من المفارقات المصرية العجيبة أن يتم اقتلاع آلاف الأشجار والتي يرجع تاريخ بعضها لأكثر من مائة عام وتدمير حدائق عامة ومتنفس للمواطنين في مختلف المدن المصرية وكأنها خطة ممنهجة لخنق الفقراء وزيادة تلوث المدن المصرية. وفي نفس الوقت نشاهد في العاصمة الإدارية الجديدة والتجمعات والكمبوند الجديدة أن العمارات محاطة بالمساحات الخضراء والبحيرات والمجاري المائية في ظل الفقر المائي الذي تعيشه مصر منذ سنوات.

بما يؤكد الانحيازات الاجتماعية التي تريد تحقيق أرباح ومكاسب من مشاريعها الجديدة بصرف النظر عن أضرارها البيئية وليزيد التلوث والأمراض المصاحبة له خاصة أمراض الجهاز التنفسي التي يعاني منها الفقراء وأطفالهم في المدن الملوثة بينما يعيش الأغنياء في مدن ذات أسوار ومليئة بالمساحات الخضراء.

ومع استمرار مذابح الأشجار وتحويل الحدائق العامة إلى أراضي بناء أو الاستيلاء على جزء منها لإقامة مطاعم ومقاهي ومحلات تجارية تعلن وزيرة البيئة في أبريل الماضي أن لجنة الطاقة والبيئة بالبرلمان وافقت على اتفاق قرض مع البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية بشأن مشروع إدارة تلوث الهواء وتغير المناخ في القاهرة الكبرى (فقط) بقيمة 200 مليون دولار (3 مليار جنيه) وأشارت إلى أن هذا القرض يأتي في إطار الخطة الطموحة لتطوير قطاع البيئة في مصر، والحد من انبعاثات ملوثات الهواء والاحتباس الحراري وتحسين إدارة المخلفات الصلبة، بما يحافظ على صحة المواطن وصون الموارد الطبيعية! وفي الوقت الذي تستمر فيه مذابح الأشجار تعلن وزارة البيئة عن إنشاء حزام أخضر حول القاهرة بطول 100 كيلو متر. أي منطق يبرر قطع الأشجار المزروعة والمعمرة ثم البحث عن تمويل لزراعة حزام أخضر، لنسأل من الذي دمر المساحات الخضراء ولمصلحة من؟!

نماذج متعددة لمذابح الأشجار

متر مربع نصيب المواطن المصري من المساحات الخضراء بدلا من 15 مترا في المتوسط العالمي. تمتد مذابح الأشجار بدعوي بناء شبكة طرق من محاور و«كباري»، وكان أبرز مثال في المهندسين ثم في حي مصر الجديدة، وقد يكون لتنفيذ مشروع قومي، كما يحدث في مشروع تبطين الترع والمصارف، الذي استدعى تنفيذه إزالة كل الأشجار التي تحوط جانبيها.

لكن في أحيان أخرى تكون الأسباب غامضة، كأن يتم قطع الأشجار في أحياء سكنية هادئة غير كثيفة السكان كما في مدينة 6 أكتوبر أو القاهرة الجديدة أو كما حدث في محور الجزائر بالمعادي، أو قد يتم التعلل بأسباب غريبة، كما حدث في أراضي مصنع شركة مصر للغزل والنسيج في كفر الدوار، إذ برر رئيس مجلس إدارة الشركة إزالة الأشجار الكبيرة المعمرة في مذكرة رسمية بناء على شكوى لأحد المواطنين، قالت فيها إن الطيور التي تستوطن تلك الأشجار، مصدر لنقل عدوى كورونا، وأن معظمها تتسبب في إحداث حرائق!

