سجن النسا.. المشهد صفر

للمكان هيبته، وللموقف رهبته. أما جسدي فكان عليه أن يتحمل الأصفاد الحديدية في يدي والألم أسفل بطني من جراء النزيف ومشكلتي الصحية والمشوار الطويل في رحلتي من الإسكندرية إلى سجن القناطر للنساء.

كان يرافقني في رحلتي الإجبارية إحدى الزميلات في قضية سياسية مماثلة، وكان لكل منا حملها المختلف ومساحة مشتركة من العناء تربط معصم يدي بيدها طيلة المشوار.

وصلنا إلى الساحة الخارجية للسجن، في ليلة من شهر أغسطس للمرة الأولى. نادى مسؤول المأمورية من الخارج “معايا سياسي”، خرج أحد الحراس يسأل عن أسامينا. كان اسمي للمرة الأولى ينطق في هذا المكان الذي علمت أن جزءا من قدري مرتبط به.

نزلت القوة الأمنية بأسلحتها الآلية من الموكب الحراسة الضخم المرافق لنا في مشهد يثير الضحك لتنافره مع “المتهمتين” الكاتبة الصحفية والمترجمة اللاتي نحلت التجربة أجسادهن وتطايرت شعورهن من الرحلة المتعبة التي وصلت بهن في الثلاثين من عمرهن لسجن النساء.

وجوه ملثم بعضها في ملابس ثقيلة تزيدهم تعبا وحنقا يظهر في أصواتهن المختنقة، وبعضها مكشوف يفضح نظرات ذاهلة متعجبة وقطرات العرق على أجسادهن متساوية تتوارى خلف -البدلة الميري بكل زينتها- سواء الأجساد الهزيلة من العساكر أو الرياضية من الضباط.

بدأ هذا اليوم في الساعة السادسة صباحا، نحضر شنطنا بها ملابس بيضاء وحاجات تكفي لفترة متوقعة نقضيها بالسجن ولا نعلم هل سيكون مسموح لنا بزيارات بشكل سلس أم لا وما ستكون شروط احتجازنا بغض النظر عن مدى معرفتنا بحقوقنا القانونية ولوائح السجن من عدمها.

نلملم حاجاتنا ونتوجه بالمأمورية الخاصة بقضيتين “إرهاب” إلى نيابة أمن الدولة بالتجمع الخامس من مكان احتجازنا بمديرية أمن الإسكندرية، نصل للنيابة في حوالي الساعة الحادية عشر صباحا، يتم اصطحابنا إلى “الحبسخانة” وهي أسفل المبنى بجوار “جراج” السيارات، نتجاوز سيارات “البشوات” -كما يصفونها- ليتم وضعنا في حجز قضبانه حديدية تطل على عشرات -أحيانا مئات- الرجال من الحرس والمساجين الجنائيين من مختلف القضايا، بلا شبابيك ولا مروحة ولا أي منفذ هواء، ننتظر تجديد قرار حبسنا على الورق نحن السياسيات المتهمات في قضايا الإرهاب في قفص مساحته حوالي 5 متر مربع نزاحم فيه الصراصير والذباب.

ساعات ثم نتوجه إلى سجن القناطر للنساء في رحلة قصيرة متعبة في أرض غير ممهدة بسيارة حديدية مقاعدها وأرضها بلا مساند من التجمع الخامس إلى القناطر الخيرية. لعلهم يقبلون إيداعنا، (تلك كانت المرة الأولى للمحاولة. تلتها بالنسبة لي 6 محاولات فاشلة حتى قرروا إيداعي فعلا). في حال فشل إيداعنا نعود مرة أخرى من القناطر الخيرية إلى مديرية أمن الإسكندرية، لنصل مرة أخرى لزنزانة انفرادية طولها متران وعرضها متر ونصف في حوالي الساعة الواحدة صباحا. وبعد 15 يوما نعود لنفس الرحلة حتى مرت بالنسبة لي فترة 150 يوما كاملة على هذه الحالة. (قضيت آخر 45 يوما فيها وحدي بعد إيداع كافة السجينات السياسيات السجن دوني).

وصلنا في تلك اللية إلى باحة السجن للمرة الأولى. هيبة المكان في تاريخه وبمن شهقوا فيه العفن وزفروا به الحياة.

تلك الشجرة الوارفة القديمة قدم هذا الحزن المزروع في قلبي ويلمع في عيني رغم ضحكتي وصوتي العالي ونكات ألقيها لا تهدأ، ثم أسكت حينا وينقلب ضحكي غضبا وأنتفض لنفسي وللقانون ويعلو صوتي كأوراق تلك الشجرة في مدخل السجن تحمل جذورا راسخة في تلك الأرض وتشهد على الزمن هي نفسها الشجرة التي وصفتها لطيفة الزيات في كتابها “حملة تفتيش: أوراق شخصية”.

نفس الشجرة، نفس المدخل. نفس الموقف. هل التاريخ يعيد نفسه أم البشر يعيدون أخطاءهم؟

في يوم تم قبولي، كنا في أول شهر أكتوبر عام 2020، أول ما صادفني كان أصوات عالية لنساء يضحكن ويزغردن، طمأنني صهيل أصواتهن، كنت بلا شك خائفة برغم كل ما أظهرته من رباطة جأش.

