ربما يكون من اللافت والنادر معا أن تنعقد جلسة خاصة في الأمم المتحدة لدعم التحول الديمقراطي في السودان، يخاطبها الأمين العام للمنظمة الدولية، ويتفاعل معها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، متعهدا بصيانة التحول الديمقراطي، ويجدد تأكيده على الالتزام بالوثيقة الدستورية، وهو ما يعني أن يتم تسليم رئاسة المجلس السيادي السوداني أي (رئيس الجمهورية) إلى المكون المدني في نوفمبر المقبل.

ولم يكن هذا التطور ليحدث لولا انتباه وسرعة تحرك القوى السياسية السودانية التي تعرف طبقا للخبرة السياسية التاريخية مغزى الإعلان عن انقلاب سياسي فاشل، قبيل موعد تسليم رئاسة المجلس السيادي.

وقد دعم هذا الانتباه السياسي بالتأكيد دعم جماهيري نستطيع أن نقول عنه هذه المرة إنه متوسط القوة والوزن ولكنه نجح في توصيل رسائل ثلاثية الأبعاد لكل من المكون العسكري، وكذلك بقايا ومرتكزات نظام البشير، حيث بدا أن هناك دعما متبادلا بين المجتمع الدولي والمكون المدني السوداني بما ساهم في دعم أوزان الأخير في هذه المعركة الثالثة له من نوعها منذ اندلاع الثورة السودانية.

المجهود الأممي في دعم التحول الديمقراطي في السودان هو قمة جبل الثلج من دعم دولي واسع للحكومة السودانية، في أعقاب الإعلان عن المحاولة الانقلابية الفاشلة في ٢١ سبتمبر الماضي. حيث تحركت ببيان صدر عن الخارجية الأمريكية يدين المحاولة الانقلابية، وكان من اللافت في هذا البيان التحذير من التضليل الإعلامي الداخلي، وبدت العصا الأمريكية واضحة حين جرى الحديث عن أن الولايات المتحدة توجه مساعدات كبيرة حتى يتمكن السودان من تحقيق أهدافه… وستعمل على تعزيز هذا الدعم مع إحراز السودان للتقدم المستمر في عملية الانتقال الديمقراطي.

 

ما وراء زيارة الوفود الأوروبية؟

في هذا السياق، زار الخرطوم في توقيت واحد كل من جيفري فيلتمان، مبعوث الولايات المتحدة إلى القرن الأفريقي، وفلوكر بيرتس، رئيس بعثة الأمم المتحدة بالسودان “يونيتامس”.

ويمكن قراءة  تصريحات فيلتمان في الخرطوم بأنها إشارات مبطنة إلى إمكانية تخلي الولايات المتحدة عن السودان في أهم قضاياه الحرجة، وهي العودة إلى المنظومة الدولية، والاستقرار الداخلي المترتب على مسارات اتفاقات السلام، وكذلك الملف الاقتصادي، حيث دعا فيلتمان شركاء الانتقال إلى التعاون من أجل “سلاسة الانتقال ولبقاء السودان ضمن موقعه في المنظومة الدولية والتي وصل إليها بعد عمل مضن”.

وقال نصا “إن المحاولات الانقلابية تهدف إلى وقف التطور الذي يشهده السودان، وإعادة عقارب الساعة للوراء من حيث تطبيع العلاقات مع أمريكا،  ودورها في المؤسسات المالية والدولية.

فيلنتمان

ولعله يكون من المهم هنا الإشارة إلى قيام الكونجرس الأمريكي بتمرير قانون دعم الانتقال الديمقراطي في السودان، مع نهاية، ٢٠٢٠ وذلك بدعم واضح من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، حيث يلزم الكونجرس الخارجية الأمريكية بتفصيل سياستها وإجراءاتها في هذا السياق في مجالات دعم كل من حقوق الإنسان والشفافية، خصوصا على الصعيد الاقتصادي، كما يلزم هذا القانون الرئيس الأمريكي بتقديم تقرير فصلي عن مدى تقدم إدارته في هذه العملية، فضلا عن مجمل سياسات وإجراءات الدعم للفترة الانتقالية، والتحول الديمقراطي.

وفيما يخص الأمم المتحدة، فإنها قد عرضت من خلال بعثتها في السودان “يونيتامس” استعدادها لبلورة حوار بين شركاء الفترة الانتقالية بهدف وقف التصعيد السياسي والملاسنات الكلامية بين الأطراف. وربما تجيء اجتماعات رئيس البعثة الأممية مع كل من عضوي مجلس السيادة محمد الفكي سليمان، ومحمد حسن التعايشي مهمة في هذا الإطار، خصوصا وأن الفكي هو بطل الملاسنات مع قادة المنظومة العسكرية السودانية من دار لجنة إزالة التمكين والذين بادلوه تراشقا بتراشق .