أحمد الصعيدي المحامي المتخصص في قضايا البيئة أقام دعوى أمام القضاء الإداري في إبريل 2020 تطعن على القرار السلبى بامتناع المسئولين المختصين عن إصدار قرار بوقف قطع الأشجار وإزالة الحدائق العامة إلا بعد إجراء دراسة لتقييم الأثر البيئي الناجم. يقول الصعيدي: “في مصر الجديدة وحدها أزيل ما مساحته 90 فدانا من المساحات الخضراء بما يقرب من 2500 شجرة، منها أشجار عتيقة، بالإضافة إلى مناطق أخرى كجسر السويس ومدينة نصر والعجوزة والحلمية وبعض محافظات الصعيد، وهو ما ينجم عنه ما يسمى بـ «التدهور البيئي» من نقص في نسبة الأكسجين وتزايد انبعاثات السيارات”.

يتابع الصعيدي: “وفقا للقانون فإن أي شخص طبيعي أو اعتباري يلتزم بتقديم دراسة تقويم الأثر البيئي لمنشأته أو لمشروعه إلى الجهة الإدارية مانحة الترخيص قبل البدء في تنفيذ المشروع وفقا للمواصفات التي يحددها جهاز شئون البيئة، ليراجعها ويبدى فيها رأيه، وبإمكانه إلزام مقدم الدراسة بتعديل ما جاء فيها لتلافى أضرار المشروع البيئية. وعندما خاطبت المحكمة الجهاز إذا ما عرضت عليه أي دراسة لاستيفاء الاشتراطات البيئية، كان رده بالنفي». (جريدة الأهرام – إعدام شجرة!!متر مربع نصيب المواطن من المساحات الخضراء بدلا من 15 مترا هو المتوسط العالمى – 26 مايو 2021).

يمتد العدوان من حدائق الميريلاند في مصر الجديدة التي تزيد مساحتها على 45 فدان إلى المنصورة حيث أعلنت مؤسسة تطوير الدقهلية والتي تضم العديد من الشخصيات العامة من أبناء المحافظة رفضها لمشروع إنشاء 50 محلًا بطول سور حديقة شجرة الدر بمدينة المنصورة، والذي بدأت محافظة الدقهلية في تنفيذه، وأكدت أنها المتنفس الوحيد للغلابة من أبناء المحافظة على النيل. ويظل التنمر علي أرض حديقة الحيوان بالجيزة التي أمر بإنشائها الخديوي إسماعيل، كحديقة نباتية تحتوي على أندر النباتات من شتى بقاع الأرض. تبلغ مساحة الحديقة نحو 80 فدانا.

ويصل العدوان إلى حديقة الأسماك في الزمالك التي قام ببنائها الخديوي إسماعيل عام 1867 على مساحة تقدر بتسعة أفدنة ونصف واعتبرت أنها من أجمل الحدائق على مستوى العالم، وكانت مسجلة ضمن المباني الأثرية وأخيراً تم صدور قرار من هيئة الآثار باستثناء الجبلاية فقط كأثر تاريخي ليتم تحويل جزء كبير من مساحة الحديقة الي مطاعم ومقاهي ومحلات تجارية في إطار خطة تدمير المساحات الخضراء وزيادة تلوث الهواء.

حديقة الميرلاند- أرشيفية

الدراسات العلمية وتلوث الهواء

دراسة المھندس ثابت على حول مساھمة الخضرة في الحد من التلوث وتعديل مكونات الھواء تقول “تعتبـــر الأشـــجار والمســـاحات الخضـــراء في المنتزهـــات والحـــدائق العامـــة والخاصـــةً الموجـودة بالمدينـة وحولهـا – تعتبـر رئـات المدينـة – فالأشـجار والنباتـات عمومـا تحـرر نهـارا كميات هائلة من الأوكسجين تساهم في تعديل مكونـات الهـواء لصـالح الإنسـان، حيـث ظهـر أن بإمكان كيلو متر واحد من الأشجار أن يحرر بين طن واحد إلى ثلاثة أطنان من الأكسـجين في اليوم الواحد. وتقوم الأوراق الخضراء بامتصاص ثاني أكسـيد الكربـون وتسـتخدمه في عمليـات التمثيل الضوئي وانطلاق الأكسـجين لتعـويض مـا تسـتهلكه الكائنـات الحيـة والسـيارات وعمليـات الاحتراق المختلفة. وتقول الدراسات أن الشجرة الواحدة يمكنهـا امتصـاص مـا تطلقـه سـيارة ذات ماكينة احتراق داخلي تسـير ٢٥٠٠ كـم في السـنة.