للموقف رهبته. دخلت السجن في الساعة الثانية صباحا، كان هناك عدد من المخبرين وضعت حقائبي بجوارهم، وحضرت سجانة في ملابس البيت -حرفيا- قد ارتدت عباءة منزل بأكمام طويلة وغطاء أسود لرأسها وطلبت مني بأدب الانتظار جانبا، وجاء الضابط النبطشي يرتدي -ترنج رياضي وشبشب- في البداية توجه للتحدث معي سائلا عن -المتهمة- التي أحضرناها معنا -كان يظن أني أحد أفراد المأمورية- وحينما رفعت يدي بالكلابش الحديدي وأنا أضحك، تبسم خجلا وابتعد خطوات ونادى على السجانة ليسألها عن أمر ما. وسمعت ردها الهامس: “سياسة يا باشا، صحفية بيقولوا”. ولم يتحدث معي مرة أخرى.

جلست على مقعد خشبي لحين إتمام الإجراءات، حتى حضر أحد المخبرين ليسألني عن عملي ككاتبة صحفية في أي جرائد أو مواقع، ثم تركني وأكمل حديثه على الهاتف، ثم اقترب مني وهو يقول لمحدثه المجهول: “الإيراد العادي يا باشا؟.. تمام تمام أوامرك” واقترب ونادى على السجانة ذات العباءة.. أتت بوجه يحمل جمال الريف المصري ولفحة شمس العمل الشاق وعيون ناعسة متعبة وقال لها “تمام هتدخل”.

أخرجت الملابس البيضاء التي أحضرتها معي من حقيبتي وتركت الحقائب معهم للتفتيش.

سجون النساء في مصر

توجهت بصحبة السجانة إلى غرفة صغيرة تبدو كمخزن للشنط وطلبت مني خلع ملابسي “الملكية” وارتداء ملابسي البيضاء، قلت لها إني لن أخلع ملابسي بالكامل أمامها وتستطيع أن تحضر جهاز كشف المعادن لتفتيشي لأني لن أتركها تلمس جسدي، قالت بأدب شديد وإحراج باد: “مش شغال والله الجهاز.. منه لله اللى حطك وحطني في الموقف ده، متخافيش غيري هدومك ومش هبص “استدارت وغيرت بالفعل ملابسي وطلبت فقط مني أن أرفع حمالة صدري من تحت الملابس للتأكد من خلوها من الممنوعات (معدن أو هاتف أو ورقة أو أدوية ممنوعة ومخدرات)، ثم مدت يدها من فوق ملابسي على جانبي جسدي وطلبت مني فك رباط شعري ومررت أصابعها به، وخلع حذائي وارتداء “الشبشب” الذي كنت أحضرته أيضا معي. كل هذا كانت تفعله وهي في حرج شديد واضح أشد من تذمري من الموقف برمته ثم قالت لي “متقوليش والنبي لحد اتفتشتي إزاي علشان محدش يضرني” طمأنت خوفها بالرغم من انعكاس الموقف وتبسمت وقال لي “أحلى حاجة إنك هادية ومتماسكة مشوفتش حد داخل كده” قلت لها “إن الله له الكلمة علي وحده، وأنا هنا بسبب الكلمة وهي لله”.

تجربتي في التفتيش الأول لم تكن هي مثال التفتيش الحقيقي لدخول السجن، فقد كان لي تجارب تفتيش أخرى كانت تعج بالانتهاكات لجسدي ولحقوقي سأرويها لاحقا، فقد كان لطف من الله مرور تلك اللحظات بهذا الشكل. حينما دخلت الإيراد سمعت من إحداهن قصة التفتيش الخاصة بها وهي ترتعش وتبكي على أثرها وكانت متهمة في قضية مخدرات ولازالت قيد التحقيقات قالت إن السجانة أصرت على خلع كافة ملابسها حتى الهدوم الداخلية أمامها، وارتدت جلباب السجن الأبيض الذي يشف جسدها ثم وجدتها تضع جوانتي في يدها وتأمرها برفع جلبابها وكشف منطقتها الخاصة لتفتيش عنق الرحم، بكت وارتعشت ونطقت رافضة للمرة الأولى منذ دخولها، فانسحبت يد السجانة عنها وقالت لها أن تقف وتجلس عدة مرات لتتأكد من أنها “مش رافعة حاجة” وحينما فعلت هذا أحضرت لها جردل وقالت لها أن تفرغ فيه حاجتها وإلا ستظل في هذه الغرفة حتى تفتشها بيدها، فعلتها ولم تستطع خلال أيام الإيراد تجاوز أبدا أنها فعلتها. وكانت تقص قصتها وتؤكد أنها بريئة وستظهر المحكمة براءتها لكن كيف تنسى ما حدث. كانت تحكي وتسألني -لأنه كان هناك تصور ما أنني “فاهمه قانون”- هل هذا قانوني؟

أنهت التفتيش. وتوجهنا صوب الإيراد. لنبدأ المشهد الأول من داخل سجن القناطر للنساء.

للمكان هيبته وللموقف رهبته. وليس كل المسجونات فيه يتساوى أو يتشابه عندهم الموقف، في كل تفصيلة يختلف السجين السياسي عن الجنائي، ويتفرق أيضا السياسي لشُعَبْ وعلى حسب عدة عوامل مختلفة بعضها يجعلك تتجاوز الموقف بشكل أقل ألما أو يجعلك تنغمس حتى يتوقف نفسك فيه غرقا، وكذلك الجنائي يختلف التعامل معه على حسب عوامل مختلفة. فما نحكيه هو ما رأيناه وعرفناه، وهو جزء وليس كل، وهو ما حدث للبعض وليس ما يحدث للكل. فالتفاصيل كلها التي سنوردها تختلف من شاهد لآخر. أما الثابت الوحيد ربما في سجن القناطر للنساء كان بالنسبة لي هو الزمن.

هذا المكان الذي يتوقف فيه الزمن فتظل تشهق العفن وتزفر الحياة آلاف المرات فيه.