باريس حضرت في المشهد السوداني بزيارة المبعوث الفرنسي للسودان وجنوب السودان جان ميشيل دوموند الذي اجتمع مع رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك، مؤكدا على دعم باريس لحكومة الانتقال، وقد فصل المبعوث الفرنسي الملفات الأساسية المطلوب إصلاحها إلى جانب حل الخلافات بين المكونين المدني والعسكري، وتمثلت في إصلاح الأوضاع الاقتصادية والمرتبطة “بتحسين أوضاع مواطني البلاد” حيث كان من اللافت الحديث الفرنسي على ضرورة الالتزام بالجداول الزمنية المهمة التي تشمل الإعداد للدستور، وإصلاح القطاع الأمني، فضلا عن ملفي السلام والإحصاء السكاني، حيث سيساهم الأخير في بلورة خرائط التمثيل السياسي وتوزيع الثروة والسلطة بالسودان.

على الصعيد الداخلي أسهمت المحاولة الانقلابية الفاشلة أيا ما كان مدى واقعيتها في ممارسة كل من تحالف القوى والتغيير محرك الثورة السودانية والمكون العسكري استثمارا للحدث لدعم وزن كل منهما إزاء الآخر، لكن ربما يكون من المؤكد أن تحركات كل فريق فتحت الباب للحديث عن سلبياته، وتقييم ممارساته السياسية، وهو ما جعل الحرية والتغيير في مرمى النيران من جانب الشارع السياسي السوداني، حيث تتم الدعوة حاليا إلى ضرورة تغيير هذا الوضع نحو تمثيل أكثر اتساعا لكل الأطراف، وبرزت في هذا السياق مجهودات رئيس الوزراء عبدلله حمدوك لإصلاح القوى الثورية ووحدتها.

اقرأ ايضا:

الخطاب السياسي السوداني بين الملامح والدور

الحزب الشيوعي السوداني

ويخرج عن هذا السرب الحزب الشيوعي السوداني الذي يتحرك بمعزل عن باقي القوى السياسية السودانية، ويمارس مزايدات سياسية لا تأخذ بعين الاعتبار تعقيد وتركيب المعادلات السياسية السودانية تحت مظلة التنوع الإثني والثقافي والثأر التاريخي بين المكونات السياسية، وربما هذا ما يفسر دعوة تجمع المهنيين للدعوة لفض الشراكة نهائيا مع المكون العسكري، حيث يسمي التفاعل معه “بشراكة الدم” ويشكل موقفه تحديا أساسيا.

أما على مستوى المكون العسكري فقد تم الحديث عن مدى هيمنته على صناعة القرار، واتهامه بممارسة تدخلات من شأنها إحداث انقسامات لبعض الحساسيات السياسية بهدف إضعافها، وكذلك بوجود انحياز له لفلول نظام البشير خصوصا مع نفي الفريق أول عبد الفتاح البرهان مسئولية هؤلاء الفلول عن الانقلاب العسكري، وذلك ردا على مقولات د. عبدلله حمدوك رئيس الوزراء بمسئولية النظام القديم عن القيام بالمحاولة الانقلابية .

إجمالا، من المتوقع أن يساهم المتغير الدولي في المشهد السوداني، حيث من المتوقع أن يعاد ترتيب المعادلات السياسية للأطراف الفاعلة ويؤثر ذلك على أوزانها وقدراتها خلال الفترة المقبلة، ولكن هذه الأوزان الجديدة لن تستقر إلا بشروط أهمها في تقديرنا:

أولا، أن يستطيع المكون المدني السوداني إنجاز مهمة تكوين تحالف سياسي عريض متوافق وصلب، بعد أن عانى تشرذما وانقسامات، وساهم ذلك بلا شك في تغول المكون العسكري على مجمل التوجهات الداخلية خلال العامين الماضيين، وكذلك فقد المكون المدني لدعم جماهيري كان كاسحا.

وثانيا، أن يقل الرهان للقوى السياسية السودانية على الدعم الجماهيري لها، خصوصا في ضوء أمرين: كون هذه الجماهير عفوية وغير منظمة بحكم ضخامتها، فضلا عن شطط يمارسه شباب النشطاء من لجان المقاومة أحيانا، والمنتسبين في غالبيتهم للحزب الشيوعي السوداني، وهي الحالة التي أصبحت محلا للشكوى من قطاعات من المواطنين السودانيين. فتقديرنا أن صعوبة الأوضاع الاقتصادية قد تجعل هذه الجماهير تشيطن الثورة ومنتسبيها في مرحلة ما، وهو ما يمكن أن تستفيد منه القوى الشمولية السودانية بمكونيها العسكري والمدني في مقبل الأيام.