كما تفيد دراسة بريطانية-مصرية مشتركة بأن سائقي السيارات في القاهرة الكبرى يتعرضون لمستويات خطيرة من تلوث الهواء، مشيرةً إلى أنه “يعتقد أن تلوث الهواء يتسبب في 10% من الوفيات المبكرة في مصر”.

كما أعد جهاز شئون البيئة دراسة أخرى بتمويل من “الهيئة الأوروبية للعلوم والتكنولوجيا”. وذلك باستخدام نتائج تصوير الأقمار الصناعية ولمدة ممتدة من 1999 إلى 2018 وشملت القاهرة والدلتا. فيما يتعلق بتركيز المواد الجزيئية، شهدت القاهرة في عام 2007 ما جرى وصفه بأنه “الهواء الأسوأ في العالم”؛ إذ تم تسجيل حوادث تلوُّث هواء متكررة في القاهرة، في حين يعاني أكثر من 20 مليون من سكان القاهرة والدلتا من المخاطر الصحية التي تصيب الرئتين بشدة؛ بسبب الغبار والسناج والجسيمات العالقة، وفق نتائج الدراسة.

يقول الخبير البيئي الدكتور أحمد كامل حجازي أستاذ علوم البيئة بجامعة القاهرة، أن الدراسة تم إجراؤها على أشجار شوارع القاهرة على مدار عام كامل خلال فصول السنة الأربعة وتوصلت الدراسة لكثير من النتائج غاية في الأهمية، تؤكد  أن للأشجار أهمية قصوى بالنسبة للقاهرة، ومن هنا جاء التركيز عليها بدراسات دقيقة للغاية أكدت نتائجها أن شجرة واحدة متوسطة الحجم تمتص يومياً نحو كيلو ونصف الكيلو جرام من غاز ثاني أكسيد الكربون، سيارة واحدة وبحالة جيدة تسير مسافة 50 كيلو مترا داخل شوارع القاهرة المزدحمة ينتج عنها 12 كيلو جراما من عادم ثاني أكسيد الكربون بالإضافة للعوادم الأخرى، وهذا يعنى أنه من أجل إحداث التوازن والتخلص من ثاني أكسيد الكربون المنبعث من السيارات يلزم زراعة ثماني أشجار مقابل سيارة واحدة متوسطة الحجم تسير فى شوارع القاهرة ،وهنا يطرح السؤال الأهم وهو كم سيارة تسير في شوارع القاهرة؟ وكم شجرة مزروعة في هذه العاصمة المزدحمة؟ وكم شجرة تم إزالتها في السنوات الأخيرة؟ (يوجد 1.5 مليون سيارة مرخصة في القاهرة بخلاف السيارات المرخصة خارج القاهرة وتعمل في القاهرة وبخلاف المتوسيكلات والتكاتك والمصانع ولو طبقنا نتائج الدراسة فالقاهرة تحتاج إلى 12 مليون شجرة لمواجهة عادم السيارات فقط).

