة في الإنتاج. كما أن تحديد الأسعار طبقًا لمتوسط الأسعار العالمية، [متوسط أسعار القطن الأمريكي طويل التيلة (بيما) مضافًا عليه سعر القطن قصير التيلة (أنديكس (A]، وغياب دعم زراعة القطن، قد يؤدي إلى خسائر فادحة للفلاحين ومزارعي القطن، إذا ما شهدت الأسعار انتكاسة.
الإقبال الكبير المتوقع خلال العام المقبل، قد ينقلب إذن إلى عزوف كبير في العام الذي يليه، كرد فعل للفلاحين. إذا ما تراجعت الأسعار بشكل يتسبب في خسائر كبيرة، هذه إحدى النتائج الحتمية لسياسات تحرير أسعار القطن المتبعة منذ التسعينيات.
نقيب الفلاحين: بدون سعر ضمان مسبق، يعطي للفلاح هامش ربح عادل لن تكون هناك استدامة زراعية ولا نمو مستقبلي متزايد لإنتاج القطن.
هذا ما يدفع الكثيرين ومنهم نقيب الفلاحين، إلى المطالبة بسرعة تطبيق قانون الزراعة التعاقدية على محصول القطن. يقول أبو صدام لـ”مصر 360″، إن تطبيق القانون على زراعة القطن يؤدي لزيادة المساحات واستقرار زراعة القطن. فبدون سعر ضمان مسبق، يعطي للفلاح هامش ربح عادل لن تكون هناك استدامة زراعية ولا نمو مستقبلي متزايد لإنتاج القطن.
ويرى أبو صدام أن هناك تراخيًا كبيراً من وزارة الزراعة في تطبيق القانون. حتى إنها لم تصدر لائحته التنفيذية حتى الآن رغم مرور 6 سنوات على إصداره، فلم يطبق القانون سوى على بعض الزراعات مثل فول الصويا والذرة الصفراء وعباد الشمس، وفي حدود ضيقة. كما يرى نقيب الفلاحين أن مركز الزراعات التعاقدية والمنوط به طبقًا للقانون إنجاز هذه المهام مهمش بشكل كبير.
القطن المصري في الصناعة المحلية
لطالما ظلت الأزمة هي لجوء معظم مصانع الغزل والنسيج المصرية إلى استيراد أصناف من القطن “قصير التيلة” نظرًا لانخفاض ثمنه. بينما عزفت عن شراء القطن المصري “طويل التيلة”، والذي يتم تصدير معظمه كمادة خامة إلى العديد من دول العالم. وهو ما أضر بزراعة القطن، كما قلّص عوائده والتي يمكن مضاعفتها إذا تم تصديره في صورة “غزول” ومنسوجات.
هل تستطيع الشركات المملوكة للدولة حل هذه المعضلة؟
يشير مدير معهد بحوث القطن، هشام مسعد، إلى تعاقد مصانع الشركة الوطنية للتنمية الصناعية، التابعة لجهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، والتي تم إنشاؤها حديثا في منطقة “الروبيكي” بمدينة بدر، على شراء 150 ألف قنطار قطن من وزارة الزراعة تمهيدًا لبدء تشغيل مصانعها.
وتضم الشركة الوطنية للتنمية الصناعية 9 مصانع على مساحة 850 ألف متر. تم الانتهاء من 6 مصانع، من بينها مصنع للغزل الرفيع، بطاقة إنتاجية 4.5 طن خيوط رفيعة يوميًا. ومصنع آخر للغزل السميك، بطاقة إنتاجية 9 أطنان من الخيوط السميكة يوميًا. وثالث لتحضيرات النسيج، بطاقة إنتاجية 60 ألف متر طولي يوميًا. وآخر للنسيج وهو المسؤول عن إنتاج الأقمشة بكافة أنواعها، بطاقة إنتاجية 30 ألف متر طولي يوميًا. ومصنعان آخران، أحدهما للتريكو الدائري بطاقة 10 أطنان قماش تريكو في اليوم. والآخر للصباغة والطباعة بطاقة إنتاجية 40 ألف متر أقمشة منسوجة في اليوم.
كما ذكر مسعد في مداخلته على فضائية “إكسترا نيوز” أن وزارة الزراعة من المقرر أن تورد 300 ألف قنطار قطن لمصنع المحلة (الأكبر في الشرق الأوسط) الذي سيفتتح العام المقبل 2022.
هذه خطوات جيدة ولكننا لا نستطيع أن نجزم بما يمكن أن تستوعب هذه الشركات من القطن المصري، وبالتالي مساهمتها في التوسع في زراعة القطن، إلا بعد بدء التشغيل ووصول إنتاجية المصانع للطاقة الإنتاجية المستهدفة.
استعادة العرش المفقود
استطاع القطن المصري منافسة مزارع القطن في أمريكا والهند. واستمرت مصر في تطوير قدراتها بمجال زراعة القطن، وسعت لتنميته فأسست الجمعية الزراعية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر. وأنشأت في عام 1913 قسم النباتات بوزارة الزراعة، وهو الأساس الأول لمركز البحوث الزراعية.
وفي أربعينيات القرن الماضي احتل القطن المكانة الأولى في الإنتاج الزراعي في مصر. وأنشأت العديد من مصانع الغزل والنسيج، والمحالج، ومع صعود ضباط يوليو إلى حكم البلاد، حرصت فترة عبد الناصر على الحفاظ على أهمية القطن كزراعة استراتيجية، وسلعة تصديرية. والأهم هو كونه مرتكزًا للصناعة المصرية في مجال الغزل النسيج، فتوسعت الدولة في إنشاء مصانع الغزل والنسيج. وبلغت الأراضي المنزرعة بالقطن 3 ملايين فدان خلال فترة الستينيات، ووصل الإنتاج إلى قرابة 11 مليون قنطار سنويًا. وأصبح القطن في المرتبة الأولى مساهمة في الاقتصاد المصري والناتج المحلي.
مع إنهاء العمل بسياسة الدورة الزراعية وتحرير سعر القطن، وتدهور صناعة الغزل والنسيج في ظل سياسات الخصخصة وبيع القطاع العام. عزف الفلاحون عن زراعة القطن وتدنت إنتاجيته، حتى أصبح في ذيل الزراعات المصرية.
الانتعاشة التي شهدتها أسعار القطن هذا العام، وزيادة المساحات المنزرعة، والتوقعات بمضاعفتها خلال العام المقبل، والبدء التجريبي بزراعة أصناف جديدة. لسد احتياجات المصانع بدلاً من الاستيراد، واتجاه الدولة لتنمية قطاع صناعة الغزل والنسيج بإنشاء مصانع عملاقةـ ما يعني استيعاب القطاع املايين العمال، وبوادر توجهها للاعتماد على القطن المصري في الصناعة، ورفض تصديره كمادة خام.
كل هذه معطيات ربما تضعنا على طريق استعادة القطن المصري، الذي كان جديرًا أن تتغنى به الحناجر وتعشقه أفئدة الفلاحين والعمال الفقراء. لاستعادة عرشه المفقود.