1.5 مليون سيارة مرخصة في القاهرة- صورة أرشيفية

وعن أهم الأرقام الأخرى التي أسفرت عنها نتائج الدراسة، قال الدكتور أحمد حجازي: الشجرة الواحدة تنتج يومياً 140 لتراً من الأكسجين وهذا يعنى أنه يستلزم ضرورة وجود مساحات خضراء شاسعة في المدينة وبما يعادل 25 مترا مربعا لكل فرد، وهذه المساحة سواء كانت في حدائق عامة أو أشجار شوارع أو أحزمة خضراء حول المدينة وأنه يمكن توفير مياه الري لها من معالجة مياه الصرف الصحي، في ذات الوقت تجريم قطع الأشجار الجائر، وأن تكون هناك مشروعات قومية تتبناها الحكومة والمجتمع المدني والمدارس والجامعات وكافة المواطنين لزيادة المساحات الخضراء والأشجار.

اقرأ ايضا

القوانين وحدها لا تكفي: قطع الأشجار يحرمنا من “الرئة الخضراء”

وفقاً للمعدلات العالمية والتي تختلف من دولة لأخرى حسب الموقع والطبيعة الجغرافية للدولة، من المفترض أن يتوافر لكل 5000 نسمة “أي المتواجدون مثلا على مستوى حي أو مجاورة واحدة” 3000 متر مربع مساحات خضراء، وهي المعدلات المتوسطة التي تنطبق على الطبيعة الجغرافية لمصر.  بتطبيق المعدل المذكور على عدد سكان مصر، نحتاج لأن يكون متوافرا لدينا نحو 58 مليون متر مربع من الحدائق والمنتزهات، غير أن المساحات الموجودة بالفعل والتي رصدها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء صادمة وبعيدة تماما عن المساحة الواجب توافرها على مستوى الجمهورية.

تمثل المساحات الخضراء الموجودة بالفعل في مصر أقل من 10% من المساحات الواجب توافرها لعدد سكان مصر الحالي. وإذا حاولنا تركيز الاهتمام بشكل أكبر على النواحي البيئية، سنجد أن الدور الذي تلعبه المساحات الخضراء في هذا الأمر في غاية الأهمية، خاصة في دولة ترتفع نسبة التلوث بها وتعتبر من أكثر الدول تلوثا في العالم كمصر، بحسب تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية عام 2016، إذ كشف التقرير آنذاك تخطى نسب التلوث في مصر المؤشرات الدولية بمعدل 7 أضعاف، وذلك نتيجة لكثرة المخلفات وعوادم المصانع والسيارات وغيرها من ملوثات البيئة، كما تحتل محافظة القاهرة المركز الـ 34 في قائمة “أكثر مدن العالم تلوثاً”.

لا يوجد في مصر سوى 1800 منتزه وحديقة سواء تلك التي لها رسم دخول أو بالمجان، هذا بخلاف حديقتي “الحيوان والأسماك” المعروفتين، ويبلغ إجمالي مساحة هذه الحدائق والمنتزهات بما فيهم “الحيوان والأسماك”، 5.370 مليون متر مربع. والصادم أكثر في أرقام “الإحصاء” وجود محافظات مصرية لا تتجاوز عدد الحدائق والمنتزهات بها 20 حديقة، كمحافظة الجيزة التي لا يوجد بها سوى 12 حديقة فقط، وقنا والفيوم 17 حديقة بكل منهما، ومحافظة الأقصر 12 حديقة، و3 فقط بمطروح.

من غير المبرر تدمير الحدائق العامة لصالح مشروعات تجارية وعقارية وخنق رئات التنفس في المدن المصرية. ومن غير المبرر اقتلاع الأشجار وبعضها معمر ثم زراعة أشجار جديدة أو الاقتراض لزراعة أشجار جديدة. فذلك منطق فاسد ولو حسبنا تكلفة الرعاية الصحية المترتبة على تلوث الهواء في مصر سنجد أن الدولة الفقيرة تبدد مواردها المحدودة وتدمر ثرواتها الطبيعية لصالح حفنة من المقاولين وتجار العقار. لذلك على المجتمع المدني بكل أطيافه التصدي لخطط تجريف المدن المصرية وخنقها. عايزين نتنفس.